تتطور العلاقات الأمريكية الأوروبية في سياق عالمي معقد يتسم بتحديات سياسية واقتصادية متزايدة. لقد أصبح هذا التحول أكثر وضوحًا في سياق الحرب في أوكرانيا وتداعياتها على الأمن الأوروبي، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى ضمان مصالحها الذاتية أحيانًا على حساب تحالفاتها. يعكس الموقف الجديد من واشنطن، تحت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، تراجعًا ملحوظًا في التعاون السياسي والاقتصادي بين الولايات المتحدة وأوروبا، مما يترك قادة القارة في وضع غير مريح وقد يزعزع الثقة في التفاهمات القديمة التي كانت تجمعهم.
يمكن القول إن أحد أبرز مظاهر التراجع في العلاقات الأمريكية الأوروبية يتمثل في تغييرات السياسة الخارجية الأمريكية التي تبنت نهج “أمريكا أولًا”. سياسة ترامب أثرت بشكل كبير على التعاون الأوروبي الأمريكي، حيث تخلت الإدارة عن الكثير من الالتزامات التي كانت قائمة في السابق. فالتخلي عن اتفاقية باريس للمناخ والإعلان عن الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران كان لهما تأثير عميق على علاقة أمريكا بالأوروبيين، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم شركاء أساسيين في تلك القضايا الجيوسياسية. هذا التحول دفع القادة الأوروبيين إلى التعامل مع تصورات جديدة حول طبيعة وفائدة العلاقات عبر الأطلسي.
تعكس سلوكيات ترامب في السياسة الخارجية أيضاً تراجعًا في الالتزام بالدفاع عن الناتو. فقد كانت هناك خفايا دائمة حول التزامات الولايات المتحدة تجاه حلفائها في الناتو، مما يدفع القادة الأوروبيين إلى إعادة التفكير في اعتمادهم على المظلة الأمنية الأمريكية. هذه الشكوك تعزز الرغبة في تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية المستقلة، وهو ما لم يكن من السهل تحقيقه في ظل انخفاض الاستثمارات الأوروبية في الدفاع لعقود. إذ كانت الكثير من الدول الأوروبية تعتمد على القوة العسكرية الأمريكية لحماية أراضيها، في الوقت الذي كانت فيه تحتاج إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الأمنية الخاصة.
لم يكن تراجع العلاقات الأمريكية الأوروبية مقتصرًا على القضايا الأمنية فقط، بل شمل أيضًا أسواق الاقتصاد. فقد شهدت العلاقات التجارية تقلبات كبيرة، إذ استخدمت إدارة ترامب سياسة فرض الرسوم الجمركية بشكل متزايد، مما زاد من حدة التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية. على سبيل المثال، أعلنت إدارة ترامب عن فرض رسوم على الصلب والألمنيوم المستورد، مما أثر على العديد من الشركات الأوروبية وخلق ردود فعل قوية من الحكومة الأوروبية. هذا النزاع كان مؤشرًا على مدى تراجع الثقة في العلاقات الاقتصادية، حيث بدأت الحكومات الأوروبية في التفكير في كيفية تعزيز استقلالها الاقتصادي.
تترافق هذه النزاعات الاقتصادية مع تحديات داخلية في أوروبا، حيث أظهرت الأزمات المالية المستمرة في بعض الدول الأوروبية مدى تأثير الاعتماد على الولايات المتحدة في السياسة الاقتصادية. الأزمات في اليونان وإسبانيا وإيطاليا مثلاً قد كشفت عن نقاط الضعف في النظام المالي الأوروبي، والذي أدى إلى تساؤلات حول قدرة القارة على الاعتماد على قوة اقتصادية خارجية لحماية مصالحها.
علاوة على ذلك، قضية الهجرة تبرز كأحد العوامل التي تسهم في تدهور العلاقات الأمريكية الأوروبية. فرض إدارات ترامب قيودًا صارمة على الهجرة اللاجئين، مما أثر بشكل كبير على السياسة الأوروبية. هذه السياسة بعثت برسالة مفادها أن الولايات المتحدة غير مستعدة لدعم الدول الأوروبية في مواجهة تدفق اللاجئين، وهو ما كان له آثار عميقة على الأمن الأوروبي واستقرار بعض الدول.
في سياق الحرب في أوكرانيا، يظهر التنافس بين واشنطن وموسكو بصور جديدة تمامًا. ومع تصاعد التوترات الأمنية على الحدود الأوكرانية، فإن إدارة ترامب، مع شعور القادة الأوروبيين بتراجع دورهم، هيمنت على المحادثات المتعلقة بمستقبل المنطقة. منذ بدء الحرب، كان هناك تركيز واضح من قبل الولايات المتحدة على دعم أوكرانيا بشكل مباشر، في حين أن الأوروبيين، على الرغم من أنهم يعبرون عن دعمهم، شعروا بأنهم مُستبعدون من النقاشات الحاسمة حول مسار الصراع المستقبلي.
القول بأن هناك “عقود حيث لا يحدث شيء وهناك أسابيع حيث تحدث عقود” له أهمية خاصة في هذا السياق. بينما تسعى الأحداث الجيوسياسية إلى التحرك بسرعة، تتأمل الدول الأوروبية في كيفية مواجهة مصالح القوى الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة. فعدم قدرتهم على التأثير في مجريات الأمور وبحثهم عن استراتيجيات جديدة لتجاوز هذه العوائق يعكس شعورًا بالقلق وعدم اليقين.
النقاشات حول الأمن الأوروبي في قمة باريس القادمة تمثل فرصة حقيقية للتفكير بشكل جاد في كيفية إعادة تشكيل هذه العلاقات. في هذه القمة، يمكن أن تبرز الحاجة إلى استراتيجيات دفاعية أوروبية تتمحور حول توحيد الجهود وبناء نظام أمني مستقل. يمكن أن يشمل ذلك تعزيز الاستثمارات الدفاعية وتطوير قدرات مشتركة، مما يتماشى مع الرغبات الحالية في الحكومة الألمانية لوضع استثمارات عسكرية أكبر.
ومع ذلك، تبقى المخاوف قائمة حول ما إذا كانت أوروبا تستطيع إدخال رؤيتها للأمن الأوروبي في قلب محادثات ترامب وبوتين. في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية وغياب القادة الأوروبيين عن طاولة المفاوضات، فإن ألمانيا وفرنسا تحتاجان إلى إظهار قدرة أكبر على صياغة استراتيجية أوروبية من شأنها تحقيق الأمن المشترك وتعزيز التعاون.
لكن التحدي الأكبر يكمن في كيفية التأقلم مع الأوضاع العسكرية المعقدة. تصاعد العمليات العسكرية والتهديدات المتزايدة تطلب من أوروبا تعزيز قدراتها العسكرية. فاتت الكثير من وقت الفرص لبناء استراتيجيات تعاون على جميع الأصعدة، ولكن الفرص الراهنة قد تمثل نقطة تحول إذا استطاع القادة الأوروبيون أن يلعبوا أدوارًا فعالة في تطوير الأنظمة الأمنية.
من ناحية أخرى، يتجلى التراجع السياسي بين الولايات المتحدة وأوروبا أيضًا في طريقة إدارة العلاقات مع روسيا. السياسيون الأوروبيون، الذين يشعرون بأن مصالحهم معرضة للخطر في ظل القمة الوشيكة، يتساءلون عن مدى إمكانية الحصول على شراكات حقيقية مع أمريكا خالية من الضغوط الثقيلة. ماذا يعني أن يكون قرار الأمن الأوروبي محصورًا في دائرة صغيرة من القادة العظماء؟
تحليل التجارب السابقة يساعد في فهم هذا التحول. كما قال ونستون تشرشل في مؤتمر يالطا، كان يأمل في الحصول على دعم الولايات المتحدة ضد ستالين، لكن أولويات الرئيس الأمريكي روزفلت كانت تتجاوز ذلك، مما يؤكد أن العلاقات بين القوى العظمى غالبًا ما تخضع للاعتبارات الوطنية الشخصية. وبعد ثلاث سنوات من الحرب في أوكرانيا، يلتقي ترامب وبوتين وسط تصور أوسع وأعقد من المصالح الجيوسياسية، حيث يُهمش دور أوروبا.
تظهر عادةً الأزمات فرصًا إعادة تقييم العلاقات القديمة، وهذا هو الوقت المناسب لأوروبا لإعادة التفكير في استراتيجياتها. التحولات السياسية والعلاقات الاقتصادية تتطلب استجابة سريعة للوضع الحالي، مع إدراج تقديرات نقاط الضعف في التركيب الأمني والسياسي. تحتاج أوروبا إلى تكوين شراكات قوية ومستنيرة مع دول غير أوروبية لتعزيز موقفها.
علاوة على ذلك، يجب أن تسعى أوروبا إلى خلق صورة استباقية تتماشى مع واقعها الجديد أن تصبح لاعبًا مستقلاً في مجال الأمن الإقليمي. يجب أن تستعد الدول الأوروبية لأخذ دور فاعل في الحد من التوترات الدولية وتقديم نماذج بديلة تتجاوز نظام القوى التقليدية التي تهيمن على العلاقات الدولية.
بينما تستعد الدول الأوروبية لإعادة صياغة سياساتها، يجب أن تتطلع إلى دمج رؤية تتجاوز الحواجز التقليدية. سيكون على هذه الدول التفاوض بشكل مشترك فيما يتعلق بالتحديات المشتركة بدلاً من الانقضاض على كل دولة بمفردها، مما يساعد على توسيع التعاون ولعب دور نشط.
في النهاية، تظل أوروبا في مفترق طرق. إذا كانت قمة باريس قادرة على توحيد الرؤى والأفكار ورسم الاستراتيجيات لمستقبل أمنها في عالم متغير، فقد تكون بداية لرؤية جديدة غيرت معها قواعد اللعبة في العلاقات الأميركية الأوروبية. القادة الأوروبيون مدعوون اليوم إلى اتخاذ القرارات الصعبة التي تتطلب تجاوز الضغوط الداخلية والخارجية، مع الانتباه إلى ضرورة البقاء على مرونة مستمرة وانفتاح متزايد على الفاعلين الإقليميين والدوليين. إن هذا الموقف يمكن أن يحدث تغييرًا حقيقيًا في الأمن الأوروبي ويعيد الحياة للعلاقات عبر الأطلسي في خضم تحولات قرن جديد.