“الكونُ نهرٌ وهرَم
إن مِلتَ إلى تتبّع النهر مع الموج رُحت
وإن مِلتَ إلى جهة الأهرامات كنت مع الثبات..
قدر الروح ما تميل إليه”
شكّل الشاعر والمفكّر الفلسطينيّ حسين البرغوثي حالةً شعريّة وذهنيّة خاصّة، لم يحّد نفسه بنوعٍ أدبيّ بل تجاوز شاعريّته إلى الرواية والسيرة الذاتيّة والمسرح والنقد، ليُبدع في نصوصٍ كُلّما مرّ الزمان عليها ازدادت تألُقًا وانزياحًا فنيًّا عميق الأثر.
وُلد في قرية “كوبر” شمال غرب مدينة رام الله في فلسطين العام ( 1954- 2002)، درس العلوم السياسية واقتصاديات الدولة في جامعة بودابست للعلوم الاقتصادية في هنغاريا، لم يستطع الانسجام مع العادات والتقاليد في ذلك المجتمع، فترك دراسته هناك وعاد إلى فلسطين حيث درس الأدب الإنكليزي في جامعة بير زيت. بعد التخرّج عمل مساعدًا أكاديميًا في الفلسفة والدراسات الثقافية، ثم توجّه لمتابعة الدكتوراه في الأدب المقارن في الولايات المتحدة الأميركية.
عن حياته في أميركا يقول في فيلم وثائقيّ: “قضيت سنة لا أعرف أحدًا ولا أتحدّث مع أحد”.
عاش قسمًا من حياته مطاردًا من قبل المخابرات الإسرائيلية. عاد إلى فلسطين وعمل أستاذًا للنقد الأدبي في جامعة بير زيت وأستاذًا للنقد الأدبي والمسرح في جامعة القدس حتى العام 2000.
رحل بعد معاناة مع سرطان الغدد اللمفاويّة في مستشفى رام الله، ولسبب تأخُر علاجه جراء احتجاز قوّات الاحتلال الإسرائيلي جرعة الدواء التي أُرسلت من عمان إلى رام الله عبر جسر الملك حسين، أثناء اجتياح الاحتلال الضفة الغربية لنهر الأردن في فلسطين.
البرغوثي من الرفض حتى السكون
قيل عنه: ” كان أذنًا واعية وشعورًا مرهفًا، ويخاف على نفسه من الجنون والعبث..”
قيسَت حياته على ثلاثة مراحل بين الرفض والقبول فهو القائل: “أحيانًا اللطف مع النّاس جريمة ضد النفس” وقد يكون مصيبًا في مواقف كثيرة، فقد كان في بداياته رافضًا العالم، ثم انتقل إلى مرحلة الاقتراب من العالم بما لا يمس تفكيره، حتّى مرحلة التفكير والسكون.
يقول: “كانت بدايتي في فلسفة الاغتراب الإنسانيّ، اغتراب الناس عن أنفسهم وعن الطبيعة وعن حالهم وعن غيرهم، ودخلت في متاهات كثيرة.. فكتبت حكمة المتاهة من دون أن أكون مبشّرًا لأحد، فلأخلّص ذاتي على الأقل ربما يكون في ذلك فائدة لأحد آخر.” من هذا الحديث نستشف كيف كانت علاقته مع العالم ومع ذاته مرتبكة، وكيف كان واعيًا لهذا الارتباك وجاهدًا لتخليص ذاته من فوضى العالم وجنونه، وهو الذي يكرّر أكثر من مرة في كتابه “الضوء الأزرق” خوفه من أن يفقد عقله.”
يقول عنه الكاتب توفيق زياد: “كانت علاقته بالعالم طفوليّة، وهو رمز للانسجام والتصالح مع الذات. أضاف طابعًا إنسانيًّا على الثقافة الفلسطينيّة.”
لم يحدّ إبداعه في خطّ أدبي أو فنيّ محدّد، فقد تنوّعت إسهاماته، ومشاركاته وأنشطته الثقافيّة والاجتماعيّة أيضًا، فيُذكر عنه أنه كان يقوم بالكثير من المبادرات التعليمية في أحياء رام الله، وكان حريصًا على بث الوعي بأهمية التعليم والعلم في مجتمعه، وقد شغل مناصبًا أكاديميّة وثقافيّة كثيرة، فكان عضوًا مؤسسًا لبيت الشعر الفلسطيني، وعضوًا للهيئة الإدارية لاتحاد الكتّاب الفلسطينيين، ورئيسًا لتحرير مجلة أوغاريت، ومديرًا لتحرير مجلة الشعراء حتى رحيله .
صدر له عدّة مؤلفات منها في الرواية (الضفة الثالثة لنهر الأردن) والسيرة الذاتية (الضوء الأزرق، الفراغ الذي رأى التفاصيل، سأكون بين اللوز) وفي النقد (أزمة الشعر المحلي، سقوط الجدار السابع، الصراع النفسي في الأدب، …) إضافة إلى العديد من الأبحاث والدراسات الفكرية والنقديّة في عدّة لغات.
وقام بوضع سيناريوهات لأفلام سينمائية وكتب نصوصًا مسرحية منها: ( موسم للغرايب، الليل والجبل، وجوه..) ترجمت أعماله لعدة لغات منها الإنكليزيّة والفرنسيّة.
إبداعه الشعريّ
” الشعر بالنسبة لي حوارٌ مرعب مستفز.. إنّه حدس بأنّ كلّ الكون صدفة، وبأنّ الصدفة لا تُفسّره”.
علاقته بالشعر كان علاقة انسجام وتجريب، يقول: ” هناك شعر ذاكرة يستمد حبره من لغة موازية متذكِّرة مفسرَة، وهناك شعرٌ قيمته كلها في الزلزلة إنتاج الزلزلة، ونِتاجُ زلزلة..”
في الآثار الشعريّة الصادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينيّ، بيت الشعر في رام الله، العام 2008، يقول الكاتب مراد السوداني في تقديم الكتاب: ” في بداياته قلّد التراث حتى التعصّب وقلّد البحور الشعريّة، حتى اصطدم بكتابات محمود درويش ومنها مجموعة “عاشق من فلسطين”، فكان بالنسبة له من أعظم الشعراء، تحوَل بعد ذلك إلى كتابة الشعر الحر، ليدرك أن الشعر العربيّ ليس حرًا تمامًا، دفع الشعريّة إلى النثر”، وفي ذلك يقول: “إن كانت النثرية خيار الضعفاء الذين لا يتقنون البحر ولا التفعيلة فيدعون إلى خلاص سهل هو القصيدة النثرية، وغير ذلك من المشاكل.. فإننا نرمي الطفل في الغسيل كما يقول المثل الإنكليزي؟”
كان نتاجه الشعريّ الأوّل ” الرؤيا” العام 1988، وفيها يبسط أفكاره ورؤاه عن العالم وللعالم، بشكل يبدو فيه أنه يتمحوّر حول ذاته، ويستغيث بالأسطورة، كحبلِ منجَاه وكطريقٍ نحو فهم شاعريّته: “هذه التجارب مرّت / وطهّرت نفسي من بقايا التراب، ومن شهوة الحليب / سوف أطفئ نفسي: نيّة، نيّة / ثم أمشي فوق ماء العالم السفليّ: فوقي النواح وتحتي النحيب”.
يعيد النظر في اللغة، ويطوي التراكيب كيف تشاء له القريحة: “أنت/ يا من تعرف كيف ترمي ضحكتها للشمس في الصباح/ إنّك تحزنيني/ ويسيل عليّ حزنك، حصرت كالنّحات، مع كلّ نقشة فيك وضعت دمعة.” ويتجلى الحب لديه كخلاص وحضن احتواء: “وفي كل خطوة نحوك، حتى أمنحك التمثال، وضعتُ إرادة/ جئتك بالفرح الشامل والحزن المطلق/ فاقبليني كما أنا/ قطيع نمور يتضوّر جوعا ويبحث عنك”
وبرومانسيّة غنّاء، وصوَرٍ فائقة الدلال، يقول: “كنت المسافة بين سقوط المطر/ وانبعاث الزهور/ على تلّة تخضرّ تحت قوس قزح”
ولا يخفي فلسطينيّته المسكونة مقاومة، فهو اتّساع الاحتلال، كما يقول:” سوف أخرج من داخل الأرض في الليل…/ كفًّا رخامية تحمل القمر الجديد قدح….”
“وسأخرج من داخل الليل/ قبضة من تراب، فازرعوا في ترابي أصابعكم/ غابة تراب سترمي البلاد إلى الضوء/ فانتظروا تربتي/ واحذروا الانتظار والأزمنة الحالكة.”
كان يحمل فكرًا مقاومًا، وروحًا ثائرة، وانتماء ثابتًا لوطنه وأرضه وذاكرة شعبه الملطّخة بالدّم والظُلم: ” كيف ننسى في السجون بأنّ خلف القفل والمفتاح لونُ الساحة المغمورة الآن بالدم/ بأن خلف الساحة الآن ليلا، وخلف الليل خيطُ ضياء من نجوم بعيدة؟”
المجموعة الشعريّة الثانية له كانت “ليلى وتوبة: قصائد من المنفى إلى ليلى الأخيلية” العام 1993. وفيها يجمع بين التأمليّة الفلسفيّة وإثقال المعنى بالكثير من التفاسير.
” قد قيل لي:/ لا صوت لي/ عبر الحياة، وبعدها نوم بلا صحو/ على أرض بلا قبر/ ..”
يصرّح في حديث عن هذا الديوان: ” أدركت أن اللغة التي نحكي بها هي خارج التجربة وهي لغة حفظناها بشكل أو بآخر.. من هنا لدي شعور أن اللغة والجسد شيء واحد..” لذا فهو يعمَد تجربة النحت في اللغة، وتوليد تراكمات بصريّة وعميقة المعنى: “في القدس، تحت القُبّة الذهب/ لغة الله فوق الجدار الهندسيّ مشرّبةٌ بالأزرق / والأسود، والخمريّ في الميم والراء.”
مجموعة “توجد ألفاظ أوحش من هذه” الصادرة في 1998. وفيها: “انفتح على شعريّة مصدرها نبع الحلم والغموض الشفيف” كما يقول السوداني. يختلط الحلم بالحكمة: “لا تتكئنّ على الريح، هناك جبال تحسبها ثابتة وهي/ تمرق مثل مروق السحاب..” والمعرفة التي تظهر بين طوايا الأسطر الشعريّة، بالقدرة على تطويع العبارة، والتقاط المعنى، كمن يتذكّر حلمه:
” أمرّ على الأرض كأنّي لست معنيًا إذا ما / مررت بأن أدافع عن قطعة الأرض التي/ أوجد فيها، أمرّ على الأرض حتى أودّعها، من عليها ومن فيها…”.
وفي “مرايا سائلة” الصادر عام 2000. وهي المجموعة الرابعة والأخيرة والتي أصدرها قبل رحيله بعامين؛ تأمل حدسي عميق، ومحاولة في التجريب والصناعة، في نص يجمع بين الشعر والسرد، ولو مالت كفّه للشعر ليرجّح شاعريّته، وفنيّته في مزاوجة الأنواع والأغراض الأدبية، وفي التقاط المشهد وتصويره كلوحة مغمورة بالألوان والإيحاءات: ” الشعر حدس النرجس. ترى النرجس نفسها في/ الماء فتسأله: من هي، فيقول لها الماء: إنّها هو.”
“كما يركب الطفل فهدًا عليك أن تركب خوفك/ فقدر/ من لا يستأنف الخطر / أن يحيا خائفا.”
يقول الكاتب محمد الزقزوق في مقالة بعنوان مرايا سائلة الجريان مع سيولة المعنى، المنشور في مجلة رمان العام 2021. “القارئ لنتاج حسين البرغوثي بسردهِ وشعره، يُمكنهُ أن يلحظ بجلاء ذلك المستوى الصوفي المُترسب في قيعان لغتهِ الشعريّة والسرديّة على حدٍ سواء، وهذا ينسجم مع رحلة حسين البرغوثي الطويلة في البحثِ عن الذات، الذات التي فقدها مراراً وأنكرها وتشكك فيها، ثم أعلاها وقدسها، ثم استحالت إلى السكون والموت”.
في مقابلة معه يقول، البرغوثي: ” أعتقد أنني أطرح في نصوصي بدائل رؤيوية، ولا أرى أن الواقع يتطابق مع هذه الرؤى، وهذا هو الحفاظ على استقلالية الرؤيا، وهو لا يعني أن ما هو موجود يتفق مع رؤياي، أو أن رؤياي مألوفة وسائدة. الموقف النقدي عندي يحافظ على مسافة نقدية ورؤيوية كافية، وعلى أفق للمستقبل. في نصوصي تغيّرات جذرية، ودقيقة، نقلات في الوعي، نضوج أكثر، ولكنها ليست نشيداً لما هو سائد إطلاقاً. “.
الكتاب الذي نُشر بعد وفاته “حجر الورد” والذي يروي الكاتب أنس العيلة، في مقالة له بعنوان “حجر الورد: وجهي يحمل أقنعة عدة” في مجلة رمان العام 2021 من شهر آذار؛ كيف كان يقرأ على البرغوثي وهو على فراش الاحتضار في المستشفى وفي مشهديّة مؤثّرة، نصّه الشعريّ هذا : “كنت أقرأ عليه أحب النصوص إلى قلبه مع تقطّع أنفاسه الأخيرة،… دون توقّف أو انقطاع، وبصوتٍ عال.. حتى الإجهاد الذي يخالطه فقدان وشيك… ” هو كتاب نثري متقدّم جدا حقّق حضورًا كثيفا، نُشر في مجلة أوغاريت فيه إيحاءات ورؤى، هو خلف فلسفي وترداد لمؤلفات كتبها نيتشه.
لم يدّع البرغوثي لنفسه صفة الكمال، نصوصه الشعريّة هي بمثابة مرايا لفكره وتراكمات وعيه المثقل بالمعاني، عنه قال الشاعر غسان زقطان: “شتت مشروعه الإبداعي بالتجريب، هو مجرّب كبير، وهو كاتب سيرة من الطراز الرفيع.” ومهما قيل يبقى أنّه صنع مجده وترك أثرًا عميقًا لا يمّحي:” عندي شعور أنني حقّقت شيئًا من حلم قديم، أن لا أمرّ على الأرض من دون أن أترك أثرًا… أمّا لم يكتمل الأثر فقد تنازلت منذ زمن عن فكرة الكمال..”