الشاعرة السورية فرات إسبر: لا أرى فائدة من الشعر إلا إصلاح الخراب الروحي للإنسان

تتميز قصائد الشاعرة السورية فرات إسبر بالغوص في أعماق الذات الإنسانية ومعاني الحياة، والتأمل في الوجود والخسارة والحنين إلى الوطن من منطلق شاعرة مغتربة، تقيم منذ سنوات بنيوزيلندا، وتسعى لتأسيس صوتها الشعري المخصوص في قصيدة النثر، حيث حظيت أعمالها الشعرية بالاهتمام، واعتبرها مجموعة من النقاد العرب وعلى رأسهم الناقد اليمني عبد العزيز المقالح من أهم الأصوات الشعرية العربية على مستوى الكتابة النسوية، كما رأى أدونيس في شعرها وشعر أصوات نسائية عربية أخرى في تقديمه لسلسلة “إشراقات” التي يشرف عليها مع “دار التكوين للنشر”

أول ديوان لها باللغة الإنجليزية

بالعراق، “مستقبل الشعر العربي”.

صدرت لها سبع مجموعات شعرية هي: “مثل الماء لا يمكن كسرها” 2004، “خدعة الغامض” 2006، “زهرة الجبال العارية” 2009، “نزهة بين السماء والأرض” 2011، “تحت شجرة بوذا” 2020، “أطلس امرأة برية” و”ضريح أيام مجهولة” 2024. صدر لها حديثا أول ديوان باللغة الإنجليزية بنيوزيلندا بعنوان “أغنية إلى أوكلاند”، وهي المدينة التي تعيش فيها، وكتبت فيها جميع مجموعاتها الشعرية.

حول هذه الأعمال الشعرية والنشر والنقد والتسويق كان هذا الحوار الخاص لـمجلة “الحصاد” مع الشاعرة السورية فرات إسبر.

* صدر لك حديثا ديوان شعري سابع عن “دار سومريون” بالعراق بعنوان “ضريح أيام مجهولة”، يغوص في تعقيدات العلاقات الإنسانية والتأمل في الوجود والخسارة من منطلق شاعرة مغتربة منذ سنوات تؤسس لصوتها الشعري المخصوص، فما هي الإمكانات التي تمنحها لك قصيدة النثر بشكل خاص والشعر بشكل عام الذي اخترته كأداة للتعبير؟

** الكتابة بكل أنواعها، سواء أكانت نثرا أو شعرا، هي كتابة تعتمد على اللغة    في الدرجة الأولى. علينا أن ننظر في هذه اللغة التي تحمل الكثير من المعاني والصفات والاستعارات، واللغة العربية بحر واسع من المعاني والمجازات التي تتجاوز الخيال وتتسع لكل أنواع التوصيف التي يمكن أن يحتاجها الكاتب أو الشاعر.  ومن هذا المنطلق، فعندما أكتب لا أفكر في كتابتي، هل هي شعر أم نثر، ولكن أفكر كيف ستكون قصيدتي بعد الِانتهاء منها، وهل كنت قادرة على خلق صور شعرية تلهم القارئ أو المتلقي، وهل تضعه في حالة إعجاب وذهول أمام سحر اللغة العربية وخيالها الواسع

ديوان أطلس امرأة برية

المدى. هذه اللغة هي إرثنا الحضاري والثقافي والتاريخي، ومن هنا لا يهم شكل الكتابة، وإنما كيف ستصل هذه الكتابة إلى القارئ المبدع في التلقي.

 لغتنا العربية لغة ساحرة، لغة القرآن، لغة الشعر والنثر، نستطيع تدويرها   ونسجها وصياغتها بأي شكل وقالب نريده. والمعاني مطروحة على الطريق كما يقول الجاحظ، فنحن لنا الحرية في صياغة الكلمات وبعث الحياة فيها من جديد بالشكل الذي تأتي فيه أو نقوم بصياغتها حسب مشاعرنا وعواطفنا إذ فيها المعاني اللامتناهية لنعبر بها عن الحب والغضب والكراهية والرفض والعواطف الجياشة، وكأني أراها قد خلقت بجسد وروح كما نحن البشر.

الكتابة هي صورة الإنسان المكتملة أو الناقصة، بمعنى إما أن يكون منفيا أو مغتربا عن بلاده أو عن ذاته. ويبدو أن للشعراء منازل يسكنونها ويكتبون عنها، قد تكون منازل الوطن أو منازل الغربة، أو منازل في الخيال.

كنا نقرأ لشعراء المهجر ونفكر بهم وبهذه اللوعة الشعرية التي يكتبون بها والشحنات العاطفية التي تظهر في أشعارهم، ولكنني رأيت في الاغتراب والبعد عن الوطن أن الأمر مختلف، في فهم معالم هذا الاغتراب بالنسبة إلي. لقد كان هذا الاغتراب مبعثا لفتح آفاق المعرفة أمامي في تعلم لغة جديدة والكتابة بها. وجميع مجموعات الشعرية طبعتها وأنا في نيوزلندا، وكنت وما زلت أردد قول أبي تمام الذي يحث فيه على السفر والاطلاع، ويشجع على الاغتراب كي نتجدد، إذ

ديوان تحت شجرة بوذا

يقول: “وطـول مـقـام الـمرء في الـحي مـخـلق لـديبـاجـتيه فـاغترب تتـجـدد               فإني رأيت الشمس زيدت محبة إلى الناس إن ليست عليهم بسرمد”.                        هذا الاغتراب يبعث على ضخ أفكار وثقافة جديدة، ويشحذ خيال الشاعر بالصور الشعرية الجديدة والأفكار التي تخلق منها القصيدة.

*وفي مطلع هذا العام صدر لك ديوان “أطلس امرأة برية” عن “دار التكوين” ضمن سلسلة “إشراقات” التي يشرف عليها الشاعر أدونيس، والذي صرح أخيرا بأن مستقبل الشعر العربي يكمن في صوت المرأة، ومن ضمنهم صوتك المميز، والذي وصفه بـ “الشعر الكينوني المنفتح على الأعماق والأبعاد المجهولة، وعلى الأسئلة المهمشة أو المطموسة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا”، فما رأيك في قول أدونيس هذا وفي الأصوات الشعرية النسائية العربية؟

**سلسلة “إشراقات” التي يشرف عليها الشاعر أدونيس خطوة مميزة بالنسبة لشعر المرأة العربية، ولا أحد ينكر أهمية أدونيس وتاريخه وتأثيره في حركة الشعر العربي. يقف أدونيس عبر تاريخه الشعري والثقافي في صف المرأة ويناصرها، وكان يربط دائما تحرر المرأة وحريتها بتحرر الرجل، ويدافع عنها وينظر إليها كصورة خلاقة وفاعلة في المجتمع من جميع النواحي.

مشروع “إشراقات” هو تتويج لأفكار أدونيس ورؤيته وتصوراته عن المرأة عبر تاريخها الطويل، وهو يراها مبدعة، بل أكثر إبداعا من الرجل.

كتابة المرأة في نظر أدونيس، كتابة لا تخضع لسلطة معينة، ولكنها تأتي من أفق خاص بالمرأة لا يدركه غيرها، كونها هي خالقة هذا الإبداع المتحرر من جميع أنواع السلطات. وكما يرى أدونيس ويكرر في حوارات كثيرة له، بأنه من خلال

ديوان زهرة الجبال العارية

تجربته في مجلة “شعر” ومرورا بشعراء مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ومحمود درويش، فإنه، كما يقول، يفضل شعر المرأة على شعر الرجل، لأن هذا الأخير يخضع دائما لسلطة ذكورية من الصعب التخلص منها في المجتمعات العربية.

 مشروع “إشراقات” متميز ومهم في الساحة الثقافية العربية، أتمنى أن يستمر في كشف المزيد من الأصوات الشعرية، لأنني على يقين بأن هناك أصواتا شعرية مهمة ومجهولة تستحق أن تأخذ حقها ويظهر صوتها في الساحة الشعرية العربية.

*تتميز قصائدك منذ ديوانك الأول “مثل الماء لا يمكن كسرها” وإلى آخر عمل بقلق السؤال عن الذات والعالم، والحنين إلى الوطن ونشدان الحب والأمان والخلاص بلغة شاعرية شفيفة تمتح من المعجم الصوفي، فهل ما زلت تؤمنين برسالة الشعر وقدرته على التغيير والتجديد رغم الخراب الذي يحيط بنا؟

**للجاحظ رأي مهم في الشعر يقول فيه: “للشعر وظيفة ذاتية تتمثل بفائدتين: فائدة للشاعر المادح وفائدة للممدوح، أما فائدة الشاعر فتكمن في إبراز عبقريته أو موهبته الشعرية، وفي كسب الأموال والجوائز والهبات. وأما فائدة الممدوح فترجع الى تخليد مآثره وذكره على مر الأيام. ووظيفة التخليد هذه، هي التي اهتم بها العرب في العصر الجاهلي”.

 ولكن، في هذا العصر الذي نعيشه اليوم أرى أن الفائدة تعود للشاعر كي يبقى اسمه ويخلد على مر الأزمان، والفائدة الثانية سقطت بالتقادم، إذ انتهى زمن المديح والهجاء والرثاء، وأصبح الشاعر يقف على أطلال وخرائب حياته   الخاصة، وهي بمفهوم علم النفس تشكل الوعي واللاوعي عند الإنسان، إذ لم تعد هناك أطلال حبيبة أو قبيلة.

ديوان خدعة الغامض

 في المرحلة التي نعيشها اليوم، لا أرى فائدة من الشعر إلا إصلاح الخراب الروحي للإنسان. وأنا أومن جدا بمقولة الشاعر الإغريقي هوميروس بأن الشعر يشفي من الأمراض وأعتقد أنه كان يقصد، أن شعره كان عزاءً له في عماه وأيضا خلده على مدى الدهر. الشعر يخدع ويوهمنا بالفرح، ولكنه يبقى وسيبقى ذاكرة الأمة وتاريخها ولغتها الحية.

الشعر يرمم الذات المجروحة ويترك صداه في نفوس البشر، وآمل ذات يوم أن يأتي أحد ما ويقول عني: “لقد كانت حقا شاعرة”.

*الملفت في تجربتك الشعرية أيضا هو عتبة أعمالك، وهي العناوين المفارقة التي تحضر فيها المرأة والطبيعة بمائها وشجرها وغموضها، فكيف تختارين عناوين مجاميعك الشعرية؟ وهل لديك علاقة خاصة بالعناوين؟

**نعم، هذا صحيح. العنوان يشغلني أكثر من الديوان بحد ذاته. من السهل أن أكتب مجموعة شعرية، ولكن حتى أختار العنوان أحتاج إلى وقت أطول، مع أن عناوين مجموعاتي الشعرية، هي من عناوين قصائدَ من المجموعات، إذ أشعر برابطة روحية بين النص والعنوان، ولأن العنوان هو عتبة الديوان والمفتاح الحقيقي للدخول إلى أي كتاب، والمدخل إلى القصائد، فأتخيل ديواني على شكل شجرة تفاح، فلا يمكن أن أضع في صدرها عنبا أو تينا.                                  الأشجار تحمل ثمارها، ومجموعاتي الشعرية أتقصد دائما أن تحمل عناوينها من قصائدها كأية شجرة مثمرة.

*رغم أن الشعر يسكنك من زمان، إلا أنك لم تنشري إلا بشكل متأخر، فهل الأمر يتعلق بانتظار نضج التجربة أم بإكراهات النشر وإقامتك البعيدة عن العالم العربي؟

 **أعتقد أن هذا أفادني كثيرا خاصة على مستوى التجربة الأولى. وكانت أول مجموعة شعرية لي هي “مثل الماء لا

ديوان نزهة بين السماء والأرض

يمكن كسرها “، وقد صدرت عام 2004 ولاقت صدى مهما من طرف النقاد الذين كتبوا عنها، ومنهم الدكتور عبد العزيز المقالح من اليمن، إذ قال في مقال له نشر في جريدة “الحياة” بأنني “من أهم الأصوات الشعرية العربية على مستوى الكتابة النسوية”. وهذه كما ذكرت تجربتي الأولى، مع أنني ضد التمييز في الأدب وتجنيسه، ولكنه هو ناقد كبير وصوته مهم في حركة الشعر العربي.

ولكن نظرتي تغيرت اليوم، وأشعر بأن لدي الكثير لأقدمه للقارئ. قارئ اليوم أو القارئ الذي ربما سيأتي ذات يوم بعد موتي ويقرأ لي، كما أفعل أنا مع شعراء عبروا الحياة إلى ضفة الموت وأستعيدهم باهتمامي بهم وقراءة أعمالهم، وهذا أقل ما يمكن أن يقدم لشاعرة أو شاعر أو أي مبدع في هذا العالم.

* وماذا عن تلقي أعمالك الشعرية، فهل حظيت بالاهتمام المنوط بها؟

 ** نعيش في العالم العربي أزمة حقيقة تجاه الإبداع الأدبي، إذ أن تقييم أي عمل أدبي أو شعري ونقده يتأسس على مسألة العلاقة بين الشاعر والناقد، وهي مسألة فيها الكثير من الأسئلة. وبرأيي لا نستطيع الحكم عليها لأنها سائدة اليوم كثيرا. النقد الحقيقي فقد معناه وبريقه الذي كان أيام عباس محمود العقاد، الذي كان ينتظر صدور الأعمال الإبداعية ليشتريها ويكتب عنها.                                                  تجربتي الشعرية البسيطة نالت حظا كبيرا من المتابعة والنقد من أسماء أراها مهمة بالنسبة إلي ولتجربتي، فأن يكتب عن تجربتي الشعرية دراسة عميقة ومهمة، أستاذ كبير من

ديوان ضريح أيام مجهولة

المغرب مثل الدكتور مولاي على الخامري من جامعة القاضي عياض بمراكش، أو صباح الأنباري من العراق، ومحمد صالح بن عمر من تونس، ومن السعودية الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي، الذي قدم دراسة مهمة في الشعر والشعرية عن تجربتي ونشرت في كتاب من جزأين صدر عن جامعة الملك سعود. هذه الأسماء بالنسبة إلي علامة فارقة ومهمة في تجربتي الشعرية. لا بد أن يأتي يوم ويظهر فيه من هو الناقد الحقيقي ومن هو الشاعر الحقيقي.

*وماذا عن تجربة النشر والتسويق الإلكتروني التي أقدمت عليها بعض دور النشر العربية ومن ضمنها تلك التي تتعاملين معها مع مواقع وتطبيقات متخصصة مثل “أمازون” و”كيندل” و”راكوتين كوبو”؟

**في الحقيقة لدي تجربة غير جيدة مع دور النشر، فمجموعاتي الخمس لم تخرج من مستودعاتها، بسبب أن الشعر لا يباع ولا يشترى، ولكن مجموعة “أطلس امرأة برية” حققت رواجا، لأن اسم أدونيس يشجع دور النشر على توزيع الكتاب، وأعتقد أن هذ كان شرطا من شروط العقد أيضا.                                             ولكن تجربتي الأخيرة مع ديواني السابع “ضريح أيام مجهولة” غيرت انطباعي عن دور النشر، لأن “دار سومريون” بالبصرة في العراق، والتي كنت أحلم بالطباعة فيها كونها بلاد المتصوفة والشعراء، نشيطة جدا قامت بتوزيع الكتاب في أمازون وكيندل وكوبو، وهذه المواقع لم أكن أسمع بها طبعا باستثناء أمازون. وها هي المجموعة الآن بعد شهر من صدورها على جميع مواقع البيع وفي المعارض الدولية للكتاب، وشارع المتنبي، وهذا ما عوضني معنويا عن مجموعاتي السابقة التي لم تخرج من المستودعات.

* وما جديدك؟

** صدر لي حديثا ديوان شعري باللغة الإنجليزية وليس مترجما من العربية، وهو بعنوان “أغنية إلى أوكلاند”، وهي المدينة التي أعيش فيها، والمدينة التي كتبت فيها جميع مجموعاتي الشعرية. لقد حصلت على رقم دولي لحفظ حقوق الملكية والطباعة، وأعتقد بأني أول شاعرة عربية في نيوزلندا تكتب وتنشر مجموعة شعرية باللغة الإنجليزية، إذ إنني عضوة في “مجموعة فرانكلين للكتاب النيوزلنديين”، والعربية الوحيدة من أصل خمس وثلاثون كاتبا نيوزلنديا.

إن الكتابة بلغة أخرى غير العربية متعة كبيرة لاكتشاف هذه اللغة العظيمة التي كتب بها الشعراء والكتاب النيوزلنديين، وأهمهم الشاعرة والروائية “كاثرين مانسفيلد”، التي ماتت في سن مبكرة، ولكن إلى اليوم تعتبر أعمالها ومنزلها متحفا مقدسا للزوار ولمحبيها على مر الزمن.