1.توطئة
تعبر الثقافة عن كلمة تُعد من أكثر الكلمات استخداما، بل وربما غموضا، هذا لتداخلها مثلا مع مفهوم الحضارة، فضلا عن تعدد الآراء التي تناولت معناها. ويحدد أحد الباحثين أن لهذا المفهوم أكثر من مئة تعريف. وسواء تم إدراك الثقافة بهذه الدالة أو تلك، فغني عن البيان إنها تقوم على مكونات متعددة ومتشابكة ومعقدة تشمل كافة شؤون الحياة. وقد عمد المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية، الذي أنعقد في مدينة نيومكسيكو عام 1982, إلى تعريف الثقافة بمثابة: ” التعبير عن السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي يتميز بها مجتمع بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات”.
وبهذا المعنى الواضح، للثقافة وظيفة محددة قوامها إعانة المجتمع على التفاعل مع المعطيات المتجددة للحياة وعلى وفق رؤية شاملة وانماط سلوكية محددة. ولهذه الوظيفة تصبح الثقافة، من المنظور الاجتماعي، بمثابة اسلوب للحياة يتبناه أحد المجتمعات والذي يُعبر عن خصوصيته النفسية والوجدانية والفكرية، فضلا عن تحيزاته القيمية وعلاقاته الاجتماعية.
ولدورها في التمييز بين المجتمعات، تجسد الثقافة، بالحصيلة ائتلافا فريدا بين الروحي الذي يسمو على الواقع، وبين المادي الذي يلتصق بمعترك الحياة، وكذلك بين اللغة باعتبارها أداة التفكير والتواصل، وبين الكلمة التي لا تقوم مقامها وسيلة مماثلة ولا تنوب عنها أداة مرادفة والتي بها أصبح الإنسان إنسانا. هذا فضلا عن انها تشكل ائتلافا فريدا بين العمل بوصفه وسيلة للارتقاء، وبين الإنسان باعتباره ذهنا وعطاء فكر ومصدر للإنتاج، وبين كل هذا والثقافة كأرض ووطن.
بيد أن الوظيفة التي تؤديها الثقافة وأن تؤكد أن بينها والإبداع علاقة وطيدة ، إلا أن الثقافة قد تصبح كابحا جادا للإبداع عندما يصار إلى توظيفها سياسيا لتقنين حرية الفكر وإعاقة التواصل الثقافي مع معطيات عالم اليوم وآفاقه الواسعة، من ثم سبيلا لتعطيل الآخذ بالتليد والجديد، أي الأصالة والمعاصرة … الخ
وعلى الرغم من أن التأثير الإيجابي الممتد للغة العربية والدين والتاريخ قد أفضى إلى أن يتوحد الوجدان القومي بالوجدان الروحي الديني، والوجدان الروحي الديني بالوجدان التاريخي وكذلك إلى أن تستمر الثقافة والهوية العربية تشكلان إحدى الحقائق التي ظلت ممتدة في حياتنا العربية, بيد أن هذا التأثير لا يلغي موضوعيا أن الواقع العربي ينطوي على إشكاليات أدت مخرجاتها ليس فقط إلى دخول العرب في نفق التراجع الحضاري منذ احتلال المغول لبغداد عام 1258صعودا، وإنما أيضا إلى تراجع دور الثقافة والهوية العربية في الارتقاء بالعلاقات البينية العربية-العربية إلى افاق أرحب خدمة لمستقبل عربي يؤمن المصالح القومية والوطنية في أن.
وقبل البدء، نرى أن ألموضوع الذي نتناوله ينطوي على اهمية عالية ذات علاقة وطيدة بالدعوة الى الانحياز العربي الى المستقبل فكرا وسلوكا. ولنتذكر أن هذه الدعوة ليس مردها حاجتنا الماسة إلى تغيير تلك المعطيات السلبية لواقعنا الراهن، التي تعطل من ارتقاء حاضرنا وبناء مستقبلنا وعلى وفق ما نريد، ومن بينها المعطى الثقافي، فحسب، وإنما مردها أيضا اقتران العالم، منذ منتصف القرن الماضي صعودا، بخصائص عملية غير مسبوقة في تحدياتها وفرصها الشاملة، هي تلك التي أطلق عليها المفكر العربي، أنور عبد الملك، تسمية عملية تغيير العالم . وجراء المخرجات المختلفة لهذه العملية، يضحى الاستعداد المسبق للتعامل معها تأمينا لصناعة المستقبل المنشود، أولوية ذات أهمية قصوى. لذا قيل: أن من لا يجعل من صناعة المستقبل، ابتداء من الحاضر، مرجعيته لن يكون له المستقبل.
2.الموقف الثقافي للشرائح الاجتماعية العربية من المستقبل
لقد استمرت المجتمعات العربية ، قدر تعلق الامر بموقفها الثقافي من المستقبل، تحتضن ثلاث شرائح، متباينة الاتساع، تتبنى ثلاث رؤى متناقضة حيال المستقبل. ولا غرابة في ذلك. فالمجتمعات المعاصرة لا تتماثل في نوعية انحيازها إلى المستقبل. ويعد عدم التماثل هذا حصيلة لتأثير مدخلات عدة في تحديد أنماط سلوك افرادها وشرائحها الاجتماعية. ولعل من بين أبرزها المدخل الثقافي، هذا لخصوصية أهميته. وجراء تأثيره، تتوزع هذه المجتمعات المعاصرة على اتجاهين متناقضين: اتجاه يجعل الحاضر والمستقبل امتدادا للماضي، واتجاه يجعل الحاضر منطلقا لبناء المستقبل.
1.2 فأما عن الشريحة الاجتماعية الاولى، فهي تلك التي تتميز بحجمها الواسع وانطلاقها من رؤية فكرية-ثقافية قوامها القياس على ما سبق وبدالة سحب ما كان من أنماط الحياة الماضية على ما هو كائن وكذلك على ما سيكون. ومن ثم رؤية الماضي بمثابة البديل للحاضر والمستقبل، وكذلك كأنه السبيل الوحيد والصالح للتعامل مع ابعاد الزمان: ماضي، حاضر، مستقبل . ولا غرابة أيضا من تبني هذه الشريحة الاجتماعية العربية الواسعة لهذا الموقف الثقافي . فتجربة الحياة تؤكد عموما أن الانسان، لا يستطيع الهروب من تراث الماضي، سواء كان هذا خاصا يتعلق به، أو عاما يتعلق بمجتمعه أو أمته. فهذا التراث، بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات، يشكل جزءا مهما من تاريخ كل إنسان، وكل مجتمع أو أمة . وبالقدر الذي يتعلق بنا، نحن العرب، غني عن القول إننا أمة كانت، في زمان مضى، تصنع التاريخ والحضارة. وهذه حقيقة تاريخية لا يستطيع الانسان العربي نكرانها. لذا لا نستطيع نحن العرب، مثل سوانا، الهروب من الماضي. فالماضي، يستوي وذلك السجل المحفوظ، الذي ُيذكر الإنسان أو المجتمع بإنجازات ماضي الزمان وكذلك بإخفاقاته
وبالقدر الذي يتعلق الامر بنا، نحن العرب، تعد مخرجات العلاقة بين الثقافة العربية والانحياز إلى المستقبل حصيلة لتأثير عدة مدخلات أساسية متفاعلة لا تشجع عربيا على الانحياز للمستقبل، هي: العقلية العربية الشاعرية، والموقف الثقافي العربي من تراث الماضي: الماضوية، فضلا عن الثنائيات الثقافية المتقابلة، ناهيك عن التثقيف الديني المتطرف في شأن المستقبل، فضلا عن التباين الواسع بين مواقف الشرائح الاجتماعية العربية حيال الانحياز للمستقبل.
إن هذه المدخلات، التي تفضي مخرجاتها إلى أن تكون كابحا مهما لكل نزوع عربي يتطلع إلى تشوف المستقبل، تجد ايضا في التأثير السلبي الكامن لثمة معطيات اخرى يتميز بها الواقع العربي المدخل الداعم لاستمرارها وتجذرها. ومثالها انتشار ثقافة تحتكر الحقيقة، وتلغي التجدد، وتنفر من التجريب، وتستريب بالمخالفة، وتقصي الاخر، وتأخذ بالاتكالية، فضلا عن الارتجال في التعامل مع معطيات الحاضر. لذا لا مناص من ضرورة ان يتصالح العقل العربي مع المستقبل حتى يكون الاستشراف، والرؤى المستقبلية والتخطيط الاستراتيجي، عادة ذهنية ابداعية- ابتكارية، له. وبدون ذلك قد نستمر في أن نكون من نمط تلك المجتمعات في العالم التي لا يسود فيها التفكير العلمي في المستقبل، ومن ثم لا تأخذ بتطبيقاته العملية لصناعة مستقبلاتها على وفق رؤيتها وارادتها.
ومع أن الإنسان الواعي لا يستطيع مناهضة سياسة توظيف الماضي التي تأخذ بها حكومات عربية سبيلا لإضفاء سمة الشرعية على ثمة أفعال يُراد تبنيها في الحاضر من اجل تحقيق ثمة اهداف ايجابية منشودة في المستقبل، بيد إن الاسراف في الآخذ بهذه السياسة يفضي، وبالضرورة، إلى مخرجات سلبية عديدة. ولعل من أبرزها الاتي مثلا:
- أولا، الحد، في الأقل، من العلاقة الطردية الموجبة بين التغيير وحركة التاريخ. ولنتذكر أن مخرجات هذه الحركة هي التي، افضت، ولازالت تفضي، إلى التغيير، الذي بدوره يجعل الزمان متجددا. والإسراف في إسقاط الماضي على أزمنة الحاضر والمستقبل اسقاطا غير مدروس يفضي بالضرورة إلى رؤية مجمل أبعاد الزمان وكأنها تستوي، مجازا، والبساط الممتد، الذي لا يتحرك، ولا يتموج، ومن ثم إدراك الزمان وكأنه زمان راكد وبمخرجات لا تساعد، بالضرورة، على الارتقاء بالاستجابة الإنسانية إلى مستوى تحديات عملية تغيير العالم.
- ثانيا، إن الحنين إلى الماضي عندما يكون طاغيا، فإنه يفضي، وبالضرورة، إلى دفع الإنسان إلى الانطلاق من ذهنية معادية للتخطيط الاستراتيجي، هي الذهنية الارتجالية، التي تعطل من قدرة الإنسان على التكيف الكفوء مع استحقاقات حاضر متغير ومستقبل مفتوح ومتعدد الاحتمالات.
ومن هنا، تتناقض العقلية الشاعرية ، في معظم أبعادها، مع العقلية الواقعية، التي تُعد مدخلا أساسيا للعقلية المستقبلية.
- ثالثا، دفع المجتمع إلى العيش في زمان مضى لا يعود ، ومن ثم الحيلولة دون التجديد. والارتقاء في الفكر واساليب العمل، ومن ثم إدامة واقع تراجع المجتمع وتخلفه الحضاري.
وبدوره يشخص ، أحمد أبو زيد، هو الاخر سلبيات سياسة الاسراف هذه، بقوله : ” ليس من شك في أن التفكير الماضوي القانع بما هو قائم ومتوارث…هو بالضرورة تفكير سلبي وانعزالي يخشى الانفتاح على العالم حتى لا يتعرض لرياح التغيير التي تحمل التقدم الذي يهدد بالاندثار الكثير من ثوابت الماضي التي خبرتها مجتمعاتنا وارتاحت اليها رغم تعارضها مع حقائق الحياة الراهنة.”
2.2. وأما عن الشريحة الاجتماعية الثانية، فهي تلك التي تتأسس على رؤية فكرية – ثقافية مختلفة عن الاولى، سيما وإنها تجعل من تأمين مستلزمات العيش في الحاضر وتغليب الاهتمام به على سواه، نبراسا لها. ويعبر، مثلا، الكاتب السعودي عائض بن عبد الله القرني في كتابه الموسوم: لا تحزن، عن هذه الرؤية بقوله: “…اترك المستقبل حتى يأتي، لا تسأل عن أخباره، ولا تنتظر زحوفه، لأنك مشغول باليوم…”
وقد ساعد على انتشار هذه الروية عربيا مدخلان مهمان:
- فأما عن المدخل الأول، فهو يفيد بتجذر تنشئة اجتماعية خاطئة مفادها أن المستقبل هو قدر محدد سلفا ومن ثم هو شأن لا تستطيع الارادة الإنسانية التدخل في كيفية صناعته على وفق ما تريد.
- وأما عن المدخل الثاني، فهو يقترن باستمرار نزوع جل صناع القرار العرب إلى التعامل مع مجتمعاتهم عبر أشغالها بإشكاليات ثانوية ومتجددة سبيلا لأبعاد اهتماماتها عن إشكالياتها ومعاناتها الأساسية، التي استمرت بدورها دون معالجات جذرية حقيقية. وفي حقل العلوم السياسية يطلق على هذا النزوع تسمية الإدارة بالأزمات (Management by Crises). هذا على العكس من الإدارة بالأهداف (Management by Objectives)، التي هي أحدي السبل المهمة للارتقاء الحضاري
أن ما تقدم لم يؤد، اجتماعيا، إلى انتشار سمات الاغتراب، واللامبالاة، والياس، والإحباط، بين شرائح اجتماعية عربية واسعة فحسب، وإنما أيضا إلى تراجع الشعور بالمسؤولية في العموم حيال حاجة المجتمع العربي إلى الارتقاء الحضاري. وغني عن القول إن مثل هذا التراجع لا يسهل التفكير في المستقبل واستشراف مشاهدة، سيما وإن مثل هذا التفكير يتطلب إصلاء توافر الشعور بالمسؤولية حيال المجتمع والإشكاليات، التي يعاني منها، وتوفير الحلول الموضوعية لها.
إن الانتشار الواسع لهاتين المجموعتين من المدخلات ضمن المجتمعات العربية افضى، في العموم، إلى استمرار اختزال الحاضر في الماضي، واختزال المستقبل في الحاضر، هذا في الوقت الذي تتطلب معطيات الواقع العربي الراهن، وجلها ذات تأثر محبط التفكير, تتطلب جعل التفكير في المستقبل، انطلاقا من الحاضر، في مقدمة الأولويات العربية خدمة للارتقاء الحضاري.
3.2. وأما عن الشريحة الاجتماعية العربية الثالثة ، فهي تلك التي تعبر عنها نخب عربية محدودة الانتشار، تتميز بانحيازها إلى المستقبل، تفكيرا وسلوكا، فضلا عن سعيها إلى نشر هذا الانحياز داخل مجتمعاتها عبر ممارسات متعددة. ويُعبر، محمد بريش، عن غاية توجهات هذه المجموعة بقوله إنها ترمي إلى دفع الإنسان العربي: “…إلى العدول عن الفرار إلى جهة الماضي احتماء وادبارا عن مواجهة الواقع…وإلى اجتناب الميل المطلق جهة المستقبل تمنيا وحلما.” [1]
3 .المتغير الثقافي والمشاهد البديلة للمستقبل العربي
لقد اضحى معروفا أن مشاهد المستقبل، لا تكون بمعزل عن تأثير احتمال امتداد معطيات الزمان الذي مضى، وكذلك الذي يمضي، أي معطيات أزمنة الماضي والحاضر، إلى المستقبل وكذلك لا تكون أيضا بمعزل عن احتمال تغيرها. والشيء ذاته ينسحب على مشاهد المستقبل العربي. لذا من المحتمل ان تتوزع هذه المشاهد ثلاثيا على اما مشهد استمرارية واقع التردي والانكشاف الحضاري العربي الراهن، أو أما مشهد بداية التغيير والارتقاء الحضاري العربي، أوأما المشهد الذي يجمع بين معطيات هذين المشهدين، أي الاستمرارية والتغيير.
وعلى الرغم من أن الواقع العربي الراهن لا يخلو من بذور التغيير الكامنة، التي قد تصبح ذات تأثير فاعل عند تبلورها اللاحق بيد أن تجذر الاشكاليات الهيكلية المتعددة في الجسد القومي العربي، ومن بينها الإشكاليات الثقافية ذات التأثير العميق في الذات العربية، تحتاج إلى زمان طويل نسبيا لاحتوائها، فضلا عن شرط توافر رؤية حضارية وإرادة عربية مشتركة لصناعة المستقبل العربي.
وحتى يتحقق ما تقدم، من المحتمل امتداد معطيات مشهد واقع ديمومة التردي والانكشاف العربي إلى المستقبل، وبمخرجات من المرجح أن تفضي إلى تراكم الضعف العربي متعدد المضامين وعلى النحو الذي يعطل من إمكانية أن يكون العرب قوة دولية قادرة على ممارسة التأثير الدولي الفاعل لصالحهم. أن مثل هذا المشهد سيتيح بالضرورة للقوى الإقليمية والعالمية ذات المصالح الحيوية في الوطن العربي أن تكون أكثر تأثيرا في مضامين السياسات العربية، الداخلية والخارجية. ومن هنا يُعد هذا المشهد بالنسبة لهذه القوى بمثابة أفضل الأفضل المشاهد من بين العديد منها، خصوصا وأنه يحقق لها مصالح مهمة منشودة وبكلف رخيصة.
لذ لنعمل من اجل نشر ثقافة الانحياز إلى المستقبل العربي، داخل مجتمعاتنا العربية. ولن نكون من الخاسرين بالضرورة.
في مقال الشهر القادم سنبحث في تلك المدخلات الثقافية التي تفسر غلبة انتماء جل الشرائح الاجتماعية العربية أما إلى الماضي أو الحاضر.
- استاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية واستشراف المستقبلات/ لندن