الشاعر والمترجم المصريّ أحمد زكريا

الترجمة سفرٌ بين هويّتَيْن

الشاعر والمترجم المصري أحمد زكريا، يعمل باحثا متخصصًا في الشأن الثقافي التركي، صدر له مجموعة شعريّة بعنوان  ” جداليّة” عن دار المحروسة في القاهرة، العام 2009. وقد حصل على جائزة متحف محمود درويش الشعريّة لعام 2015، غادر مصر عُقب أحداث ثورة يناير متوجهًا إلى تركيا العام 2013، وهناك ارتمى في أحضان الأدب التركي، ونشط في ترجمات شعريّة لشعراء أتراك مغمورين، ثمّ توّج علاقته بالأدب واللغة التركيّة وتزوّج من المترجمة والمؤلفة التركيّة ملاك دينيز أوزدمير، ليبدآ معا رحلة الترجمة إلى العربيّة، ورفدا المكتبة العربيّة بعناوين مهمة منها: “ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت” لأورهان كمال، رواية “الشيطان الذي بداخلنا” لصباح الدين علي، “أنطولوجيا الشعر التركي الحديث”، “الدنيا قِدرٌ كبير وأنا مِغرفة .. رحلة مصر والعراق” لعزيز نيسين، رواية “عزيزي الموت الوقح” للكاتبة لطيفة تكين، ثمّ عاد إلى الشعر بالمجموعة الشعريّة الحديثة الصادرة عن دار النهضة العربيّة لبنان، “ما لم أستطع قولَهُ لأحدِهم بلغةٍ أخرى”.

في حديث للحصاد، يحكي زكريا عن قليلٍ من تجربته الجامعة مع الترجمة والشعر، عن الهويّة والغربة وعن الحنين للبلاد وناسها، عن المرأة وحضورها الذي يُشكل ملجأ ووطنًا بديلًا لمن نفته البلاد أو نفى نفسه عنها عتبًا وملامة.

بداية الرحلة

          تشكّلت علاقة زكريا بالأدب، منذ الصغر، وهو مواليد العام 1984، وكان الشعر ملاذًه الذي مرّ بمحاولات لم تلق التوثيق حتى وصوله إلى المرحلة الجامعيّة، وكتابة ديوانه الأوّل ” جداليّة” العام 2009: “تعلَّقتُ بالقراءة منذ الصغر، ربما بسبب فشلي في لعب كرة القدم مع الأطفال، وهي اللعبة التي يعشقها الجميع، وبفضل جدِّي لأمي أحببتُ قراءة الأدب بشكل عام، وبالأخص الشعر الذي جذبني أكثر من أي لون أدبي آخر. حاولتُ في فترة مبكرة من حياتي أن أقلِّد القصائد التي أحبها، لكن المحاولات الجادة بدأت في الجامعة مع دراستي للأدب العربي.”

غادر زكريا مصر عُقب أحداث ثورة يناير، يقول في إحدى أسطره الشعريّة: “لم أشهد بمصر/ سوى البكاء على زمنٍ ضائع”. وكانت الوجهة تركيا:

” من الممكن أن نسميها “صدفة مدبرة”، بمعنى أنني كنتُ أريد أن أغادر مصر إلى أوروبا فنصحني صديق مقرب وهو ألماني من أصل تركي أن أذهب إلى تركيا-( وقد أشار له في قصيدة بعنوان “اختبأنا في لغتنا الخاصة” حيث يقول في سطرٍ شعريّ: ” وأنتَ اوّل من فتح لي خريطة العالم..”)-.

وعن اختياره العمل في الترجمة، يُضيف:  “فكَّرتُ في الأمر وشعرتُ بوجود فراغ كبير في مجال الترجمة بين التركية والعربية، وأنني من الممكن أن أعمل لاحقاً في هذا المجال. إذن الصدفة كانت اختيار تركيا، ولكن عندما جئتُ إلى هذا البلد متعدّد الثقافات تعلَّقتُ كثيراً به وبثقافته، وحاولتُ قدر استطاعتي أن أجتهد في تعلُّم اللغة التركية والتعرُّف على هذه الثقافة الجديدة، والاطلاع على الأدب التركي، ومع الوقت ازداد شغفي بالثقافة التركية ومع الوقت صرتُ مترجماً متفرغاً  للأدب التركي وباحثاً في الثقافة التركية. “

الصُدفة من الترجمة إلى الحُب..

توّج زكريا علاقته بالأدب التركي بالعديد من الترجمات إلى العربيّة، وكانت المترجمة ملاك دينيز أوزدمير رفيقة الترجمة والحياة، تعارفا وتحابا وشغفهما الحُب أدبًا، فكان النتاج جسرًا بين بلدين وبين هويّتين، وعن هذه التجربة يقول:

“هذه هي الصدفة، وربما هي أجمل صدفة في حياتي. أقصد ارتباطي بالمترجمة ملاك دينيز أوزدمير، وكانت قبل تعارفنا مهتمة كثيراً بالثقافة العربية، بحكم دراستها للغة العثمانية وشغفها بالتعرف على الأدب العربي. هي عرَّفتني على الأدب التركي، وأنا بدوري عرَّفتُها على الأدب العربي، وبدأنا في ترجمة أول كتاب لنا وهو “ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت” للروائي أورهان كمال. وعندما وجدنا اهتماماً كبيراً بالكتاب الذي صدر عن دار المتوسط في ميلانو، قررنا أن نتبعه بكتاب آخر، وهكذا، حتى وصلت عدد ترجماتنا حتى الآن إلى أكثر من عشرين كتاباً. بالتأكيد كانت هناك عوائق في بداية الطريق، كالتعرُّف على دور النشر وإقناعها بترجمة عمل ما. أما الجانب الجيد في الأمر فهو عملنا بشكل مشترك، مما يجعل الترجمة أكثر دقة، لأن لغتها الأم هي التركية ولغتي الأم العربية. “

بعيدًا عن الساياسة ومنغصاتها، يشق زكريا وزوجه طريقهما في الترجمة مع كلّ ما يعنيه الطريق من معوّقات وميسّرات، إلّا أن الترجمة ليست أحاديّة الاتّجاه، بل هما يجهدا  للتصويب نحو الترجمة عن العربية إلى التركيّة وهو ما تتولى مهمته دينيز كما يذكر:

“بالتأكيد نحن نحاول أن نبني جسوراً حقيقية بين الشعبين العربي والتركي، بعيداً عن السياسة التي تتغير بتغيُّر المرحلة، كما نشاهد الآن. نحن نعرف أن الثقافة تحتاج وقتاً لرؤية نتائجها في المجتمع، لكننا نعتقد أنها الأبقى. أما عن الترجمة المعاكسة من العربية إلى التركية فقد بدأنا بالفعل في ترجمة بعض القصائد ونشرها في المجلات الأدبية التركية لشاعرات وشعراء عرب. وفي هذه الحالة تتحمل دينيز الجزء الأكبر من المهمة، لأن لغتها الأم هي التركية كما ذكرتُ.  “

          ما لم أستطع قوله بلغة أخرى

صدرت المجموعة الشعريّة ” ما لم استطع قوله بلغة أخرى” عن دار النهضة العربيّة في بيروت العام 2024، وتقع في 56 صفحة من الحجم الوسط، وفي عشرين قصيدة  متنوعة الطول والغرض، حضر المكان بكلّ رمزياته وحضرت الثقافة، بكل نوافذها، نهل زكراي من معين التراث التركي، وأهدى قصائدًا لشخصياتٍ لها قصصِها وتاريخها في البلاد من ناظم حكمت، حتى المغني التركي من أصل كردي أحمد كايا، وغيرهم كثير. وحضر سعدي يوسف ليتواسى بغربته: “في أرضٍ غير عربيّة/ يجلس سعدي وحيدًا..”.

تُمثّل هذه المجموعة دليلًا شعريًا يقودنا إلى تجربة زكريا الحياتيّة، وإلى علاقته بالبلاد وأهلها،  إلى جدل الهويّة، والغربة بكل مساحيقها النفسيّة. بين النيل والبوسفور”أريد أن امسك بلحظات الضعف/ وألقي بها في الهواء/ أريد أن أكتب ما لم استطع قوله لحدهم ذاك الصباح”.

 وحضرت المدينة برمزيّاتها المكثّفة: “المدينة كلمة فضفاضة كأحلام الغزاة/ ومعقّدة كالنقوش الحجريّة”، “أبحث عن بلاد لا تحاول أن تحذف الربيع من الكتب المدرسيّة”.  وفي المجموعة نصوص تحررت من قواعد الوزن، ولم تتحرر من قواعد الحنين، تختلط المشاعر في هذه المجموعة، “أشعر أنني واحدٌ من غربائك يا إسطنبول” ويقول في نص آخر: ” لكنّني أموت كل يوم في القاهرة”.  رجل تسكنه بلاده التي شكّلت في ظروف ما محطة غربة، حتى يقول غضبًا وعتبًا: “أيها الوطن أخرجني من رأسك الصفيح”، ويلجأ للنفي في عناوين منها “لا أبحث عن بلادي”، “لا أحمل جراح غيري”.

 وقد تأخر وقت الحنين، فيقول في نص “واحدٌ من هؤلاء”  :  تأخر الوقت الذي سنكون أهدأ فيه/ من خطب الجوامع/ من صلاة العيد في الساحات/ من أهلي على الإفطار/ من كل الشعائر في البيوت/ وفي الشوارع/ في دفء الزيارات الجميلة في المساء/..”  حتى يقول:  “ولا أقول النيل يجري في عروقي/ إنّما يجري دمي في النيل/ حين أحسُّ أنّي واحدٌ من هؤلاء..”

يوحي الديوان بحاجة صاحبه للبوح والركون إلى عربيّته بتلك التفاصيل وذلك الشعور بالحاجة للإخبار، وهو وفيٌّ لبلاده بذلك الحنين الذي يسكن أسطره الشعريّة وذلك العتب الذي يتجلى تساؤلًا: “لماذا أفلت يدي/ عندما بلغت الأربعين يا أبي..” ويقول “لماذا تذبحني في منامك كلّ ليلة”.

وهو الضائع بين هويّتين يُلقي أحماله في إسطنبول، فيحضر معجم الغربة والأقليات، أبناء العشوائيات، المهاجرين، الغرباء.

يؤكد زكريا في حديثه للحصاد، على ما يُخبر به الديوان، عن تلك المشاعر المتضاربة، وعن الصراع بين الحنين والغربة، عن الوحدة بتجلياتها المعرفيّة والنفسيّة، عن الحاجة للانتماء، عن الخيبة  وجروحها: ” لا أحمل جراح غير/ يسعُني جرحي” ، يقول:

“مشاعري مختلطة كثيراً، وقد حاولتُ التعبير عن حالة هذه المشاعر المضطرية بين بلدين، وبين ثقافتي والثقافة الجديدة التي أعيشها، وفي رأيي، المشكلة لا تخصُّني وحدي، لكنها تخصُّ جيلاً كاملاً مثلي من الذين هاجروا في مثل عمري. أنا تركتُ مصر في الثلاثين، وهذا يعني أنني عشتُ نصف عمري، تقريباً، في مصر، وهذا ما يجعلنا، على عكس من هاجروا في سنٍّ صغيرة، نشعر أننا بينَ بينَ. لم نعد ننتمي تماماً إلى بلادنا، ولن نستطيع أن ننتمي إلى البلد الجديد بشكل كامل أيضاً. يضيف: هناك حضور واضح لأماكن وشخصيات تركية، لكنني حاولتُ أن يكوت لها سياقاً شعريّاً، ضمن موضوعات القصائد. “

ويشير إلى أنّ اهتمامه بالشان الثقافي التركي لم يُبعده عن القضايا العربية، ويشغله ما يحدث في فلسطين.

“في الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة؟/ في مأزقٍ كهذا/ كيف أفصل العامّ عن الخاصّ؟”

بين هويّتين..

          يبقى أن الشعوب تتلاقى بآدابها، وهذا ما يُشير إليه زكريا، حيث يقول: “الأدب التركي فتح لي نوافذ جديدة بالتأكيد، وأتصور أن عملي بالترجمة قد أثر، بشكل أو بآخر، على نصِّي. أما عن أوجه التقارب بين الأدبين العربيّ والتركيّ، فهناك تشابه كبير بين الثقافتين العربيّة والتركيّة، بحكم الدين والجوار والتاريخ المشترك لعقود، وهو ما يجعل الموضوعات الأدبية متشابهة. وأحب أن أذكر هنا مثالاً على كاتب تركي مثل عزيز نيسين، تُرجم إلى العربية للمرة الأولى من قبل المترجم الأردني صفوان شلبي ثم بدأ مترجمون آخرون بترجمة أغلب أعماله. وسبب اهتمام القرّاء العرب بقصص عزيز نيسين الساخرة، في رأيي، أنهم وجدوا فيها ما يشبه واقعهم العربي.”

ويبقى السؤال هل أخرج زكريا الوطن من رأسه ، حتى يقول في سطرٍ شعريّ تأفُفيّ ومُتعب: ” أيها الوطن أخرجني من رأسك” ، الجواب كان على لسانه نفيًا:

“لو كنتُ أخرجتُ الوطن من رأسي لما كتبتُ هذا الديوان من الأساس. أنا فقط حاولتُ أن أتعامل مع الحنين بطريقة غير تقليديّة. أردتُ أن أُسائل الحنين إلى الوطن، ومعنى الوطن نفسه، واللغة الأم، إلخ. لا أعرف إذا كان وطني قد قهرني أم لا، قياساً بعشرات الآلاف من المصريين الذين ما زالوا يعانون الآن في ظل ظروف عصيبة..”

يقول في نص بعنوان، “أولد من جديد” : ” كأنّي بغير اللغة الأم/ أصيرُ يتيم المعنى؛/ أتحدّث عن أشياء عامّة/ وأُقارن شمس بلادي بشموس بلادٍ أخرى/ وكأنّ الشمس لكلّ الناس ليست واحدةً”.