الشاعر التونسي معز ماجد… وتجديد الخطاب الشعري

قدرة الشعر على تجاوز المدن تكمن غي هوسه الدائم بمسائلة نفسه

يعتبر الشاعر معز ماجد من الشعراء والمترجمين التونسيين الذين أثروا المشهد الثقافي التونسي، وقد شكّل شعره سفرًا عابرًا للحدود على أنه قد تُرجم إلى لغات عدّة، كما أنّه تمكّن من أن يتحرّر ويطرح الأسئلة الخاصّة ليفتح آفاقًا معرفية جديدة من خلال انفتاح آفاق الرؤيا عنده والتفكّر بالذات الإنسانيّة والإصغاء إلى الصوت الداخلي، ليخرج بقصائد تحاكي المتلقي وهمومه وهواجسه وأفكاره.

  ومعز ماجد الحائز على شهادة  علوم الأحياء تناولت عديد المجلات الأدبية العربية و الفرنسية و العالمية تجربته في دراسات أدرجت قصائده في عدد من أنطولوجيات الشعر العالمي. وقد تحصل في ٢٠١١ على جائزة بول فيرلين

معز ماجد

للشعر الحر المسندة من طرف جمعية أصدقاء فيرلين بمدينة ميتز الفرنسية.

و في سنة 2013 أسس معز ماجد المهرجان الدولي للشعر بسيدي بو سعيد الذي يعد اليوم أهم مهرجان شعري جنوب المتوسط و في العالم العربي و الذي أسس لرؤية مجددة و تقدمية للحركة الشعرية.

كذلك منذ سبتمبر 2019 يقوم معز ماجد بإنتاج و تقديم حصص أدبية على إذاعة تونس الدولية منها حصة مخصصة كليا للشعر و لتقديم كبار شعراء العالم عبر العصور.

له عدة إصدارات شعرية أحدثها غير بعيد من هنا (الأهلية – عمان ٢٠١٩) ويعسوب (دار آل دانتي – ديجون-فرنسا ٢٠٢٢)

وله عدة ترجمات أيضًا منها:

ميثولوجيا مختصرة للفزع  – مختارات من شعر صالح زمانان – ترجمة إلى الفرنسية (دار آل دانتي – ديجون ٢٠٢١)

ربيع محاصر – مختارات من قصائد الشاعر التركي أطاوول بهرام أوغلو – ترجمة إلى الفرنسية (دار ميرل موكور – باريس ٢٠٢١)

 الحصاد التقت الشاعر والمترجم معز ماجد وكان لها معه الحوار الآتي:

“الحصاد” يقول برنار نويل: “إنّ الشعر بالنسبة إليّ عاصفة رعدية عقلية تمطر الكلمات والحركة”. هل يمكن أن نتحدث هنا عن اللاوعي الذي يستنطق الذات الشاعرة ويثير الأسئلة التي تأتي بعدها القصيدة؟

“معز ماجد” في الحقيقة أرى أن الشعر فعل واع بامتياز. هو يستنطق الذاكرة والثقافة والفكر والتجارب والأحاسيس وفي نفس الوقت يخصّب اللغة وعوالمها وتراكماتها.

من المؤكّد أن الكامن فينا يتحرك لحظة الكتابة ويؤثر فيها، لكنه في اعتقادي غير كاف لوحده لكي يغذي خطابًا شعريًا على المدى الطويل.

كل مشروع شعري يحتاج إلى روافد متعددة لكي تكتنز القصيدة ومن الطبيعي أن يكون اللاوعي واحدًا منها، لكن الشاعر يحتاج إلى موارد أخرى ينهل منها أعني بذلك تجارب الحياة، الذاكرة، الثقافة، الفكر، العلوم…

طبعا، كلنا نعرف المكانة التي أخذها اللاوعي وأفكار فرويد في تصور السرياليين لمفهوم الحداثة في الشعر، لكن من بين السرياليين نفسهم، أنجحهم في كتابة الشعر كانوا هؤلاء الذين تغذوا وطعموا هذه الفكرة من روافد إضافية مثل الفعل السياسي والنضال ضد الاحتلال النازي للأراضي الفرنسية أو غيرها من القضايا السياسية والجمالية، و أعني هنا (بول إيلور ورينيه شار) بالخصوص.

“الحصاد” هل تكفي طقوس الكتابة ليكون الشاعر جاهزًا بانتظار لحظة إشراقة تُكتب فيها القصيدة؟ هل سبق أن خذلك الشعر؟

“معز ماجد” الطقوس ليست بالضرورة شرطًا للكتابة.  طبعًا هنالك شعراء وكتاب يجعلون منها لحظة مقدسة، لكنني لا أنتمي إلى هؤلاء.

لحظة الكتابة هي مرحلة من مراحل الإبداع، تسبقها (في ما يخصني على الأقل) مرحلة طويلة تعيش فيها القصيدة داخلي وفي مخيلتي وتتغذى من ذاتي قبل أن تصل إلى لحظة كتابتها.

وحتى بعد الكتابة، فأنا أشتغل طويلا على النص قبل أن يصل إلى صيغته النهائية.

أما في ما يخص سؤالك “هل سبق أن خذلك الشعر؟” أعتقد أن ذلك غير ممكن لأن الشعر حالة نرتقي إليها في لحظات محدودة وسريعًا ما تنفلت عنا. هي تلك “الإشراقات” التي يتحدث عنها رامبو.

لذلك فإن الشعر لا يخذل، نحن قد نخفق في الإرتقاء إليه وبالتالي نحن نخذله أحيانًا. أما هو، فحالة مكتفية بذاتها يمكن تشبيهها باستعارة مفهوم فيزيائي هو “الأنتروبيا” في نظرية الديناميكية الحرارية: فهو إذن حالة طاقة مرتفعة يرتقي إليها الشاعر للحظات ويخرج منها فور انتهاء إشراقات الكتابة.

“الحصاد” ما هي رؤيتك للعزلة التي يعتبرها جون ميلتون أفضل صحبة. هل هي العزلة الاختيارية والإقامة الفاصلة بين الداخل والخارج، والتعبير عن الذات والإنسان من خلال الشعر الذي يعيد الاتصال بالعالم؟

“معز ماجد” العزلة هي عودة إلى الذات بالأساس وهي لا تعني بالضرورة الإنفصال جسديًا عن الآخر وعن المجتمع. من الممكن أن نعيش العزلة وسط الحشود الصاخبة إن نحن رتبنا بيتنا الداخلي لكي نكون في سكينة مع ذواتنا العميقة.

لكنني أرى أن الشاعر عليه ألّا يقع في فخ العزلة الدائمة وأن يفقد روابط الإتصال مع الآخر والمجتمع وإلا فإنه سيجد نفسه في برجه العاجي فتفقد كتابته حيويتها التي تستمدها من واقع المجتمع وصراعات الذات الإنسانية. فالشعر كثيرًا ما يكون إعادة صياغة للعالم ولذلك هو في حاجة لأن يكون في حالة اتصال به.

طبعًا يعود الشاعر من حين إلى آخر إلى عزلته الضرورية ليعيد الإتصال بذاته وليعيد صياغة ما خزنه من تجارب لكن فترات عزلته تتخللها تجارب حياتية وفترات احتكاك بالآخر وبالعالم. ولعل الشعر يكون الإقامة “لا الفاصلة” بل المختزلة للتجربتين، الأولى هي الاحتكاك بالخارج وإعادة صياغته من جهة، والثانية هي العودة إلى الذات والسكون إليها من جهة أخرى.

“الحصاد” هل حقًّا الكلمات تنصب لنا أفخاخًا كما يقول كافكا الذي عبّر عن خصوصياته من خلال القصائد؟ وهل يجب أن يقول الشاعر تفاصيله في القصيدة؟

“معز ماجد” الكلمات لا تقتصر على معانيها.

إن اللغة تحمل في طياتها عوالم خاصة بها، ففي اللغة مخزون حضاري وذاكرة جمالية واختزال للفكر والفلسفة. من هذا المنطلق الكلمات، وبصفة عامة لغة الكتابة، تؤثر في لسان الشاعر وفي فكره ومهجته.

نحن لا نفكر بالطريقة نفسها في لغة أو في أخرى لذا نحن لا نكتب النص نفسه في لغة أو في غيرها.

قد يعتبر البعض أن الشاعر يطوع اللغة وهذا صحيح إلى حد ما… لكن اللغة بدورها تؤثر من خلال المخيال المضمّن فيها وعبر مخزونها الثقافي والأدبي، والديني حتى، في النصوص التي تكتب فيها.

حتى موسيقى الكلمات تؤثر في مصير النص ومآل معانيه. وهذا أثبتته دراسات قام بها نقاد اهتموا بمسودات الكتابة التي تركها وراءه “مالارميه” إذ اتضح أنه في أغلب الحالات كان يقتفي أثر موسيقى الكلمات حتى وإن تطلب منه الأمر تغيير معنى القصيدة وموضوعها فقط ليحافظ على موسيقى اللغة.

من هذا المنطلق يمكن أن أوافق فكرة أن الكلمات تنصب فخاخًا. لعل النص الناجح هو الذي يحقق توازنا بين رغبة اللغة الجامحة ومخيال الشاعر الذي يحاول تطويعها.

“الحصاد” الحديث عن معز ماجد هو حديث مربك مخاتل؛ لأن الأمر يتعلق بجغرافيات متجاورة في التجربة وفي انفتاح لغتين على بعضهما البعض. كيف تنظر إلى كتابة الشعر من داخل الوعي الكوني وإلى الحدود الفاصلة بين الشاعر والآخر من خلال الترجمة خصوصًا؟

“معز ماجد” هذه مسألة حساسة كثيرًا ما حيرتني وما زالت تحرجني حين أفكر في تجربتي الشعرية ومكانتها من هذه الجغرافيا المتجاورة ومن الجسور الممتدة بين اللغات والثقافات.

كثيرًا ما أتساءل عن موضعي في الشعر وعن جدوى ما أكتبه بمهجة عربية، مغاربية (وأعني هنا أننا في المغرب العربي ورثة الأندلس)، وفي نفس الوقت بلسان فرنسي خالص.

أضف إلى ذلك تجاربي في الترجمة بين العربية والفرنسية حتى أنني صرت في بعض الحالات أكتب بعض القصائد مباشرة بالعربية.

في أي ضفة تراني أكون؟ وما جدوى هذه الكتابة الهجينة؟

يقول لي بعض قرائي الفرنسيون أن هذا النص جديد بالنسبة للذائقة الغربية لأنه يمتاز بنكهة مغايرة تمامًا للكتابة الفرنسية المحضة فهو بكل تأكيد لا يمكن أن يكون نصًا ناتجًا عن مخيال غربي فرنسي وفي نفس الوقت هو مكتوب في لغة فرنسية خالصة وهو لا يعاني بعض عاهات النصوص المترجمة.

ومن جهة أخرى، أنا حريص دومًا على ترجمة نصوصي ونشرها في منصات عربية حتى أنني نشرت مختارات من شعري عن دار الأهلية بعمان تحت عنوان “غير بعيد من هنا”.

ومعلقًا على صدور هذا الديوان “العربي” كتب لي الناقد السعودي الكبير، العلاّمة عبد الله السفر يقول:

 “الكثير من الشعر العربي الذي نقرأه مطبوعًا أو في الفيسبوك والمواقع الإلكترونية، … كثير منه يأتي ملتصقا بقنطرة ضخمة من الشعر المترجم من جميع اللغات (الفرنسية والإسبانية والإنجليزية والإيطالية) … وبالنسبة إلي هذا لا يقدح في أصالته إن كان جميلًا ولا يدخل علينا من باب الكيتش… أنت آلتك الإبداعية فرنسية … ولنا أن نقرأك بعد ذلك مترجمًا إلى العربية… أنا أحب لك ذلك.”

كلامه، في الحقيقة رسّخ قناعتي بأن الحيز الذي يتموقع فيه شغلي على الكتابة (وربما يومًا ما منجزي الشعري) هو ذلك الجسر الذي كان جبران أوّل مشيّديه.

أحب تلك الفكرة التي توحي بأنني من تلك الفئة من الشعراء الذين حملت عليهم مهمة تلقيهم المخيال الشعري في الجهتين من خلال هذا الجسر بين الثقافتين بعوالم الشرقية الهوى وغربية اللسان والمعاني.

“الحصاد” في قصائدك حنين وعودة في الزمن. هل يمكن لهذه الذاكرة التي تستعيد الماضي أن تساهم في تجديد الواقع أو بناء واقع جديد؟

“معز ماجد” أنا فعلًا مهووس بالذاكرة وبعلاقتها الوطيدة بالمكان.

في كتاباتي أشتغل كثيرًا على مفهوم المكان وفتنته. ومن المعلوم اليوم بحكم ما نعرفه عن فلسفة الوجودية وفكر هايدغر أن لا معنى للمكان في معزل عن الذات.

فإن نحن جردنا المكان من ذاكرته أو بالأحرى من ذاكرة ومن روح من يسكنه فلن يبقى منه إلا بعده المادي البحت. إن فعلنا هذا يفقد المكان كل أبعاده الروحية والعاطفية والتاريخية ويتجرد من طاقته “الشجنية” إن صح التعبير.

اشتغلت كثيرًا في ديواني الأخير “يعسوب” الصادر عن دار آل دانتي الفرنسية في ٢٠٢٢ على هذه الديالكتيك الخاصة بالمكان وبالذاكرة والعلاقة بينهما. وحاولت ربط هذه المسألة بالواقع الذي نعيشه اليوم في تونس في مواجهة قاسية بين الماضي والحاضر.

لذلك، قد يتخيل لقارئ أن هذا الخطاب الشعري يقتصر على الحنين للزمن القديم. لكن هذه القراءة مبتورة نوعا ما إذ أنه يكفي أن نضخ الحنين إلى الماضي وإلى أماكنه في مواجهة مع حاضرنا اليوم لكي تظهر للعيان الهوة الشاسعة التي تفرق بينهما.

ومن خلال هذه المواجهة بين الحنين إلى الماضي وأماكنه من جهة وروع المتأمل في حاضرنا اليوم والإحساس بالذنب إزاء الأجيال القادمة من جهة أخرى، هنا يتبلور موقف وخطاب سياسي أمام القارئ في آخر المطاف.

لكل هذه الأسباب أنا أعتبر أن “يعسوب” ديوان يحمل بعدًا سياسيًا في خطابه المخفي تمامًا كما كان “أناشيد الضفة الأخرى” من قبله، بل هو تكملة له.

“الحصاد” في قصائدك عالم وراء العالم، صور تبدو خارجة من متخيّل لديه الكثير ليقوله بعد. ما الذي لم يقله معز ماجد بعد وهل ستفتح الباب أمام القارئ ليشاركك هذه المناطق الخفية التي تحدث عنها مالارميه؟

“معز ماجد” في الحقيقة لا أحد يعرف ما لم أقله بعد. ولا حتى أنا…

هذا مطمئن إلى حد ما، لأنني لو كنت أعرف كل ما لدي لأقوله فهذا يعني نهاية الشعر.

ليس هنالك تعريف للشعر طبعًا، لكن يمكننا أن ندرك بعض ميزاته… ومن بينها على ما أظن، هو كونه تنقيب في الذات.

لذلك، فلنترك الأمر على شاكلة الإمام مالك حين قال “دعها حنى تقع!”

“الحصاد” إنّ من يقرأ قصائدك ينتبه إلى مساحات التخييل التي تحتوي صورة المرأة المستمدة من الواقع والمرأة المتخيلة أو لعلها المرأة الحل.  فما هو الدور الذي تتخذه المرأة في ثراء جمالية قصائدك؟

“معز ماجد” نحن التونسيون لنا علاقة خاصة بالمرأة كما تعرفين, فحضارتنا أسستها امرأة أسطورية وهي الأميرة “ديدون” وكل اللحظات المفصلية في تاريخنا تقريبًا كانت فيها للمرأة أدوار البطولة وأذكر منها الكاهنة وأم ملال والجازية الهلالية وأروى القيروانية على سبيل المثال…

لذلك فللمرأة في مخيالنا وواقعنا مكانة خاصة.

لعلني لذلك كتبت في إحدى قصائدي؛

“أيتها الأميرة ديدون

يا أمي وأختي وابنتي

لعلك كنت تبكين وأنت تريننا نباد”

“الحصاد” هل الشعر بخير؟ ماذا تقول للذين يرون سوادًا في أفق الشعر؟ وأين جمهور الشعر الحقيقي اليوم؟

“معز ماجد” تاريخ الشعر حافل بالأزمات وفي كل مرة كان هنالك من يتنبأ له بالاندثار لكن برغم كل هذا فهو لا يزال هنا يشغل الفضاء العام بدرجات متفاوتة حسب الفترات والجغرافيا.

قدرة الشعر على تجاوز المحن تكمن في هوسه الدائم بمساءلة نفسه وإعادة بناء خطابه الجمالي. قد يرى البعض في ذلك أزمة وسوادًا في أفق الشعر لكنه في الحقيقة يتغذى من ذلك. فالشعر اليوم غير مسالكه بطريقة جذرية في حين أن البعض ما زالوا ينتظرونه فوق المنابر على الطريقة التقليدية.

الشعر اليوم غزا الفنون الأخرى إذ أنك تجدينه في السينما وفي الفنون التشكيلية وفي الرقص والفنون الركحية كما تجدينه في الرواية وفي الموسيقى وحتى في الموضة.

الخطاب الشعري تغير وتأقلم ليصل إلى المتلقي بطرق متجددة ولو أننا أمعنا النظر في أي خطاب فني جمالي لوجدنا الشعر كامنا فيه.

“الحصاد” قمت بترجمة مشتركة لديوانك مع الشاعرين والمترجمين محمد الغزي ومحمد ناصر المولهي. إلى أيّ مدى تختلف نظرة الشاعر إلى قصيدته وفهم المعنى البعيد في الترجمة عن نظرة مترجم آخر؟ ماذا تقول عن هذه التجربة؟

“معز ماجد” الشاعر حين يشرع في ترجمة نصوصه بنفسه, كثيرا ما يقع في فخ إعادة الكتابة.

وأنا لجأت لصديقي الشاعر الكبير محمد الغزي لأمنع نفسي من إعادة كتابة النصوص التي أردتها مترجمة إلى العربية. كانت تجربة مثرية جدًا إذ أن تلك الورشات التي أجريتها معه كانت فرصة لتفكيك النص والخوض فيه مع شاعر مبدع ومثقف كبير من حجم محمد الغزي.

“الحصاد” حضرتك مؤسس مهرجان سيدي بو سعيد الدولي وتستضيف شعراء عالميين حيث الانفتاح على جغرافيات أخرى. ما هي أهمية خروج القصيدة إلى الشارع وتعاطيها مع المتلقين؟ ما هو التطور الذي ستضيفه للمهرجان في المستقبل؟ أو ما هي رؤيتك المستقبلية له؟

“معز ماجد” الفكرة المحورية في مهرجان سيدي بو سعيد هي الخروج بالشعر من الفضاءات المغلقة إلى الساحات العامة والاحتكاك بجمهور هو ليس بالضرورة جمهور الشعر. فتكون القراءات في المطاعم وفي المقاهي و في الحدائق العمومية للمدينة.

إضافة إلى ذلك, فإن المهرجان يحاول أن يجمع بين شعراء من ثقافات ومن لغات مختلفة حتى يتحقق حوار حقيقي بين الشعراء واطلاع على ما يكتب في مختلف أنحاء العالم.

في ما يخص التطور المستقبلي للمهرجان، فرأت لجنة المهرجان أن لا يقتصر على موعده السنوي وأرادت له أن تكون هنالك دورات مصغرة على مدار السنة. هذه الدورات المصغرة “الشتوية” هي فكرة الشاعرة والإعلامية آمنة الوزير وهي التي تسهر على برمجتها.

في 8 مارس الفارط نظمنا قراءة بمناسبة اليوم العالمي للمرأة دعونا فيها مبدعات من مختلف المجالات مثل السينما والفنون التشكيلية والشعر طبعًا.

نحن اليوم نفكر أيضًا في الخروج بالمهرجان إلى حيز جغرافي أوسع لا يقتصر على قرية سيدي بوسعيد. تونس غنية بمواقع ساحرة ويمكن لمهرجان سيدي بوسعيد أن يتجدد بالخروج إلى جهات أخرى مثل تونس العاصمة والحمامات والقيروان وغيرها من المدن.

“الحصاد”  نريد أن تضعنا في أجواء الشعر التونسي اليوم وتأثّر القصيدة بالأوضاع السياسية والاجتماعية؟ وماذا عن النقد في تونس اليوم؟

“معز ماجد” إن ما عاشته تونس منذ 2011 من تقلبات سياسية واجتماعية كان بمثابة الزلزال الذي غير جذريًا حياة الناس ونظرتهم لمجتمعهم. وطبعًا كان لهذا الزلزال وقع كبير على كتابة الشعر في البلاد.

ويمكن القول أن هنالك جيل كامل من الشعراء خرج للعيان بعد 2011 و بطبيعة الحال كتابات هذا الجيل تتسم بوعي سياسي حاد مستمد من واقعهم الذي يعيشونه يوميًا. لكن في نفس الوقت لم يتمكنوا كلهم من تفادي فخ الخطاب المباشر والمطلبية الساذجة.

في نفس الوقت نجحت بعض الأسماء في إفراز خطاب جمالي متماسك يتغذى من القضايا السياسية والمجتمعية المطروحة يوميا لكنه لا ينحصر فيها.

أما النقد فهو للأسف الحلقة الضعيفة في المشهد التونسي. طبعًا هنالك بعض النقاد المهتمين بالحركة الشعرية في تونس ولكنهم يعملون بطريقة منعزلة متقطعة في أغلب الأحيان. لذلك تفتقد الساحة إلى حركة نقدية جادة وموضوعية للأسف.

أما الجامعة التونسية فهي لا تهتم كثيرًا بالحركة الشعرية المعاصرة في تونس, وهذا أمر مؤسف إذ أنه من المهم أن يتطرق الأكاديميون إلى الحركة الشعرية التي تنبض من حولهم حتى لا يبقون في حلقة مفرغة من المواضيع المكرسة.

“الحصاد” ثمة ظاهرة انتشار شعراء المنابر في المهرجانات العربية. ماذا عن قصيدة النثر اليوم؟

“معز ماجد” أعتقد انه حان الوقت لتجاوز هذا الصراع بين الشعر الموزون والشعر بالنثر. وهو على فكرة صراع يختص به الشعر العربي دون غيره.

كلنا نحب الشعر القديم ونعتز بتراثنا الشعري كما أننا نحفظ منه الكثير كما أنني أعتقد أنه من الظلم اتهام شعراء قصيدة النثر بأنهم معادين للتراث أو أنهم غير قادرين على النظم.

لكن ما يزعجني في هذه الظاهرة التي تدعم شعر المنابر عبر البرامج التلفزيونية والجوائز السخية، هو أنها تختصر الشعر في بعده الإيقاعي ما يساهم في حصره داخل الظاهرة الصوتية وهذه كارثة وجريمة في حقه.

إن الموارد التي ينهل منها الشعر العالمي اليوم غنية ومتعددة، منها طبعًا الفلسفة وعلوم الفيزياء وعلوم الأحياء والعلوم الفلكية وعلم النفس والفنون الجميلة وغيرها…

لذلك فإنني أرى أن لقصيدة النثر دور يمكن لها أن تمثله أكثر من غيرها في إفراز خطاب جمالي تقدمي يجدد من خلاله الشعر العربي.

“الحصاد” يعتبر أمبرتو إيكو أنّ الشِّعر لغةٌ تخلقُ المشاعر. فما هي أهمية اللغة وكيف تسعف الشاعر في قول ما تحويه ذاته وتساهم في فتح آفاق التأويل؟

“معز ماجد” أنتمي إلى جيل له علاقة مختلفة باللغة الفرنسية مقارنة بالأجيال السابقة من الأدباء التونسيين ومن بينهم والدي. فأنا مثلا لست قاصرًا باللغة العربية عكس عدد من الأدباء المغاربة الذين يكتبون بالفرنسية. كما أنني مولود في سنة ١٩٧٣ وهذا يعني أنني لم أعرف الاستعمار لذلك فإن علاقتي باللغة الفرنسية وثقافتها هي ليست علاقة المضطهد الذي يتشبه بجلاده.

علاقتي بهذه اللغة وهذه الثقافة هي علاقة متوازنة وندية إلى حد ما.

على فكرة من يتجرأ اليوم على القول أن الثقافة الفرنسية مهيمنة خارج حدود بلادها؟

 إنها هي نفسها تعاني هيمنة اللغة الإنجليزية التي أمتلكها بدوري وأقرأ فيها والت وايتمان وت أس إيليوت وإدغار بو دون حاجة للترجمة.

لكن لغة الكتابة لها تأثير مباشر على محتوى ما نكتبه.

فنحن لا نكتب نفس الشيء في لغة أو في أخرى. لأن اللغة تحمل في طياتها منظومة ثقافية، تاريخية، مجتمعية وجمالية. هي تؤثر مباشرة في نظرتنا إلى العالم.

هي تحتوي على موسيقى خاصة بها، ومفرداتها لها جذور إيثيمولوجية لا يمكن تجاهلها كما أنها تحتوي على وعي ولاوعي جماعيين يؤثران في الفكر وفي الخيال وفي طريقة التعبير عنهما.

هنالك مثال بسيط عادة ما أستعمله لتوضيح هذه الفكرة:

عندما نشرع في كتابة نص ما، في أغلب الأحيان تكون لنا فكرة ضبابية عما نعتزم كتابته ونترك النص يتطور تحت تأثير ما سوف يأتي به السياق. ومن بين العوامل المؤثرة في النص نذكر موسيقى الكلمات مثلا وإيحاءاتها الثقافية. وطبعا هاذان العاملان يتغيران من لغة لأخرى.

فلنفترض أن الكتابة حملتك للحديث عن مفهوم “الخبز” و”الخمر” على سبيل المثال.

فإن كنت تكتب باللغة الفرنسية، فهذه الكلمات سوف تحيلك وجوبًا إلى رموز دينية متصلة بصورة يسوع. ولعلها أيضًا تحملك إلى طبيعة الجنوب الفرنسي وقراه الساحرة مع خبازيها المبدعين وكذلك إلى حقول العنب بجهة “بوردو” مثلا…

وهنا نصك سوف يذهب في اتجاه معين تحت تأثير كل هذه الصور والمناخات التي أتت بها اللغة إلى مخيلتك.

فلنفترض الآن أن الفكرة الأولية نفسها تأتي إلى الكاتب نفسه وأن هذا الأخير يختار كتابة نصه بالعربية.

أظن أن الإيحاءات الأولى التي قد تخطر في باله سوف تكون لها علاقة بالمحرمات وبالسكر وأبيات أبي نواس وقد يذهب أيضًا إلى مفاهيم صوفية فيستحضر أبيات الحلاج أو ابن الفارض.

وبناء على ذلك سوف يكون نصه مختلفًا تماما عما كان ليكتبه إن هو كان اختار اللغة الفرنسية للتعبير عما يخامنه.

لذلك فإننا لا يمكن أن نكتب نفس الشيء في لغة أو في أخرى.

لهذا أقول أن الشاعر لا يكتب بمفرده، هو يكتب في حضرة اللغة وفي حضرة أسلافه فيها. وهكذا نجد أنفسنا في اتصال بمقولة غليسان وبأبيات طاغور التي استشهدت بها.