التفاهة والذكاء الاصطناعي يُعريان الوقت من مضمونه
يقول الكاتب والفيلسوف الكندي آلان دونو في كتابه “نظام التفاهة”: ” أنتَ تُقلل من قيمة الوقت ، عندما لا تعرف ماذا تفعل به”. وهذا تحديداً ما يجتاح حياتنا الآنية ، حيث يُبدد الجميع وقته في تصفح المواقع الاجتماعية ، لدرجة أنّهم لا يتنبهون إلى عقارب السّاعة، وهي تسرق منهم أعمارهم المُتبقية أو أحبائهم ، وما تبقى من طموحات وأحلام مؤجلة من يوم إلى آخر .
إن انتشار وسائل التّواصل الاجتماعيّ بين النّاس ، على كافة أطيافهم ومسمياتهم ، أثّر فعليّاً على نوع التّواصل فيما بينهم ، وعلى نمط الحياة الّذي يتّبعونه ، وعلى طريقة عيشهم واختياراتهم في الحياة .
فالهاتف أصبح فرداً رئيسياً من أفراد الأسرة ، والمؤثر الأكبر في جلسات العائلة ، حيث الغلبة لضوئه المُنعكس من الشاشة ، و الصور المتتابعة عليها بشكل شبه هيستريّ، إضافةً إلى مشاهد الفيديو المُتداولة ، خاصةً عند المراهقين.
تلعب هذه المؤثرات دوراً بارزاً ، في التأثير على سلوكياتهم وتفاعلهم البارد أو المعدوم مع العالم الخارجيّ.
كذلك فهو يؤثر على مظهرهم ، كونهم يتّبعون الأزياء التي يروج لها ، مدونوالموضة والبلوغر
” مالئي الدنيا وشاغلي الناس “.
إن معظم الفتيات تعمدن حالياً، إلى تقليد المشاهير من النساء ، من خلال اتباع الموضة التي يروجن لها ، والتشبه بشكلهن المبالغ فيه ، نظراً لكثرة عمليات التجميل ، فسيعون إلى استبدال وجوهن الحقيقة بالفلاتر ، إن هذه الممارسة ليست في الواقع ، سوى دليلٍ على انعدام ثقتهن بأنفسهنّ ، وشعورهنّ بأن الجمال لا تُجسدهُ سوى عمليات التجميل والنحافة الزائدة ، مّما يضاعف مشاكلهن النفسية والصحيّة على السواء.
فالمراهقات تحديداً ، ممن يُحاولن تقليد أجساد العارضات النحيلة جداً ، مثل عائلة الكارداشيان وغيرها ، يتعرضن لضغط نفسيّ ناجم عن عدم اقتناعهن بأشكالهن العادية ، والبحث عن مثال الجمال الأعلى عبر ما يُشاهدنه على مواقع التّواصل وشاشات التلفزة.
يبدو أن المراهقين ، هم فعلياً الأكثر عُرضةً وتأثراً بالمواقع الاجتماعية غير المأهولة بالمبادئ والأخلاق ، لذلك فإن مشاركتهم لصورهم الحميمة ، تجعل منهم أكثر خضوعاً للابتزاز ، وبالتالي دخولهم في نفق الاكتئاب المغلق ، أو البحث عن مخرج لأزماتهم المُستجدة من خلال الانتحار .
كذلك تفضي المواقع الالكترونية ، إلى التأثير سلباً على أدمغتهم ، من خلال هدر الوقت ، وقلة النوم ، بالإضافة إلى مشكلات أخرى كظاهرة التنمر ، التي تؤثر على صحة المراهق النفسية والجسدية .
لقد أدمن الناس مواقع التّواصل الاجتماعيّ الى حد الهوس ، فمعظمهم يسعون جاهدين إلى التعرف على كل ما هو جديد ومُبتكر ، سواء من خلال تصوير الأماكن اللافتة أو الطعام أو الموضة ، ومن خلال البحث عن الفضائح والتلصلص على حياة الآخرين .
إن هذا النوع من المنشورات ، يُفقد الحياة واقعيتها ، ويؤدي إلى تبديد الزمن ، وكأن الناس يدونون لحظات عابرة ، ليحصلوا في النهاية على لايكات زرقاء وقلوب حمراء والكثير من الإيموجي و كأن قيمة البشر تُحددها علامات الاعجاب ، لا أحجامهم الحقيقية .
والواقع أن تأثير الميديا قد خطف بريق اللقاءات والذكريات. فكأن الصور السريعة والمتتالية تُحرك عجلات الوقت بطريقة أسرع ، وأكثر فتكاً بالأعماق الإنسانية ، والوعي الجمعيّ.
كذلك قلصت العلاقات على الشبكة العنكبوتية من التواصل المباشر بين النّاس ، حارمةً إياهم من التّواصل الحقيقيّ عبر المصافحة والنظر وتتبع ملامح الوجوه ونبرة الكلام ، ولهذه الظاهرة تأثير سلبيّ ، لأن البشر يتخفون وراء الكلمات المخاتلة والمجردة التي لا تعكس حقيقتهم . لقد أصبح الناس يتبادلون جملاً سريعة ومُقتضبة ، تعكس قيم العصر ، القائمة على السرعة والاستهلاك والمنفعة .
ويبدو أن معظم الأخبار المُتداولة على السوشال ميديا بعيدة عن الدقة ، إذ أن مُستخدميها يسعون فقط للترويج للسلع بغية الربح السريع أو بغرض التسويق .إن تطور الذكاء الاصطناعي ، أدّى بالمقابل إلى مراقبة تحركات البشر ، والتركيز على ميولهم و قائمة أصدقائهم ومشاكلهم ، فهم يستغلون المعلومات المتوفرة من خلال المراقبة ، بهدف عرض سلع ومنتجات وفيديوهات على علاقة مباشرة بالموضوع. فيُصبح الإنسان رهينة صورة مغلوطة عن الواقع، ومدمناً في الوقت ذاته على كل شاردة وواردة في العالم الافتراضيّ .
كذلك تتحكم هذه المنصات بطريقة مباشرة بأذواق النّاس وميولهم وأهوائهم .فبتنا كبشر أسرى آراء الآخرين ومعتقداتهم ، دون اللجوء إلى الدّاخل ، فالأرواح أصبحت في مهب الوهم والتصورات الخاطئة عن الحياة .
أمّا عن متلازمة الشهرة في مواقع التّواصل الاجتماعي، فقد أتاحت لجميع الأفراد الحق في التّعبير عمّا يشعرون به ، فأصبح الأمر مجرد سعي للشهرة وإثبات الذات ، وتصديق التعليقات ، وبالتالي عيش نوع من الفصام عن الواقع ، والتّصرف على أساس تغذية النرجسية والنزوع الاستعراضي طوال الوقت . سواء من خلال الصور والبروفايلات المعدلة بالفوتوشوب أو من خلال الأفكار الرديئة والملفقة . فبات الأكثرية ينتخلون صفة النقاد والوعاظ ومسدي النصائح ، فيما هم في الواقع لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة أي كتاب أو تصفح أي مجلة مختصة .
وما يفعلونه في الغالب ليس سوى تجميع عبارات مسروقة من هنا وهناك ، ووضعها في سياق تنظيريّ. خاصة في الأمور المُتعلقة بالدين والفلسفة والشّعر والموضة وغيرها. ممّا يوهم كاتبها بأهمية لا يمتلكها على أرض الواقع.
أمّا سبب تفاقم هذه الظاهرة ، فيعود إلى المحاباة الاجتماعية من قبل مئات من السذج والمنافقين الذين يُحولون علامات الإعجاب إلى مقايضة ” تجارية ” فيما بينهم .
إن تضخم الأنا بهذه الطريقة ، تؤدي بصاحبها إلى المرض ، وبالتالي فإنّه لا يُفكر سوى بإضافة أسماء جديدة إلى قائمة الأصدقاء حتى لو كانت مستعارة بمعظمها. أما استدرار الحصول على تعليقات إضافية ، فلا تُضيف إلى واقعه المهزوم سوى مزيد من البارانويا والقلق.
وبالتالي يخمد صوت الوعي والعقل والجانب الفكريّ، لصالح شهرة عابرة ومؤقتة .
وهنا يحضر قول ” آلان دونو” ، ” يا لها من حضارة غريبة كانت هذه ، غنيّة بشكل غير عاديّ، لكنها تميل إلى تجميع ثروتها من خلال بيع بعض الأشياء الصّغيرة بشكل مذهل والتي لا معنى لها إلّا بعيداً . حضارة ممزقة وغير قادرة بشكل معقول على الفصل بين الغابات الجديرة التي يمكن أن توصل الأموال من أجلها ، وغالباً ما تكون آليات حيّلها تافهة ومُدّمرة من الناحية الأخلاقية “.
إن مواقع التّواصل الاجتماعيّ ، تبدو مفيدة كوسيلة للبحث وتقصي بعض المعلومات ، وكذلك تُسهل التّواصل بين البشر فتُقرب الأمكنة والأزمنة .
لكن مخاطرها تكاد لا تنتهي . فمن المتوقع أن الذكاء الاصطناعيّ، بحسب الدّراسات العلمية الأخيرة ، أن يصبح بديلاً عن الإنسان في عمليات عقلية ومعرفية كثيرة ، وقد يتوصل إلى قراءة الافكار التي تدور في أذهاننا، وبالتالي فإن انقراض الإنسان روحياً ومعنوياً سيصبح أمراً لا مفر منه .
فالبشر في هذه الحالة ، سيفقدون الكثير من مؤهلاتهم الفكرية ، وذكائهم الشخصي بوصفهم كائنات اتكالية تستقي كل معارفها من عقل تكنولوجي جمعيّ وناجز ، وتغط بعدها في نوم عجيب !