الشعر بوصلة الشعراء

حوار الشاعر العراقي خالد الحسن لمجلة الحصاد – لندن

بيروت من ليندا نصار

خالد الحسن للحصاد:

“لا توجد حرب شريفة وإن كانتْ مبررة، الحرب تخلِّفُ أمهاتٍ ثكالى وزوجاتٍ أراملَ بلا مأوى وأطفالاً يتامى، وليس للشعر يدٌ مباشرةٌ في التغيير للأسف”.

أنا شاعر متمرد، أكتب القصيدة اليوم وأكرهها غداً، ولا أحتفظ بالكثير مما أكتب.”

“التجارب ضوء يستعين به الشاعر في طريقه الشعري.”

لا يمكن للشاعر أن يتوه عن البوصلة التي يمنحه إياها الشعر. تقول رؤية شاعر: نحن الذين جبلنا بالماء والتراب، تميل بنا رياح هذا العالم، وتأخذنا باتجاهات متعارضة بين الوطن والشتات… مع ذلك نلتقط أنفاسنا، نبحث عن نافذة تشكّل أفقًا لحياة أخرى في فضاءات أخرى، فنكتب.

نكتب لأننا نريد أن نصوّب أخطاء العمر، لأننا نريد لخطونا أن يكون ثابتًا في عالم متأرجح الأطباع، مزاجيّ السلوك. نكتب واللغة كائن قريب غريب، عصي على الترويض، كائن يسعفنا أحيانًا ويهجرنا أحيانًا أخرى.

لعلّ الشاعر العراقي خالد الحسن الذي كتب ديوان “حطاب المواعيد” ودواوين أخرى، وحصل على عدة جوائز شعرية، هو من الشعراء الذين ينظرون إلى الشعر ككائن حي مقدس، فالقصيدة عنده يتقاسم معها أسمى اللحظات. وهو يسير  في خطّ متواز مع الزمن بحيث تعبّر القصيدة عنه لتأويل ذاته والعالم، فيأتي شعره في تجدد مستمر.

 بين الوطن والشتات يأتي الشعر لينقذ الشاعر من التطرف ليصرح أن انتماءه الوحيد هو إلى عالم الشعر والانفتاح، متمرّدًا على أيّ شكل من العنف والحرب وما يتسبب بمعاناة الإنسانيّة. هكذا هو صاحب ديوان “ملامح الظل الهارب” شاعر برؤية كثيرة الجموح نحو الفن والجمال.

الحصاد تواصلت مع الشاعر خالد الحسن وكان لها معه الحوار الآتي:

“الحصاد” أي خيط ناظم يجمع بين “ملامح الظل الهارب” وبين “حطاب المواعيد”، وبمَ يمكن أن توحي إلينا أو تخبرنا من خلال تجربتك في عالم الكتابة؟

“خالد الحسن”  أعتقد أن سرَّ استمرارية أي مبدعٍ في الحياة يكمنُ في تمردِهِ على تجربتِهِ، فلا يمكن له أن يكون مستمراً ومنتجاً ومتطوراً من دون أن يكون متمرداً وناقداً قاسياً أمام ذاتِهِ وأمام ما يقوم به من عملٍ، لهذا أنا شاعر متمرد، أكتب القصيدة اليوم وأكرهها غداً، ولا أحتفظ بالكثير مما أكتب، وها أنا بعد غرقتُ منذ ما يقرب من العشرين عاماً في الشعر، لا أمتلك سوى مجموعتين مطبوعتين وأخرى سترى النور قريباً. أما عن الخيط الناظم الذي يجمع بين “ملامح الظل الهارب”، و”حطاب المواعيد”، فلا شيء يربطهما تقنياً، “حطاب المواعيد” تجربة مختلفة جداً، عن “ملامح الظل..”، أما على صعيد المشاعر والرؤى والأفكار التي تنتج الشعر، فلا أجانب الحقيقة حين أقول إن كل هذه الخلطة السابقة تتغير عندي باستمرار، فلم يعد للأيام طعمها السابق. كل شيء قابل للتغير، ومنها الشعر. قطعاً إن التغير التقني الذي حلَّ بقصيدتي كان تغيراً مقصوداً، أما من دون ذلك فالحياة أحياناً تفرض علينا أفكارها وجنونها في أحايين عديدة.

“الحصاد” في ذات الشاعر شعور بالمنفى والغربة والترحال ما يؤدي إلى نوع من التمزق الداخلي الذي يؤسس إلى نضوج قصائد تخرج إلى النور. ما مدى تأثير هذه العوامل في شعرك؟

“خالد الحسن” أكاد أجزمُ أن لا أنساناً في هذا العالم يشعر بالرضا أو الراحة، الحياة تطحن الناس بعجلاتها المسرعة، وهذا ما يخلقُ “التمزق الداخلي”، وهو فعلا بمثابة التنور الذي تنضجُ به أرغفة القصائد، أما عن تأثير ذلك في شعري، فهو يمتلك التأثير الأقوى، بخاصة وأنا لا أكتب شيئاً من فراغ أو خيال مطلق، بل أحاولُ دائماً، أن يكون لقصيدتي نقطة واقعية تنطلق منها، ثم يأتي الخيال والتقنيات والانزياحات التي تكفل المعنى وتحوِّلُهُ من كلام متاح ومشترك إلى شعر، لا شاعر بلا تجربة حياة وإن حاول التجريب داخل القصيدة من دون الأولى ستكون قصيدتُهُ في طريق مظلم، التجارب ضوء يستعين به الشاعر في طريقه الشعري.

“الحصاد” إنّ المتعمّق في قصائد خالد الحسن، ينتبه إلى ملامح شعرية عالية بل ثمة روح تتنقّل بين القصائد بين المواعيد والمسافات، وبين الزمان والمكان فواصل من عمر الإنسان. ماذا تقول عن مزاج الكتابة وطقوسها؟

“خالد الحسن” تبدأ القصيدة لدي بفكرة تشغلني لأيام، حتى تصحب الفكرةَ ايقاعات معينة وموسيقى لا محسوسة، وبعد حين تبدأ القصيدة بالهطول، الهطول الذي لا يفرضُ عليَّ طقوساً  ولا مزاجاً، بل هو من يختار زمانه ومكانه وما عليَّ إلّا أن أستجيب له، كثيراً ما دهمني وأنا أسوق سيارتي أو في زحمة العمل أو حتى اثناء النوم. أما عن “الروح التي تنتقل بين القصائد والمواعيد والمسافات”، فهي مرتبطة بالسؤال السابق، التجربة زاد الشاعر في رحلته إلى القصيدة.

“الحصاد” يكتب خالد الحسن: “دروب كروحي/ والقصيدة طفلتي/ وبوصلتي تيه/ وتيهي منازل/ أنا عبقر الأشياء/ تنساب أحرفي كنهر عراقي/ فتسقى القبائل.” وسط هذا التيه في المدن الصابرة بليلها وشوارعها كيف يعيد الشعر ما غيرته الحروب فيها؟ 

“خالد الحسن” لا توجد حرب شريفة وإن كانتْ مبررة، الحرب تخلِّفُ أمهاتٍ ثكالى وزوجاتٍ أراملَ بلا مأوى وأطفالاً يتامى، وليس للشعر يدٌ مباشرةٌ في التغيير للأسف، الشعر مهمتُهُ أن يشير إلى الجمال، وبهذا يؤسس لمرحلة مبكرة جداً من التعافي، لا يوجد إنسان في هذه الحياة وخاصة الإنسان الحديث يقدم الشعر على احتياجات حياته الشخصية والأساسية، الشعر فن يحاول أن يكون له وجود في الحياة المتشعبة والمتباينة، لذلك اعتقد أن الفن بصورة عامة والشعر بخاصة، وأقصد الشعر الحقيقي لا مدفوع الثمن، يحاول الإشارة دوماً والتأسيس للجمال والمحبة وأمام كل التحديات قد ينجح وقد يفشل، لكن الأهم منهما أن يظل محاولاً رسم الحياة كما ينبغي..

“الحصاد” المرأة والوحي الشعري، ثنائي نلمحه في القصائد بين الواقع والمتخيل، كيف أثّرت المرأة (الأم والحبيبة) في تجربتك؟ وماذا قدّمت لها من خلال قصائدك؟

“خالد الحسن” المرأةُ نصف العالم وأكثر في عيون البعض، أما في عينيّ فأراها العالم بأسره، مبدئياً أنا متأثر كثيراً بأمي، أمي مصدر مهم من مصادر قوتي في الحياة، ولم أجدْ قصيدةً يمكن أن تكون عدلاً لها. كبرتُ وبدأت رحلتي الأخرى وبين حبيبة وأخرى، وبين ساحل وآخر، عرفت أن الشعراء بحّارةٌ يودعون حبيباتهم على الشواطئ فيما يضلون في البحر بحثاً عن شتات ونساء، خُذلتُ كثيراً وخَذلتُ كثيراً وخذتْني الحياة كثيراً أيضاً، وكل هذا كان شرياناً أبهراً يغذي قصيدتي بحرقةِ الفراقِ أو ابتسامات اللقاء. المرأة تمثل بالنسبة لي سبباً من أسباب الكتابة، فهي الملهمة الأولى سواءً كانت قاسية أم ودودةً..

“الحصاد” تقول في ديوان “حطاب المواعيد”: تطلّ/ بغداد (أوروك) التي رسمت بالبال/ سيدة تجتاح العهد/ تقول لي/ كن نهارًا/ واحتضن مدنًا من الشتات/ وحطّم فكرة القيد/ وصوت أمي/ يناديني/ فترتبك الضفاف/ والأرض بين المد والجزر. نحن أمام اقتباس “الأدب يقول كل شيء”، إلى أي مدى استطعت أن تعبّر بلسان بغداد، الأم والوطن الحاضن، عن الشتات الذي يعد حرية وقيدًا في آن؟

“خالد الحسن” أعتقد أني أحاول دائماً لا أن أُسقِط بغداد على الذات الشاعرة، بل العكس، حقيقةً أنا أعاني غربةً موحشةً في الوطن، وأعاني وطناً جميلاً في الغربة، وأجدُ نفسي بهذا الشتات، كما أظن أن الاستقرار بأي شكل من الأشكال يمثل عدواً شرساً للشاعر، الشاعر يجد في الشتات حريةً، ويجد في البعيد قرباً والقريب بعداً، وليس ذلك مستغرباً حيث قد مات أغلب الشعراء الكبار منفيين قسراً واختياراً. أن تعلقي بهذا الشتات وربما ما تعيشه بغداد من شتات آخر قد اجتمعا وتماهيا معاً ليكونا غرضاً من أغراض الشعر.

“الحصاد” حقيقة الشعر عجز عن معرفتها آلاف الشعراء وظلت في إطار التفكير الشخصي. من خلال تجربتك كيف تعرف الشعر؟ وهل حقًّا يمكن أن نعدّ الكتابة، مجازيًّا، إكسير حياة الشعراء؟ وبالمقابل هل يستطيع الشعراء أن يعيشوا من دون الكتابة؟ وكيف أنقذك الشعر؟

“خالد الحسن” سأجيب من نهاية السؤال، الشعر بداية موهبةٌ فطرية، فلا يمكن لكل الناس أن يصبحوا شعراء، فضلاً عن كونه كما أعتقد طريقة لرمي الحمولات الحياتية السيئة التي يعيشها الشاعر، أي شاعر ولست أنا فقط ممكن أن يصبحَ مشروع متطرف لولا أن اكتشف طريق الشعر وسار فيه، ربما لولا الشعر لأصبحتُ متطرفاً في جهة ما، لكن الشعر هو من منحني الأفقَ الأوسع في التفكير والتمرد على الموروث المعتم، والنظر الى الأشياء بعين عصرها، أما كونه ــــ واقصد الشعرــ إكسيراً لحياة الشعراء، فهذا فيه الكثير من الدقة، الكتابة بالنسبة إلى الشاعر حياةٌ كاملةٌ غير قابلة للتفاوض والتنازل، والشاعر لا يمكن أن يعيش من دون الكتابة، ومن عاش من دونها أشك في موهبته منذ البداية. أما عن تعريف الشعر فلا أدري على التحديد ما هو الشعر، لكني أميل الى كونه سلوكاً لا كتابةً فقط، ان تحترم المرأة فأنت شاعر، وأن تقدر والديك فأنت شاعر، وأن تسافر الى مكان جديد فأنت شاعر، الشعر سلوك انساني نحاول نحن الشعراء عكسه على الورق، لذلك أعتقد أنه لا يوجد شاعر كبير من دون تجربة حياة كبيرة.

“الحصاد” يتحدث قاسم حداد في كتابه “موسيقى الكتابة” عن الأشياء المختلفة التي تقع عادة عند هامش الحياة، أشياء لا تعد ولا توصف وعن الأدب الذي يحول الحياة الى استثنائية، إذ بالفن يصبح كل شيء في طور التحول. فما رأيك بقصيدة التفاصيل التي ترفع من الرؤية الفنية؟

“خالد الحسن” لا شكَ، أن القصيدة مثلها مثلُ أي كائن حي، قابل للتطور بل وحتى التغيير والشيخوخة، الفارق الوحيد أن الشعر لا يموت، قد يشيخ وقد يتغير لكنه عصي عن الموت، وهذا ما يجعل مساحات التجريب مفتوحة تماماً أمام الشعر والشعراء، واعتقد أن أية عملية تجريب يجريها أي شاعر هي محاولة جمالية لرفد القصيدة العربية بروح جديدة لتبقى بعافيتها التامة، شريطة أن يكون التجريب قادماً من وعي فذ، وليس حركات انفعالية، شخصياً مؤمن جداً بالقصيدة اليومية، التي ترفع من قدر الهامش وتجعله متناً شعرياً ملفتاً، وأراها القصيدة التي تلائم الزمن الحالي، كما أحب أشكال وطرق كتابة الشعر الأخرى، لأن جميع الشعراء في النهاية يطلبون الجمال والفن.