الشاعرة المصريّة “آلاء فودة”: “أسعى طوال الوقت أن يصبح لي صوتًا متفرّدًا”..

بلغة شاعريّة دافئة، فيها من تفاصيل اليوميّ وهواجس المرء في شؤون حياته وخياراته، تصنعُ الشاعرة المصريّة “آلاء فودة” شخصها الشعريّ، كامرأة لها الكثير من الطموح، وكحالمة ترصد في الشعر ميزان حكمتها، وكأمّ تخطّ تفاصيل تجربتها شعرًا، وتبكي.

أنهت فودة دراسة اختصاص الصيدلة في العام 2013، ولكن الشعر كان حلم الطفولة الذي ساقته في كتاباتها اللاحقة في ديوانيها “بحة في عواء ذئب” و “شامة أعلى الرحم”، عن تجربة الكتابة والأمومة، كان للحصاد هذا الحوار مع الشاعرة.

الشاعرة الاء فودة

الشعر أسبق من الصيدلة

في الحديث عن تاريخ صلة فودة بالشعر، واختصاصها في الصيدلة كاختصاص علميّ بحت، تحكي كيف كان الشعر أمنيّتها السبّاقة إلى قلبها من الصيدلة، وتقول: ” تمنيت أن أصبح شاعرة منذ طفولتي، ربما لو تأملت الآن أنّ طفلة تريد أن تصبح شاعرة لتعجّبت؛ ولماذا الشعر أيضًا؟ لماذا لم أحلم أن أصبح صحافيّة أو كاتبة أو روائيّة أو قاصة؟ كنت صادقة فيما أريد، شاعرة مفتونة بالشّعر، ولأنّه لي ميولًا علميّة اخترت الصيدلة وأيضًا كانت حلمًا براقًا؛ ولسوء الحظ دار الزمن ولم يصبح لكليهما _الشعر والصيدلة- البريق الذي حلمت به.

 فالصيدلة برأيها لم يعد لها الرواج السابق، رُبّما لكثرة المتزاحمين على الاختصاص. وترى أن الشعر أيضًا خسر هذا البريق من زمن سالف، ولكن تضاؤل فرصتيهما في التواجد داخل سوق العرض والطلب، بحسب تعبيرها، لم يُثنها عن التشبُث بهما: ” كرغبة دون كيشوتيّة، ووهم أسوقه لنفسي أنني أفعل الأشياء التي آمنت بها، أحيانًا أتخيّل أن يمرّ العمر وأجد أنّني نذرت حياتي للهباء كمخبول يكتنز عملاتٍ عفى عليها الزمن، ولكن لا بأس أن نُنفق أعمارنا من أجل الأشياء التي نحب”.

صدر للشاعرة ديوانين، وهي تواظب على نشر قصائدها في دوريات عربية ومصرية.

كانت المشاركة الشعريّة الأولى لـ فودة في العام  2018 على مدى يومين، في أمسية على مسرح معهد العالم العربي في باريس، وعن هذه التجربة تفيد: “تدربنا على الإلقاء مع الموسيقى والتقاطعات بين النصوص والترجمة على يدّ مخرج مسرحي”. وتضيف: “شاركت في أمسيات معرض الكتاب في القاهرة، وفي مؤتمر قصيدة النثر في القاهرة، ودُعيت إلى مهرجان الشّعراء الشباب في الصين، في يوليو الماضي”.

الشعر ورحلة التجريب

تكتب فودة قصيدة النثر، في محاولة للتحرّر من كلّ ما يُعيق قصديتها عن تفريغ كل مكبوتات القول، وتذكر أنّه كان لها في مراحل دراستها الجامعيّة محاولات في كتابة الشعر العموديّ حتى أنها قامت بإنجاز ديوان موزون ومقفى على نسق موسيقى بحور الخليل، ولكن ذلك الحماس لم يصاحبها طويلا وبحكم القراءة والتجربة، أطلقت يديها وذهنها من تلك المحدّدات الخليليّة، وهنا تشير: “عند وقت محدّد شعرت أنّني مقيّدة، والقيد هنا كان نفسي وشخصي، شعرت أن الحياة تقيّدني بخياراتها المحدودة ولم يبق لي أيّ مساحة للحريّة سوى الشعر.

فكان السؤال: فلماذا أتركه أيضًا ليقيّدني ببحر ووزن وقافية، الرغبة النفسية هنا كانت رغبة سياق معيشي تلتها رغبة على مستوى الشعر، فلجأت لكتابة القصيدة الحرّة كرغبة في الانطلاق بلا قيد”.

في محاولتها للنجاة من التكرار، والتناسخ كما يحدث في عالم الشعر، تحرص فودة أن يصبح لها صوتها المتفرّد: “أتابع ما كُتب من شاعرات قديرات سبقنني وأحاول متابعة ما يُكتب من شاعرات معاصرات، وأسعى طوال الوقت أن يصبح لي صوتًا متفرّدًا، قد أنجح يومًا وقد أخفق لا أعلم! الشعر بالذات لا يمكنك توقعه، ربما تصبح آخر قصيدة كتبتها هي آخر عهدي بالشعر وربما يجيء الصباح وقد كتبت ديوانًا كاملا متفرّدًا وغير مكرور، الحكم هنا ليس لي ولا لأحد، الحكم هنا للزمن”.

ديوان بحة في عواء ذئب

تصرّح فودة أنّ الخوف كان العائق أمام تأخُر صدور نتاجيْها: ” تجربتي في الكتابة تبدو مختلفة بشكل ما، أنا أكتب منذ عشرة أعوام، لم أنشر سوى في آخر عامين كتابَين متتاليين وهذا لخوفي من فكرة هل ما أكتب يستحق النشر، طوال هذا الوقت كنت خارج مصر.”

تصف فودة علاقتها بالوسط الأدبي بالعلاقة الإلكترونيّة، وذلك لكونها تسكن في محافظة البحيرة في مصر، بعيدًا عن هذا الوسط المتمركزَة نشاطاته في القاهرة.

إصدارت وهواجس

صدر ديوانها الأوّل ” بحة في عواء ذئب” عن الهيئة المصريّة العامة للكتاب 2021، وكان التجربة الأولى لها في كتابة نص مفتوح، كما أشارت: ” كنت أجرّب أن ألتقط كل ما أستطيع التقاطه وأسجّله داخل قصيدة، فجاءت نصوص الديوان أشبه بفلاشات متنوّعة لكاميرا واحدة، نصوص مختلفة الإيقاع والموضوعات. ربما يربطها خيط واهن أظنّه كان لعبة الزمن أو الاصطدام بالواقع، كتبت هذا الديوان في الأعوام التي سبقت تخرّجي من الجامعة فكان محمّلًا برغبات استكشافيّة للعالم وربما أيضًا رغبة في تغيير هذا العالم، رغبة رومانسيَة وحالمة تمامًا تشبه جموح الشباب وثورته.”

أمّا كتابها “شامة أعلى الرحم” والذي ذيّلته بعنوان (قصائد الغربة والأمومة) الصادر عن دار المتوسط العام 2023، فهو تجربة ممتدة من البنوة حتى الأمومة.

تقول: ” يبدأ شامة أعلى الرحم بقصيدة لسيدة تنتظر أن تصير أمًا، ومع تتابع النصوص تصبح هذه السيدة عالقة بين زمنين واتجاهين مختلفين، بين بنوّتها لسيدة أخرى وأمومتها لبنات أخريات، ثلاث أجيال يتعاقبن وبينهن السيّدة التي تتحرك داخل الزمن، في كل خطوة داخل رحلة الأمومة تستعيد الأم طفولتها البعيدة وتستعيد معها أمومة أمّها. ولأننا جيل قد تفتحّ وعيه على الخطابات الحديثة عن التربية والبعد النفسي الذي تتركه الطفولة وآثامها في رحلة الإنسان؛ تقع السيدة/الأم الحديثة في جدليّة ما الأمومة إذن؟ كنز مغلق وعلينا أن نكتشفه، لتخلص في نتيجة أن الأمومة غير ثابتة

ديوان شامة أعلى الرحم.

التعريف، هي رحلة مجهولة تتطور كل يوم بتطوّر الأجيال ووعيها، وبتطوّر وسائل المعرفة، فما كان مقبولًا بالأمس لا يمكنني ممارسته الآن مع بناتي، ومن هنا ومن هذه المفارقة تخرج نصوص الديوان من أم ّلا تثق في أمومتها وتنحصر بين أمومة جاهزة ومعلبة تستعيدها من طفولتها وأمومة حديثة ومجهولة تستكشفها وترصدها، وفي هذه الرحلة تتجلى أمور أخرى هامشية وبعيدة عن فكرة الأمومة والبنوّة والأبوّة أيضًا، لكن يربطها خيط واهن تحركه ذات هشة ومرتبكة.”

نصوص وأمومة

تشير فودة أنّها تكتب في كلّ الأوقات والأمكنة: “وأنا في المطبخ وأنا في الطريق، في السوق، وأنا أرضع بناتي لم أتوقف أبدًا عن الكتابة”.

 وفي سؤال عمّا إذا كانت الأمومة قد أخذت من شغفها الشعريّ، تذكر: ” لم تسرق أمومتي شيئّا من الشعر بل على العكس فجًرت أفكارًا وفلسفات لم أكن أطرق بابها من غير طريق الأمومة، كما أنني تعرفت على نفسي عبر بابين أحدهما كان الأمومة وثانيهما الشعر، ضمدّ الشعر جراح الأمومة والآن تضمدّ الأمومة جراح الشعر، لم أعتد أمومتي حتى الآن وربما من هنا يأتي الشعر من عدم الألفة ومن السؤال المُلح كل صباح: من أنا؟”

” هذا النص لا يليق بنهاية مجيدة

بنهاية الأم تبحث طيلة النهار عن فم لابنتها

بصيدلانيّة تتحسّس مواضع الألم

لتغرز فيها عصبًا جديدًا

بنهاية تليق بزوجة نسيت أصابعها في المواعين

وحين احترقت الوجبة طبخت نفسها كبديل واقعي.”

في هذا المقطع من ديوان “بحّة في عواء ذئب” تحاول فودة إعطاء لمحة عن كفاح امرأة تصنع مجدها الشخصيّ كصيدلانيّة وكأمّ وزوجة وكشاعرة تصنع أفق المعنى، وهي بذا تعكس صراعًا تألفه النساء العاملات الأمّهات في محاولاتهن للانفكاك من عقد الذنب ومن مشاعر التقصير وسوء التقدير.

وهو ما أبدعته في ديوانها “شامة أعلى الرحم” والذي ذيّلته بعنوان فرعيّ (قصائد الغربة والأمومة).

” أنا غريبة

هجرني الآخرون في متتاليات حسابيّة

كلّ أربعة أعوام يسقط مني جدار كنت آوي إليه

كل أربعة أعوام تنبت لي شامة أعلى الرحم

كل أربعة أعوام أعيد تأويل الحكايات.”

وفي نص بعنوان “موت الأمّهات” تكرّس الشاعرة ألقها الأدبي وحسّها الأموميّ لنقد صورة الأمومة كما رسمتها النمطيّة السائدة، الأمهات المسؤولات عن كلّ تفاصيل حياة أزواجهنّ وأولادهنّ كحارسات لا يحقّ لهن التأفّف والاعتراض، “على الأمهات أن يمُتن\ بعد أن ينجزن واجباتهنّ المنزليّة…” فيبدو أنهن حتى في موتهن مسؤولات بل عليهن ألّا يمتن قبل ترتيب العالم:

“على الأمهات أن يرتبن العالم

ثم يرحلن في أي وقت “

وفي مكمن آخر تبدو الفكرة واقعيّة في معناها العميق والعظيم والذي يُظهر الدور الكبير الذي تؤدّه الأمّهات في حيواتنا. حتى يبدو العالم من دونهن فوضى وبلا معنى.

تقول في مقطع:

“يا أيّها الموت

أمهل أمّهاتك حتى يُنظِفن أجسادهُن من كلّ الهزائم

حتى يُجفّفن حليب الحزن في أثدائِهن

حتى تلتئِم أرحامهن بعد كلّ نطفةٍ

وتُشفى قلوبهن من عضّات اليأس…”

 وفي مقطع من قصيدة “إكسير الألم” تقول:

“أجرّ الألم كلّ صباح

أقطع تمدّد القسوة مع الحبال السريّة

وأطهّر لبن الأمّهات من تكرار المشقة

لست نبيّة

لكنّني أفتح صدري للريح

وأستقبل كلّ سيوف العالم

وأقول: لابأس.. سأموت

وسيولد من بعدي أطفالٌ بلا أحزان…”

تبدو تجربة فودة كمحاولة للقول والخلاص، تمثّل قصائدها الرغبة بالتحرّر عبر تداعي الأفكار والصور، هذه الصور التي على قدر واقعيّتها إلّا أن فودة تنجح في جعلها فنيّة ومتفرّدة وكأنّها لوحات انطباعيّة مرسومة بإتقان وبجماليّة على الرغم من رائحة الحزن الكافكاويّ الذي تفوح أصداءه بين صفحات نصوصها، وهي تصرّح عن تأثرها بفلسفة الكاتب التشيكي فرانس كافكا، والذي يبدو أنّها استلهمت منه سرياليّتها وسوداويتها في بعض المواضع، واهتمامها بالمواضيع النفسيّة.

تعكِف فودة حاليًا على كتابة ديوان جديد، تأمل أن تنتهي منه قريبًا:

 “لا أستطيع أن أتخيّل نفسي خارج إطار الشعر، الفكرة والعاطفة تخرج بشكل تلقائيّ في شكل نصّ شعريّ لا يمكنني تحييده أو إعادة صياغته في أي شكلّ ابداعيّ آخر”.