واهمٌ من يظنّ أنّ تقدّم الزّمن هو حتمًا تقدّم الإنسانيّة في إنسانيّتها، أو هو حكمًا، أي الزّمن، قادر على الاستبدال ببدائيّة الإنسان حضاريّة يرفدها تطوّرٌ هائل وسريع وجذّاب. فالصّورة الحيّة المعولَمة الجديدة للإنسان، تثبت فكرة هيغل في وصف الحضارة الجديدة بأنّها “الصورة الأخيرة للروح”، عبر التحكّم في منظوماتها الرمزيّة وسرديّاتها التاريخيّة وتفكيك شيفرتها وفكفكة قِيمها، ثمّ إعادة تشكيلها على نحو معياريّ مختلف، وتدميريّ معاصر.
وليست حروب السنوات الأخيرة سوى تجليّات ساطعة لهمجيّة الإنسان المتفوّقة على أي صورة من صور الحضارة الإنسانيّة. ألفيّة ثانية انقضت، و”غياب حالة السِّلْم”، كما وصف توماس مور الحرب، يُهَيمن على الكوكب الملتهب. وفي غياب حالة السلم تلك، تحترق الإنسانيّة بوقود حضارتها الجديدة، وتتلاشى معها “الصورة الأخيرة للروح”، من الزاوية الفلسفيّة السيكولوجيّة حيث تكمن النّزعة الغريزيّة للشرّ والعنف والخراب.
بين البدائيّة والحضارة لا يبدو الفرق جليًّا في تطوّر النّفس البشريّة، إذا قارَبنا نظريّة فيلسوف عصر التنوير جان جاك روسو القائلة إنّ القسوة هي نتيجة الحضارة، إذ “لم يكن الإنسان البدائيّ أكثر قسوةً من الحيوانات” أو “إنّ العنف ناتج عن الارتقاء”، ما يفسّر قوله المعروف “L’homme est bon par nature c’est La societé qui Le corrompt” (الإنسان طيّب بطبيعته لكنّ المجتمع هو الذي يفسده). هل العنف حقًّا من مكنونات النّفس الإنسانيّة وطبيعتها، أم أنّه حالة طارئة على المسار البشريّ ربطًا بالتحوّلات والظّروف والمسبّبات القهريّة الاجتماعيّة والدّيماغوجيّة؟
“لا تعوّل كثيرًا على إنسانيّة الإنسان” قول يختصر تجربةً قاسية ومدهشة ومثيرة واستفزازيّة للفنّانة الصّربيّة مارينا أبراموفيتش رائدة “فنّ الجسد” المعروفة بـ “جدّة فنّ الأداء الجسدي”، ربّما تجيب فيها بشكل صادم على الحقيقة البشريّة العنفيّة. حين قدّمت الفنّانة في مركز المعارض في نابولي عام 1974 عرضًا وُصف بالخطير والمجنون تحت عنوان “Rhythm 0” أو “إيقاع صفر”، وهبت فيه الجمهور نفسها ستّ ساعات ليفعل بها ما يشاء، مع لافتة كتبت عليها: “هناك 72 عنصرًا على الطاولة يمكنك استخدامها كيفما تشاء. خلال هذا الوقت، أنا أتحمل المسؤولية كاملة”. انقسمت الأغراض إلى فئتين، “أغراض ممتعة”، و“أغراض فتاكة”. ريش وزهور وعنب وعطور ونبيذ وخبز… وسكّين ومقصّ وشريط حديديّ وشفرات حلاقة ومسدس مع رصاصة. في البداية كان التّفاعل خجولًا وهادئًا وأنيقًا، وبعد فترة من الوقت بدأ الجمهور يتجرّد من إنسانيّته، أو بالأحرى يستعيد طبيعته البدائيّة العنفيّة في استخدام الأدوات الحادّة وجرحها واستخدامها كدمية أو غرض للذّة العنف، إلى أن وصل العرض إلى ذروته القصوى حين سدّد أحدهم المسدّس إلى رأسها.
تتذكر مارينا أبراموفيتش آخر ساعتين فتقول “شعرت بالاغتصاب، مزّقوا ملابسي، وألقوا أشواكًا ورديّة اللون في بطني، وضربوا مسدّسًا على رأسي”.