الممارسات الكتابية في مواجهة الواقع
حيوات متخيلة بين الحياة والموت
عن رواية حانة رقم 2 للشاعرة والروائية ليلى عيد
بيروت من ليندا نصار
تربط الأديبة ليلى عيد الكتابة بالسعادة التي تعدّ وسيلتها الوحيدة للخلاص وتبحث عن أوجهها المفقودة التي ضاعت في عوالما المنظورة. تقول الكاتبة عن الكتابة وعلاقتها بالسعادة: “لا أعود أجدها إلا على هيئة زئبق يفلت مني بسرعة كلما حاولت الإمساك به. لا يبقى أمامي سوى الكتابة لأحاصر تلك الأوجه، لأطيل عمر سعادات هاربة أو أوهامها. طريقة لاستحضار جثثها النضرة في ذاكرتي، وجمعها كأزهار نادرة في إناء غريب عجيب هو مجرد سطور”.
وتسعى المرأة في اتجاه تحرير أنوثتها من خلال إثبات وجودها كذات لها الحق في إبداء الرأي وطرح مواقف انطلاقًا من تجارب خاصة عاشتها لتحصل على الأسبقية في عرض أفكارها باحثة عن نوع من السعادة المشتهاة من خلال الكتابة .
“لم يتسنَّ لي يوماً التقاط صورة واحدة للسعادة، تحديدها، أو وضعها في إطار. خيال ذاكرتي لا يساعدني، مهما تجلّى طيفها، للقبض عليها. لا يعود شيء يفي بهذا الغرض. فأحاول أن أكتب عن بضعة من تلك الأوجه من السعادة، التي تزورني مرات، وأرغب بكل جوارحي أن تبقى.” (ص 57)
تتشكل رواية “حانة رقم 2” (دار الآداب) للأديبة ليلى عيد، من خلال رسم عوالم الشخصيات التي تبني علاقاتها ببعضها البعض وسط مؤثرات داخلية وخارجية تؤسس لواقع يعتمد على الذاكرة والاسترجاع. كل ذلك كي يتمكن القارئ من بناء توقعاته الخاصة عبر التفكير بالممكن والمستحيل في آن. ويعتبر أمبرتو إيكو في كتابه “تأملات في السرد الروائي” (ترجمة سعيد بنكيراد – المركز الثقافي العربي)… أن الأمر يتعلق بتحدي طبيعة الروابط بين عالم تعرفه وتحس داخله بالضيق والقسوة، وبين عوالم تخييلية متحركة ومتغيرة تمنحنا اللذة والراحة النفسية، فمن خلال هذا الرابط يستطيع السرد تحويل عوالم تخييلية إلى حقائق لا يشكك بها أحد…
العنوان والفضاء المكاني
للعنوان “حانة رقم 2” علاقة بأحداث الرواية ومشاهدها المتنقلة بين شخصيتي الرجل والمرأة، لكنه يبقى مبهمًا غامضًا في معظمها ليرتبط أخيرًا بنهايتها حيث يتكشف الفضاء المكاني (الحانة) التي دار فيها الحديث بين هاتين الشخصيتين.
ويدعو العنوان أيضًا إلى التفكير بدلالة المكان خصوصًا وأن المرأة المتمثلة بضمير الغائب (هي)، تبدأ الحديث عن جثث متراكمة فوق بعضها البعض في مكان غريب: الثلاجات المخصصة للأموات، ما يوحي بارتباط المكان بحالتي الوعي واللاوعي والتجمّد الذي يسيطر على كامل الإنسان بينما ذاكرته تشتغل.
سردية الواقع والمتخيل، بين الحياة والموت
في الرواية تناقض بين حالة المرأة التي تزوجت ولم توفق في حياتها الزوجية: المضي قدمًا، وحالة الرجل الذي يبغي الاستسلام بعد أن عاش علاقات مفتوحة مع النساء. وهنا بثت الكاتبة عنصر التشويق الجاذب والذي يدعو إلى متابعة القراءة. وعلى طول خط الرواية يبدو الاتفاق مفقود بين الاثنين (هو وهي) إذ يبدأ الاختلاف بين الذكورة والأنوثة، وتشي الأحداث والسلوكيات والمواقف بهذه النتيجة.
تبدأ أحداث الرواية في سردية تضع القارئ بين الواقع والخيال، بين الواقع والحلم ويتأتّى ذلك من الشخصية الأولى، “الجثّة الملقاة” :
“كان لا يزال بي رمق، لم ينتبه المسعفون حين رموا بي في مكان تكدست فيه الجثث. لم أكن قادرة على الكلام، وكان الوقت ظلامًا. لم يلحظ أحد أنّ عيني تتحركان. صار من المستحيل أن يدركوا أيضًا أنني أتنفس ولو ببطء، أن صدري يعلو ويهبط بوضوح بعد أن وضعوا فوقي جثة أخرى…”
أمام هذا الواقع البصري، وجدت المرأة نفسها محاصرة برجل سيحرمها فرصة البقاء على قيد الحياة.
تنطلق الرواية من نقطة سلبية إلى أخرى إيجابية إذ تحاول المرأة أن تستخدم الرجل لتنقذ نفسها ولتكتشف من حرارة التنفس إذ أن الجثة الأخرى ما زالت على قيد الحياة أيضًا. وتتسارع أحداث الرواية ويبدأ الحكي على لسان “هي” و “هو” في فصول تتبدى على شكل رسائل أو اعترافات تتأتى من مراحل اقترن فيها الزمن بالألم والحياة في آن.
في دراسة الرواية العربية تعتبر الناقدة والأكاديمية اللبنانية يمنى العيد، أن هناك علاقة بين المروي بالمرجع الحي أي بالمعيش. فما نقوله هو حكايتنا – المرجع الحي الذي يستدعي تشكلها الدلالي ونطقها اللغوي، وكيف نقوله هنا بينة الخطاب الروائي أو التلازم بين المسألتين. وهذا ما ننتبه إليه في قراءتنا رواية “حانة رقم 2”
تساؤلات كثيرة جعلت من المرأة في حيرة من أمرها إذ تسأل: ” لا أعلم شيئًا عن المكان، كيف وصلته أو لماذا أنا موجودة فيه. قد يكون السبب حادث سيارة، رصاصة في حنجرتي تفسر عجزي عن النطق، وشعوري بأن شيئًا كالغصة عالق بها.”
هذه التساؤلات الوجودية للمرأة التي دخلت في عملية إقصاء طوعية عن هذه الحياة، دفعتها، في غياب السبب وفي عيش حالة العجز والحيرة إثر اتخاذ القرارات، إلى عالم من الفراغ والعبث بين الوجود واللاوجود، أو بين زمان ومكان غير محددين بحيث راحت “الجثة” تقنع نفسها بأن هذه هي حال الجثث ربما كثيرة الحياة قبل أن تدفن.
هو: “لست متأكدا من قدرتي على الكلام مثلها أو معها حتى. لست مهتما بذلك على الإطلاق على العكس، أريد التأكد من أني صرت صامتا تمامًا ومعطلاً بشكل نهائي. من قال إنني مهتم بسماع أخبارها؟ لكن أثارت شكوكي تلك الغبية، ماذا لو لم نمت بالفعل وأننا في مصح للأمراض العقلية. هي تهذي كالمجانين. شخصيًا أفضل أن نكون دخلنا المرحلة الأخيرة من ذلك النفق الذي سمعت عنه الكثير، وأننا نعبره قبل الوصول إلى الموت. أعتقد أني أمضيت طيلة وقتي محاولاً ،عبوره، حتى عندما كنت على قيد الحياة. على أي حال، يبدو أنّنا نسير في اتجاه معاكس، هي لا تريد الاستسلام. تود الخروج على الأرجح، والعودة. بينما، وللمرة الأولى، أنا المسالم طوال حياتي غير القادر على إيذاء نملة، صرت مستعدًا لاستعمال يدي لقتلها وسائر الجثث أيضًا” (صفحة 21).
بالفن والتجميل يتحول السرد من الهامشي الى نبض ويثير عنصر الدهشة فينا حيث تصير الرتابة متعة. يكتب الناقد والشاعر المغربي محمد العناز في كتابه الحكائي والشعري في القصيدة العربية الحديثة ص41 عن الحبكة بأنها بناء سردي يرتبط بإثارة السامع أو القارئ وخلق متعة لديه، فليس كل ما نرويه يثير المتعة، فقد يقتصر فقط على الإخبار بما حدث من دون السعي إلى خلق انطباع بالجمال أو خلق إحساس باللذة.
إذًا نحن أمام هويتين: هو الرجل/ هي المرأة كل واحد بزمنين وواقعين يسيران ضمن خطين متوازيين: الماضي المقترن بالحرية وأثره والحاضر، عبارة عن القيد وأثره. كذلك هناك تواز على صعيد حركة الاتصال بين الشخصيتين ليتسع الزمن وتتكشف الأحداث وترى نفسها في عالم آخر.
تتبدى في هذه الرواية أيضًا مواقف متعددة ومعقدة تبدأ من الرفض وتتدرج نحو القبول ويظهر ذلك من خلال السلوك والتصرف الذي تقوم به خصوصًا في بدايتها. والسؤال هنا: كيف يمكن للشخصية بأن تعترف وتبوح لولا أنها شعرت بالراحة للشخصية الأخرى التي كانت ترفضها؟
خصوصية الكتابة
وتنقلنا الرواية منذ البداية من حالة الى أخرى لتثير فضول القارئ وتشده بخفة السحر ليجد نفسه وكأن المشاهد تتشكل بين عالم الحلم والواقع، وهنا تبدو خصوصية الكتابة لدى ليلى العيد وإتقان السرد المأخوذ من الواقع المعاش. هكذا تتم الكتابة عن الحياة اليومية بأحداثها الشيقة والرتيبة، الهامشي والمهم المؤثر في آن.
تتوسل الكاتبة أسلوبًا عبرت فيه عن فواصل كثيرة بين الصمت والكلام وعملت على إيقاف الزمن بإيقاعاته السريعة لتعرض حياة امرأة تحب وتعشق وتتزوج ومثلها مثل أية امرأة تتعرض للخداع واكتشاف الأكاذيب ولتتابع حياتها، فهي لم تتوقف عند هويتها التي عبرت عنها عن طريق البوح، بل شاركت معها حيوات عدة لتتشكل المشاهد بأبعادها ضمن خاصية بنائية تشكلت من خلالها أحلامها وآمالها وطموحها الذي يشكل بابًا لعوالمها وأحاسيسها وأسئلتها…
في الختام هذه الشخصيات اختبرت الحياة وكأن الذاكرة المشتركة المتلونة بالمعاناة واختلاف المصائر قلم يخط مصائرها وما تتعرض له تجده في حيوات الآخرين بين قلق وطمأنينة أو بين فعل ورد فعل تتحرك في محاولة منها لإنقاذ آخر لحظة صدق عاشتها. هكذا تم الكشف من خلال الأحداث عن عمق الواقع والثقافة المجتمعية التي تتحكم بالعلاقات بالإضافة إلى عنصر التخييل الذي أضاف نكهة جمالية تعود إلى حنكة الأديبة وإتقانها فن الكتابة في مواجهة الواقع:
“تلك الليلة لم يسألني ماذا أفعل. لو سأل لقلت إني أحاول الكتابة. عشقي للكتابة كان لا يمنعني من التفكير أو تفسير رغبتي بها. سوى أنها ليست سوى ضعف. ضعفي أنا، وسيلتي السرية المتاحة أحياناً وليس دائماً، للهروب، للابتعاد أيضاً عن مواجهة واقع يؤذيني أو يملي علي أن أغير شيئاً فيه. واقع لا أحتمي من المجاهرة بأني لا أطيقه. بل من ألم الاعتراف بأنني لا أطيقه أبداً. ثقيل كقذارة أشعر بها على روحي وعلى جسدي. أحاول الكتابة لأتمكن من القراءة على مهل وبطريقة مختلفة، علني أقبله وأتوصل إلى حكمة التعايش معه يوماً ما كواقع، بسلام، من دون مشاعر مؤذية. الكتابة هي ضعفي، دوائي. أم مياهي؟ مياه الدواء للضعفاء. وأنا ضعيفة. المياه للاغتسال وأنا وكل ما حولي نحتاجها.