الشرق الأوسط الجديد: مسودّة لم يبهت حبرها

ما المقصود بالشرق الأوسط الجديد؟ ما هي حدوده ومن هي شعوبه؟ وما المرتكزات الاستراتيجية القوية التي يتفرد بها وتكسبه هذا الثقل التاريخي في الذاكرة الدولية مجدّدةً تاريخ تلك الشهرة القديمة؟

بدا المصطلح متحركاً لم يستقر نهائياً لا في التاريخ ولا في الجغرافيا، وربما لن يعرف الاستقرار، لا في العقل واللسان الغربيين ولا في الترجمات العربية المرادفة له، ولا حتى في أبعاده الجغرافية ومفاعيله وتداعياته فوق الجغرافية الآسيوي-أفريقية.

من “الشرق الأوسط” أو”الميدل إيست” إلى “الشرق الأوسط الكبير” أو “الأكبر” و”الواسع” و”الأوسع” بل “الموسّع” كما نقرأ في التسميات الأميركية المستجدة، مروراً بالشرق الأدنى أو “المتوسطية الأوروبية” وفقاً لفرنسا والمانيا، تتغير الصياغات السياسية والجغرافية وتتباين الأفكار والرؤى لمنطقة تنبسط لتلقف الخرائط والمبادرات، لتضمّ الدول العربية وتركيا وإيران، و”إسرائيل” ودولاً في آسيا الوسطى وقد تتوسع لتضمّ باكستان وافغانستان ودول القرن الافريقي، بما يقلب تاريخ الشرق الأوسط.

جوهر الأمر خرط “اسرائيل” في قالب المنطقة الجديد. ولا يخفى ان استراتيجية توسيع التعريف الجيوسياسي يرمي الى جعل المنطقة خاضعة حكماً للحروب المحمولة المتنقلة عبر صراعات متعددة الأجناس والأطراف، وفوق “بحيرات” من النفط تؤمن الحركة في الغرب حتى 2070.

إننا مجدداً حيال رقصة الأمم فوق رقعة الشرق الأوسط الكبير المثقلة بالتاريخ الذي يستحيل معه الاستقرار.

كان الشرق الأوسط يغطي، مساحة 8 ملايين كلم2، من مصر حتى افغانستان شرقاً، يتوزع فوقها 16 بلداً عربياً واسلامياً تتفاوت بأعداد سكانها. نجد مئات الألوف يشكّلون دولاً مثل قطر والبحرين ليرتفع العدد الى المئة مليون مثل مصر وإيران. تبدو المساحة إذن موئلاً “لموزاييك” متنوع الإتنيات والمذاهب، ومحط أطماع دول كبرى الأمر الذي يراكم فوقها مجدداً تواريخ من الرفض والاحتجاج لشعوب عانت طويلاً من التقسيمات والتجزئة. لا أُغالي بالنظر إلى هذه الرقعة الجغرافية الواسعة بوصفها “بازل” سهلة التفكيك وإعادة التركيب بين منذ فجر التاريخ التجاري والصناعي بأعقاب أزمنة الحضارة المائية. ولأننا في نسغ تواريخ وحروب وتجارب إعادة التركيب التي يتقنها التاريخ لحاقاً ب”كبار الأمم”، يمكننا أن “نعلّم” بالأسود فوق الخرائط جزءاً تركياً – ايرانياً وهلالاً خصيباً وشبه جزيرة عربية تمسك بها مصر في شرقي أفريقيا، وكلها دول وشعوب تتفاعل وتفعل في عمر الحضارة منذ القدم. هذه البقع المميزة على تنوعها قد استحال خلطها أو محوها فجعلت الشرق الأوسط مثقلاً بنكبات التاريخ منذ القرن السابع ق.م. قبل ان تتقدم مهداً للديانات التوحيدية الثلاث، قامت في أرجائها الامبراطوريات الاولى لحضارات ما بين النهرين بين القرنين 4 و2 ق.م فصيغت الثقافات بل حضارات السومريين والساميين والحيثيين والحوريين إلى ثقافة النيل بعد توحد مصر الفرعونية منذ الألف 3 ق.م إلى الامبراطورية الاشورية فاعلةُ بمعالمها الحضارية خلال الألف الأول ق.م. وترسّخ النيل والفرات رمزين منهما تنبع تكامل الثقافات والحضارات لتنهل شعوب فوق سطح الكرة مالا يستنفذ من المعارف والثقافات والأسرار.

كان يرفل هذا الغنى الطبيعي غنى أرضيّاً جاء بتفجّر البترول ما منح تلك البقعة الفريدة من الكرة الاهتمام، وتحفل المكتبات بالتفاصيل والقصص والدراسات في الشرق الأوسط البترولي الذي يشكل أبداً محط انظار العالم.

أكتفي بالإشارة الى ان دولاً معاصرة ثلاث كانت تلعب في ميدان سلامة النفط وتصديره ادواراً كبيرة هي السعودية ومصر وتركيا، مصر للمراقبة عند السويس وحماية ناقلات النفط، وتركيا محطة الترانزيت للنفط العراقي، بينما السعودية تلعب الدور الاكبر لتأمين الضخ والاشراف على مبيعات النفط من دول مجلس التعاون الخليجي. لكنّ الحماية باتت أميركية مباشرة، ويعمل في أطرها الكثير من الدول بعد سقوط بغداد.

وللإنصاف التاريخي، حصل أقوى معطى مع الحرب العراقية الايرانية (1980 – 1988) حيث تفجر الاحتقان سائداً على ضفاف الخليج بين شعبين تأسسا على الصراع عبر التاريخ، وخصوصاً مع توطيد الثورة الإسلامية إيران (1979). لطالما شكلا شط العرب وكازاخستان حافزي الصراعات بين البلدين منذ القرن 18. كان الفرات (204 كلم) الذي يرسم الملامح الحدودية بينهما على امتداد 105 كلم، وهو نهر تاريخي قديم، سياسي وثقافي يفصل بين الامبراطوريتين الفارسية والعثمانية او بين عالمين عربي وآري أو ما بين طائفتين اسلاميتين سنية وشيعية حوّله البترول مجرى مائيّاً تُعقد فوق مياهه التبادلات الدولية في ميادين الطاقة.

وللتذكير أيضاً، خرجت الدولتان الايرانية والعراقية منهكتين في العام 1988 من الحرب وبرعاية الأمم المتحدة حتى عاصفة الصحراء التي اسقطت اسطورة العراق وحوّلت رقعة الشطرنج الشرق أوسطية سياسياً واستراتيجياً تجهيزاً لمتغيرات كبرى في الخرائط الحدودية، فتحركت أحلام الشيعة في جنوب العراق والأكراد في شماله بعد وانكفاء العراق من دون ان تفضي الاحداث الى أي اعادة نظر جغرافية..

أسأل اليوم: أين العرب اليوم حيال تجدّد لعبة البازل مع التذكير أن الحجر الأول المنقول في اللعبة الخطيرة حصل أو جاء عبر إسقاط بغداد؟

أنشهد بداية نضوج ما يعرف بالشرق الأوسط الجديد عبر سلسلة من التحولات العسكرية والسياسية والاستراتيجية تحت مظلة واسعة من صراع الوثائق والنصوص وخلال تلهينا وتقاذفنا المُتجدد عرباً بالتسميات والمسودات والوثائق والمشاريع؟

 تبدو المنطقة أمام تداعيات حروب متنقلة لا آفاق نهائية واضحة.

ويطلّ مشروع الشرق الأوسط الجديد مجدّداً لكأنّه مسودة لم يبهت حبرها وهي غير محدودةٍ بزمان أو مكان، بمضامينها المطاطة التي تجعل من يتابعها على الأرض بأنها وهمية أو شكلية عملياً إذ يغيرون بعض التعابير والفواصل لكأنّ واضعيها لم يحققوا إنجازات وانتصارات، لكنّها لعبة الأمم بال puzzle في عصر عربي بقي يتمطّى بين الرفض الوهمي والقبول والتوفيق والحروب، لكأننا مجدداً أمام ملك الفرنجة والإمبراطورية الرومانية المقدسة شارلمان الكبير بين الأعوام 800 و814.

الشرق الأوسط الجديد:

مسودّة لم يبهت حبرها

 البروفسور نسيم الخوري

ما المقصود بالشرق الأوسط الجديد؟ ما هي حدوده ومن هي شعوبه؟ وما المرتكزات الاستراتيجية القوية التي يتفرد بها وتكسبه هذا الثقل التاريخي في الذاكرة الدولية مجدّدةً تاريخ تلك الشهرة القديمة؟

بدا المصطلح متحركاً لم يستقر نهائياً لا في التاريخ ولا في الجغرافيا، وربما لن يعرف الاستقرار، لا في العقل واللسان الغربيين ولا في الترجمات العربية المرادفة له، ولا حتى في أبعاده الجغرافية ومفاعيله وتداعياته فوق الجغرافية الآسيوي-أفريقية.

من “الشرق الأوسط” أو”الميدل إيست” إلى “الشرق الأوسط الكبير” أو “الأكبر” و”الواسع” و”الأوسع” بل “الموسّع” كما نقرأ في التسميات الأميركية المستجدة، مروراً بالشرق الأدنى أو “المتوسطية الأوروبية” وفقاً لفرنسا والمانيا، تتغير الصياغات السياسية والجغرافية وتتباين الأفكار والرؤى لمنطقة تنبسط لتلقف الخرائط والمبادرات، لتضمّ الدول العربية وتركيا وإيران، و”إسرائيل” ودولاً في آسيا الوسطى وقد تتوسع لتضمّ باكستان وافغانستان ودول القرن الافريقي، بما يقلب تاريخ الشرق الأوسط.

جوهر الأمر خرط “اسرائيل” في قالب المنطقة الجديد. ولا يخفى ان استراتيجية توسيع التعريف الجيوسياسي يرمي الى جعل المنطقة خاضعة حكماً للحروب المحمولة المتنقلة عبر صراعات متعددة الأجناس والأطراف، وفوق “بحيرات” من النفط تؤمن الحركة في الغرب حتى 2070.

إننا مجدداً حيال رقصة الأمم فوق رقعة الشرق الأوسط الكبير المثقلة بالتاريخ الذي يستحيل معه الاستقرار.

كان الشرق الأوسط يغطي، مساحة 8 ملايين كلم2، من مصر حتى افغانستان شرقاً، يتوزع فوقها 16 بلداً عربياً واسلامياً تتفاوت بأعداد سكانها. نجد مئات الألوف يشكّلون دولاً مثل قطر والبحرين ليرتفع العدد الى المئة مليون مثل مصر وإيران. تبدو المساحة إذن موئلاً “لموزاييك” متنوع الإتنيات والمذاهب، ومحط أطماع دول كبرى الأمر الذي يراكم فوقها مجدداً تواريخ من الرفض والاحتجاج لشعوب عانت طويلاً من التقسيمات والتجزئة. لا أُغالي بالنظر إلى هذه الرقعة الجغرافية الواسعة بوصفها “بازل” سهلة التفكيك وإعادة التركيب بين منذ فجر التاريخ التجاري والصناعي بأعقاب أزمنة الحضارة المائية. ولأننا في نسغ تواريخ وحروب وتجارب إعادة التركيب التي يتقنها التاريخ لحاقاً ب”كبار الأمم”، يمكننا أن “نعلّم” بالأسود فوق الخرائط جزءاً تركياً – ايرانياً وهلالاً خصيباً وشبه جزيرة عربية تمسك بها مصر في شرقي أفريقيا، وكلها دول وشعوب تتفاعل وتفعل في عمر الحضارة منذ القدم. هذه البقع المميزة على تنوعها قد استحال خلطها أو محوها فجعلت الشرق الأوسط مثقلاً بنكبات التاريخ منذ القرن السابع ق.م. قبل ان تتقدم مهداً للديانات التوحيدية الثلاث، قامت في أرجائها الامبراطوريات الاولى لحضارات ما بين النهرين بين القرنين 4 و2 ق.م فصيغت الثقافات بل حضارات السومريين والساميين والحيثيين والحوريين إلى ثقافة النيل بعد توحد مصر الفرعونية منذ الألف 3 ق.م إلى الامبراطورية الاشورية فاعلةُ بمعالمها الحضارية خلال الألف الأول ق.م. وترسّخ النيل والفرات رمزين منهما تنبع تكامل الثقافات والحضارات لتنهل شعوب فوق سطح الكرة مالا يستنفذ من المعارف والثقافات والأسرار.

كان يرفل هذا الغنى الطبيعي غنى أرضيّاً جاء بتفجّر البترول ما منح تلك البقعة الفريدة من الكرة الاهتمام، وتحفل المكتبات بالتفاصيل والقصص والدراسات في الشرق الأوسط البترولي الذي يشكل أبداً محط انظار العالم.

أكتفي بالإشارة الى ان دولاً معاصرة ثلاث كانت تلعب في ميدان سلامة النفط وتصديره ادواراً كبيرة هي السعودية ومصر وتركيا، مصر للمراقبة عند السويس وحماية ناقلات النفط، وتركيا محطة الترانزيت للنفط العراقي، بينما السعودية تلعب الدور الاكبر لتأمين الضخ والاشراف على مبيعات النفط من دول مجلس التعاون الخليجي. لكنّ الحماية باتت أميركية مباشرة، ويعمل في أطرها الكثير من الدول بعد سقوط بغداد.

وللإنصاف التاريخي، حصل أقوى معطى مع الحرب العراقية الايرانية (1980 – 1988) حيث تفجر الاحتقان سائداً على ضفاف الخليج بين شعبين تأسسا على الصراع عبر التاريخ، وخصوصاً مع توطيد الثورة الإسلامية إيران (1979). لطالما شكلا شط العرب وكازاخستان حافزي الصراعات بين البلدين منذ القرن 18. كان الفرات (204 كلم) الذي يرسم الملامح الحدودية بينهما على امتداد 105 كلم، وهو نهر تاريخي قديم، سياسي وثقافي يفصل بين الامبراطوريتين الفارسية والعثمانية او بين عالمين عربي وآري أو ما بين طائفتين اسلاميتين سنية وشيعية حوّله البترول مجرى مائيّاً تُعقد فوق مياهه التبادلات الدولية في ميادين الطاقة.

وللتذكير أيضاً، خرجت الدولتان الايرانية والعراقية منهكتين في العام 1988 من الحرب وبرعاية الأمم المتحدة حتى عاصفة الصحراء التي اسقطت اسطورة العراق وحوّلت رقعة الشطرنج الشرق أوسطية سياسياً واستراتيجياً تجهيزاً لمتغيرات كبرى في الخرائط الحدودية، فتحركت أحلام الشيعة في جنوب العراق والأكراد في شماله بعد وانكفاء العراق من دون ان تفضي الاحداث الى أي اعادة نظر جغرافية..

أسأل اليوم: أين العرب اليوم حيال تجدّد لعبة البازل مع التذكير أن الحجر الأول المنقول في اللعبة الخطيرة حصل أو جاء عبر إسقاط بغداد؟

أنشهد بداية نضوج ما يعرف بالشرق الأوسط الجديد عبر سلسلة من التحولات العسكرية والسياسية والاستراتيجية تحت مظلة واسعة من صراع الوثائق والنصوص وخلال تلهينا وتقاذفنا المُتجدد عرباً بالتسميات والمسودات والوثائق والمشاريع؟

 تبدو المنطقة أمام تداعيات حروب متنقلة لا آفاق نهائية واضحة.

ويطلّ مشروع الشرق الأوسط الجديد مجدّداً لكأنّه مسودة لم يبهت حبرها وهي غير محدودةٍ بزمان أو مكان، بمضامينها المطاطة التي تجعل من يتابعها على الأرض بأنها وهمية أو شكلية عملياً إذ يغيرون بعض التعابير والفواصل لكأنّ واضعيها لم يحققوا إنجازات وانتصارات، لكنّها لعبة الأمم بال puzzle في عصر عربي بقي يتمطّى بين الرفض الوهمي والقبول والتوفيق والحروب، لكأننا مجدداً أمام ملك الفرنجة والإمبراطورية الرومانية المقدسة شارلمان الكبير بين الأعوام 800 و814.