الشاعر الفلسطيني عبدالله أبو بكر لـ”الحصاد”: الزمن الذي نعيشه ليس مغرياً للشعراء وتقع على عاتقنا مسؤوليّة ما يحدث في العالم
قابلت شعراء وتحدّثت إليهم مطوّلاً، لكنني لم أجد شعراء أصدق تعبيراً من هؤلاء الذين ولدوا من رحم الظلم وأرض الحضارة، فلسطين، فهم أكثر تفهماً وأبهى حضوراً، كلماتهم تفيض بالإحساس عند الحديث عن الوطن، الشتات، التهجير والعدوان، من الصعب إخفاء هذا الشعور الذي يسبق كلماتهم. وفي هذا الصدد كان لنا حديث خاص مع الشاعر

والإعلامي عبدالله أبو بكر، ابن مدينة جنين الفلسطينية، حدّثنا خلاله عن كيف كان للشعر سبب له في زيارة الوطن، وكيف عبر في بحور الشعر منطلقاً من واقعه، الذي تعلّق منذ البداية بالشعر والكتابة.
أمّا في التفاصيل، فإن الشعر بالنسبة لعبدالله ليس محطّة وصول أو عبور، أو مقدمة للانطلاق إنما مساحة تشغل حياة صاحبها وتصيغ رؤيته بصورة أكثر إبداعاً.
ماذا يقول الشاعر عبدالله أبو بكر عن واقع الشعر في ظلّ كلّ الأحداث التي جرت في العالم خلال السنوات الأخيرة، ويجيب عمّا إذا كان للشعر اليوم مقدرة على التأثير كالسابق. تابع معنا تفاصيل الحديث للمزيد.
- “الحصاد”: لكل شاعر تجربة، ولكل تجربة تفاصيل.. كيف تصف تجربتك الشعرية؟
- تجربتي تدور كثيراً حول شاعرها، هكذا أردت لها أن تكون من البداية، وحتى هذه اللحظة لم يطرأ أي تغيير على تلك الرؤية أو الإرادة.. قد يفسّر البعض ذلك بأنه شيء من الغرور، أو الانغلاق.. أو حتى الانقلاب على منطق الشعر والكتابة التي هي مساحة للتفاعل والتواصل لكنني في الواقع لم أكتب الشعر من أجل أحد، كان الأمر مجرد مصادفة، قادتني إلى مساحة واسعة لم أكن أراها أو أعرفها قبل القصيدة.. حينها قرّرت أن أكتب الشعر كي أبتعد بنفسي عن كل مساحة ضيقة. كتبته لأخرج من دائرة الفكرة الواحدة والصورة والواحدة. أصبح لديّ فهم جديد عن الأشياء من حولي.. أمي، المرأة، البهجة، الحرية، الحب، المعنى، الحواس، الجسد، الوطن، الإنسان، الشجرة، الحجر، السماء، البحر، المعتقد، الإيمان والخالق.
- “الحصاد”: ما الذي يحثّك على الكتابة؟
-
كلّ شيء من حولي قادر على بناء الكلام، معنًى فوق معنى. فالشّاعر بَنّاء مُجيد، فهو يبني عبر أحجار المفردات وحبال اللغة. ما يحثني على كتابة الشعر تفاصيل الحياة باختلافها ودهشتها، وحده الشعر هو القادر على الوصف والاصطياد والقنص والوصول والإدهاش، أي القادر على تغيير كل شيء.
- “الحصاد”: تتمتع كتاباتك بقوة واقعيّة وقدرة على ترجمتها بحرفيّة من دون أن تنفصل عن المشاعر. كيف توازن بين كل ذلك في قصائدك؟
- الواقع ابن القصيدة. لكنه واقع خاص ومفارق، واقع يقيم في منازل الخيال، ينمو ويكبر بين مساحاتها بحيث لا
ديوانه الحديقة داخل البيت يقفز من نوافذها أو يخرج من أبوابها ليسكن خارجها. هو الواقع الذي لا يمكن لأحد أن يبصره أو يخلقه إلا إذا كان شاعراً. في الشعر مثلاً يمكن للسماء أن تصبح خضراء لا زرقاء، من دون أن تتحوّل إلى حقل أو حديقة! وفيه يمكن أن يتحرّك كل شيء من مكانه، الوطن، البيت، القلب وكل شيء ساكن أو ثابت، ذلك أن الشعر هو الحركة.
“الحديقة داخل البيت كانت بطاقة العبور الوحيدة التي منحتني فرصة أن أرى بلادي”.
- “الحصاد”: مجموعتك الشعرية الأخيرة “الحديقة داخل البيت” الصادرة عن الهيئة المصرية للكتاب 2017، فيها الكثير من الدفء والخصوصية والذكريات. حدّثنا عنها.
- هذه المجموعة منحتني الفوز بجائزة الدولة في فلسطين فئة الشعراء الشباب، والتي أتاحت لي فرصة أولى لرؤية بلادي التي لا أعرفها. نجحت هذه المجموعة بأن تكون بطاقة العبور الوحيدة والآمنة لمسافة طويلة من الحروب والشتات.. تلك المسافة التي كان من المستحيل قطعها أو تجاوزها من دون التعثر بآلة الحرب والقتل والاحتلال الذي حرم الكثيرين مثلي رؤية بلادهم.
- “الحصاد”: لم يصدر لك أيّ كتاب آخر منذ عام 2017؟
- نعم، لم يصدر لي أي كتاب شعريّ جديد منذ ذلك التاريخ. باستثناء مجموعة مختارات بعنوان “يشربُ من زجاجته الفارغة” عن دار خطوط وظلال. لقد أنشأت عائلة صغيرة، لديّ الآن صوفي وجبران. أردت الاهتمام بأسرتي، ولم يكن ذلك سهلاً على الإطلاق. لأنني على يقين بأن الأبوّة ليست مجرد محطّة، إنما هي أكثر من ذلك بكثير، رعاية وعناية ومراقبة وحرص وشغف واهتمام وطاقة هائلة من المحبة والمشاعر التي لا يمكن أن يكون لها شريك آخر. ابتعدت عن الأنشطة الشعريّة لأسس فضاء شعرياً يتجاوز حدود الورق وسقف المفردات، ابتعدت عن أي مشاركات وقراءات وحوارات وما إلى ذلك عبر أكثر من ثماني سنوات.
كما أن هذا الزمن الذي نعيشة اليوم، ليس زمناً شعرياً، ليس زمناً مغرياً للشعراء. لا يعني ذلك أنني توقفت عن الكتابة، فبعد كل هذه السنوات أصبح لديّ الآن مجموعة شعرية بعنوان “أيتها الأرض توقفي عن الدوران في رأسي”، وستتمّ طباعتها ربما في فصل الصيف.
“الزمن الذي نعيشة اليوم ليس زمناً شعرياً.. ليس زمناً مغرياً للشعراء”
- “الحصاد”: يُقال إن الزمن الحالي لا يظهر الشعر في الواجهة كما كان سابقاَ، لكنه ما زال حاضراً. كيف تُعلّق على ذلك؟
- كانت لي زاوية في إحدى المجلات الثقافية، ومن خلالها كنت حريصاً على كتابة سلسلة مقالات ترصد الواقع الشعري في عالمنا العربي، واحد منها كان تحت عنوان “أزمة شعراء لا أزمة شعر”. هذا العنوان المختصر قد يقول الكثير عن واقعنا الشعري، الأزمة لا تتعلق بالقصيدة ولا بالشعر ومضامينه وأشكاله.. إنما تتعلق بالشاعر، قبل أي شيء آخر. الشاعر اليوم يقف في جهة بعيدة عن تلك التي وقف عليها الشعراء الكبار من قبله. اليوم لا يبحث هذا الشاعر في اللغة والقصائد بقدر بحثه عن مكتسبات أراها بسيطة وضيقة. ربما هناك ظروف دفعت الكثيرين إلى ذلك ويمكن تفهّمها.. لكن في النهاية أنتجت تلك الظروف كتّاب شعر لا شعراء. أصبح الشاعر في يومنا هذا مفتقداً لما يمكن أن نسمّيه “الشخصية الشعرية”.
- “الحصاد”: شهدنا عدواناً كبيراً على أهلنا في قطاع غزة، قتل وتهجير وظلم، كيف تصوّر هذا الألم كشاعر؟ وماذا تقول عنه؟ وهل يملك الشعراء أو الكتّاب مساحة للتأثير في الرأي العام في مثل هذه الظروف؟
- ظلّ الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش يرى في الشعر والكتابة شكلاً من أشكال المواجهة في الحالة الفلسطينية وأعتقد أنه هو الذي قال: “عظمة هذه الثورة أنها ليست بندقية .. فلو كانت بندقية فقط، لكانت قاطعة طريق، ولكنها ريشة فنان وقلم شاعر ومبضع جراح وإبرة لفتاة تخيط قميص فدائييها”. كان ذلك في عهد درويش طبعاً ومعه القاسم ومريد البرغوثي وزكريا محمد وغيرهم. لكن اليوم، وبعد إبادة وعدوان داما حوالي 16 شهراً نتج عنهما استشهاد أكثر من 50 ألف إنسان وتدمير مدينة بكاملها. لا أعتقد أن الشعر العربي استطاع أن يكون طرفاً لصالح القضية الفلسطينية في هذه الجولة من الحرب الممتدّة لأكثر من 70 عاماً، فكل ما قرأناه لم يستطع التعبير أو حتى وصف ما تعرض له أهل القطاع. بل وبعيداً عن الشعر والكتابة لم نتابع مواقف عامة للشعراء يمكن القول إنّها كانت بحجم الحدث.
ونحن الشعراء مسؤولون عن ذلك بطيبعة الحال، أستحضر عبارة للألماني بريخت: لن يقولوا كانت الأزمنة رديئة، بل سيقولون لماذا سكت الشعراء!” ربما هذا أيضاً يُحيلنا الى الإجابة السابقة التي قلت فيها إننا اليوم أمام “كتّاب شعر” لا شعراء.
- “الحصاد”: ما الذي يجعلك تتوقف عن الكتابة؟
- عندما أشعر أنني تخلّيت عن شخصيتي كشاعر.
- “الحصاد”: بين العمل الإعلامي وكتابة الشعر فوارق كثيرة. كيف قاربت بينهما؟
- الشعر هو الذي دفعني للعمل في مجال الإعلام. والإعلام الثقافي تحديداً. شهادتي الجامعية في الاقتصاد لم تصلح لأن تكون دافعاً للعمل بالنسبة لي. قصيدتي هي التي طرقت تلك الأبواب، ومنحتني الفرصة لبدء الحياة المهنية. كل ما حولي كان مرتبطاً بالشعر. لذلك أكرّر ما قلته إن الشعر منحني كل شيء. لا أحد قدم لي كل ذلك غيره هو. العمل في المجال الإعلامي، جميل في أكثر من اتجاه. لكن عملي كان في الصحافة الثقافية والشعرية على وجه الخصوص. كان ذلك عبر أكثر من مجلة شعريّة وصفحات ثقافية في صحف متعددة. منحني العمل في الإعلام الثقافي فرصة للتعرّف على أسماء جميلة وقرّبني أكثر إلى الحياة الإبداعية.