الغلاء بالمغرب يوسع من الفوارق ويهدد السلم الاجتماعي

الخناق يشتد على المواطن المغربي ومستوى معيشته يتراجع

كشف عيد الأضحى بالملموس المشاكل الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية التي تعانيها الأسر المغربية بسبب الغلاء الفاحش، الذي مس أضحية العيد وغيرها من مستلزمات العيش الضرورية للمواطن المغربي، حيث بلغت أثمنة الخرفان هذه السنة بالمغرب أرقاما قياسية لا تتماشى مع مستوى دخل المواطن المغربي، حيث لم تتمكن أعداد كبيرة من المواطنين من اقتناء أضحية العيد للقيام بهذه الشعيرة الدينية، ولا الحفاظ على مستوى معيشتها الذي صار يتراجع سنة بعد أخرى، ما عمق الفجوة بين الطبقات الاجتماعية بالمغرب، وكاد يقضي نهائيا على الطبقة المتوسطة، التي حافظت لسنوات على التوازن الاجتماعي بالمغرب، رغم أن العاهل المغربي الملك محمد السادس حذر من هذا المنزلق الخطير في الكثير من خطبه.

وفي آخر تقرير رسمي حول تطور مستوى معيشة المغاربة على ضوء نتائج البحث الوطني حول مستوى معيشة الأسر سنة 2022، كشفت المندوبية السامية للتخطيط بعد العيد مباشرة عن تزايد الفوارق الاجتماعية والمجالية لمستوى معيشة الأسر والتوجه نحو الفقر، وقالت إن عدد الأفراد في وضعية الهشاشة الاقتصادية ارتفع من 2.6 مليون عام 2019 إلى 4.75 ملايين عام 2022، كما ارتفع عدد الفقراء على المستوى الوطني من 623 ألفا عام 2019 إلى 1.42 مليون عام 2022. وفي المقابل ازداد الأغنياء ثراء، حيث كشف التقرير أن أغنى 10 في المائة من الأسر المغربية تستهلك 16 مرة أكثر من أفقر 10 في المائة من الأسر.

تدهور مستوى معيشة الأسر

وبالنظر إلى واقع الحال في السنتين الأخيرتين 2023 و2024، وتداعيات التضخم وسنوات الجفاف المتكررة، واستمرار مسلسل ارتفاع الأسعار وضرب القدرة الشرائية للمواطنين المغاربة، وسوء التدبير السياسي والاقتصادي للأوضاع بالبلد حسب العديد من المراقبين، فإن الأرقام ستكون بكل تأكيد كارثية، خاصة أن نفس المؤسسة الرسمية السابقة سبق وأعلنت قبل شهرين عن تدهور مستوى معيشة الأسر المغربية خلال 12 شهرا الماضية بنسبة بلغت 82.5 في المائة، وهو ما يؤكد على اشتداد الخناق على الأسر المغربية التي أصبحت قاب قوس أو أدنى من عتبة الفقر.

ومن جهته كشف استطلاع الرأي الخاص بالمغرب ضمن “الباروميتر العربي” الذي جرى إطلاق دورته الثامنة في بداية شهر يونيو الماضي بالعاصمة الرباط بشراكة مع المركز المغربي لتحليل السياسات، عن استمرار اتساع الفجرة بين الأغنياء والفقراء، وتزايد انعدام الأمن الغذائي في المغرب بشكل كبير، حيث أظهر الاستطلاع أن 63 في المائة من المغاربة يواجهون صعوبات في توفير الطعام إلى حدود الأشهر الأولى من العام الحالي، مقارنة بـ 36 في المائة في عام 2022. كما أشار الاستطلاع إلى أن هذه المشكلة لم تعد مقتصرة على الفئات الفقيرة فحسب، بل امتدت إلى شرائح أوسع من المجتمع، التي عبرت عينات منها عن قلقها من توفر الطعام وارتفاع أسعاره بنسب بلغت 57 في المائة و59 في المائة على التوالي. ما يعمق من هذه الأزمة المرتبطة بشكل مباشر بزيادة معدلات الفقر، حيث يعاني 66 في المائة من غير القادرين على تغطية نفقاتهم من انعدام الأمن الغذائي، و69 في المائة من ارتفاع الأسعار. وفي المقابل، تنخفض هذه النسب بين الفئات الأكثر ثراءً لتصل إلى 46 في المائة.

وحول أسباب تفاقم انعدام الأمن الغذائي بالمغرب وارتفاع معدلات الفقر، تبرز نتائج “الباروميتر العربي” تباين وجهات نظر المغاربة، حيث يرى نصف المستطلعين أن الأسباب داخلية، تشمل سوء الإدارة الحكومية والتضخم وعدم المساواة في الثروة، بينما يرى النصف الآخر أن الأسباب خارجية تعود لتغير المناخ والحرب في أوكرانيا.

فإذا كانت أرقام ونتائج التقارير الرسمية والاستطلاعات العربية كـ “الباروميتر العربي”، تعطي صورة قاتمة عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب، فإنها في الوقت نفسه تشير إلى أكبر التحديات التي تواجه المغرب في السنوات الأخيرة، والمتمثلة في ثلاثة عناصر: الاقتصاد، الفساد، والخدمات، وبالتعمق فيها يتبين مدى مستوى تدني الخدمات في المغرب، واستشراء الفساد في جميع القطاعات، وتراجع المنظومة التعليمية والصحية، في مقابل تحسن طفيف في بعض القطاعات التقنية والتكنولوجية فقط، وهو ما لا ينعكس على حياة المواطنين وعلى أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية الخانقة والمقلقة في الآن نفسه.

عوامل التضخم ومواسم الجفاف المتكرر

وحول هذه الأوضاع المزرية يقول محمد جدري، المحلل الاقتصادي ومدير “مرصد العمل الحكومي”، إن الاقتصاد المغربي عاش موجة تضخمية غير مسبوقة لم يعرفها الاقتصاد المغربي منذ أكثر من عشرين سنة، حيث أن نسب التضخم بلغت 6.6 في المائة عام 2022، و6.1 في المائة عام 2023، بل أكثر من ذلك فنسبة التضخم على مستوى المواد الغذائية فاقت 20 في المائة، وأسباب هذا الأمر متعددة، فالحرب الروسية الأوكرانية أدت إلى ارتفاع أسعار المحروقات على المستوى العالمي، ما أدى إلى ارتفاع في تكلفة الإنتاج، إضافة إلى مواسم الجفاف المتكررة التي لم يعرفها المغرب منذ 25 سنة، هذا ناهيك عن أن المنظومة التسويقية بالمغرب تعرف مجموعة من الوسطاء والمضاربين والمحتكرين الذين يغتنون من أزمات المغاربة.

ويوضح جدري في تصريح لمجلة “الحصاد”، أن هذه الموجة التضخمية حدت من القدرة الشرائية للمواطنين، خصوصا ذوي الدخل المحدود والطبقات المتوسطة، وأن الحكومة حاولت القيام بمجموعة من الإجراءات كدعم النقالين ورفع استيفاء مجموعة من الرسوم الجمركية عن المواد الغذائية، وإعفاء الكثير من المواد الغذائية من الضريبة على القيمة المضافة، والشروع في الدعم المباشر للفئات العريضة من ذوي الدخل المحدود، من أجل إنقاذ الوضع، ولكن “هذه الإجراءات لم تكن فعالة بما يكفي، حيث قلصت من وطأة ضعف وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين فقط، خصوصا ذوي الدخل المحدود، لكنها عمقت من الفوارق الاجتماعية،  فأصبح المغرب ينقسم إلى ثلاث فئات: فئة الأغنياء التي ليس لديها مشكل في اقتناء مجموعة من السلع والخدمات، وفئة ذوي الدخل المحدود التي استفادت من دعم لا يقل عن 500 درهم ويمكن أن يصل إلى 1908 درهم في أفق 2026، وهو ما سيساعدها على اقتناء السلع الضرورية ومجموعة من الخدمات، لكن تبقى الطبقة المتوسطة هي الحلقة الأضعف، لأنها هي التي تؤدي الضرائب وتشتري مجموعة من الخدمات بسعرها الحقيقي، وهي التي لا تستفيد من أي دعم مهما كان، وهذا ما يوضح أن هذه الطبقة لا تدخل في أولويات الحكومة اليوم، وهو ما أدى إلى تدهور قدرتها الشرائية. وحسب إحصائيات للمندوبية السامية للتخطيط فـ 9 أسر من 10 لا تستطيع أن تكمل نفقات شهرها، وفقط 8 في المائة من الأسر هي التي قالت إنها يمكن أن تدخر خلال 12 شهرا القادمة”.

ويخلص المحلل الاقتصادي إلى أن المغرب ما زال بعيدا عن مطمح تحقيق الدولة الاجتماعية التي وضعت لها بعض الأسس، كالتأمين الإجباري عن المرض، والتعويضات العائلية، ومستقبلا سيكون هناك معاش للشيخوخة ومنحة لفقدان الشغل، ولكن المنظومة التسويقية للمغرب وكذا إشكالية الماء والطاقة، تجعل المغرب لا يتحكم في أمنه الغذائي والطاقي، وهو ما يبرز مع كل أزمة وطنية أو دولية، حيث تتدهور القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود والطبقة المتوسطة، ولهذا فالأمل معقود على أن “يكون ورش الحماية الاجتماعية وأسس الدولة الاجتماعية في حدود 2026 أو 2027 أمرا حقيقيا على أرض الواقع”.

الاحتكار والمضاربة

أما الدكتور طارق البختي رئيس “المنتدى المغربي للمستهلك”، فيرى أن المغرب عرف في السنوات الأخيرة ارتفاعا مهولا في مستوى الأسعار في جميع القطاعات، سواء تعلق الأمر بالخدمات أو المحروقات أو تذاكر السفر أو السلع والبضائع وكذا المنتوجات بما فيها الخضر والفواكه والملابس وقطع الغيار، وهو ما كان له الأثر الكبير على القدرة الشرائية للمستهلك الذي لم يعد قادرا على تلبية حاجياته، ما دفع بالعديد من المستهلكين إلى اللجوء إلى القروض الاستهلاكية حتى يتسنى لهم تغطية هذه الحاجيات.

ويعزو البختي، الأستاذ الجامعي بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة في تصريح لمجلة “الحصاد”، سبب ارتفاع الأسعار إلى الجفاف الذي عرفه المغرب خلال هذه السنة، دون إغفال  الحرب الأوكرانية- الروسية والتي أثرت بشكل كبير على السوق العالمية، خاصة فيما يتعلق بالمواد الأولية المستوردة بما فيها المحروقات، مشيرا إلى أن هناك أسبابا أخرى  ساهمت في ارتفاع الأسعار، ومن بينها عدم تحديد وتوحيد أسعار العديد من الخدمات، وأيضا العديد من السلع والمنتوجات بعلة حرية المنافسة والأسعار، وذلك وفقا للقانون المنظم لحرية المنافسة والأسعار، والذي يتيح إمكانية بيع المنتوجات وتقديم الخدمات بكيفية حرة على مستوى تحديد الأسعار من طرف صاحب الخدمة أو المنتوج، وهو ما يطرح سؤال الجودة في ظل حرية تحديد الأسعار. هذا ناهيك عن مسألة المضاربة في البضائع والأسعار وأيضا الاحتكار، حيث يعمد بعض التجار إلى احتكار بضائع أو منتوجات أو خدمات معينة دون الغير، وهو ما يتيح لهم وضع الأسعار التي تناسبهم، على اعتبار انعدام المنافسة في هذا الصدد.

ويؤكد البختي أن ارتفاع الأسعار المتزايد كان له “تأثير بالغ على القدرة الشرائية للمستهلك، لاسيما في ظل استقرار الأجور وضعفها وعدم تحسينها بشكل يتماشى مع ارتفاع الأسعار على المستوى العالمي بشكل عام، وذلك على الرغم من المبادرات الحكومية الرامية إلى تحسين الدخل الفردي والزيادة في الأجور، والتي تظل ضئيلة وغير كافية مقارنة مع ارتفاع خدمات التطبيب والعلاج لدى أطباء القطاع الخاص، وأيضا ارتفاع تكاليف التمدرس في القطاع الخاص، بالإضافة إلى الزيادة التي شهدتها غالبية المواد الاستهلاكية والغذائية، وهو ما حد بشكل كبير من القدرة الشرائية للمواطنين، وهو الأمر الذي لمسناه وبشكل جلي خلال  عيد الأضحى، حيث أن هناك العديد من الأسر لم تستطع اقتناء أضحية العيد نتيجة لارتفاع أسعار الأضاحي بشكل صاروخي هذه السنة”.

وعن حلول الدعم الاجتماعي التي تعمل الحكومة المغربية على إرسائها وفق ما يتاح لها من إمكانيات ووسائل ومجهودات، فهي تظل برأيه حلولا إيجابية وفعالة، وهي نابعة من مبادئ الدولة الاجتماعية القائمة على أسس الحماية الاجتماعية للمواطنين، والتي تعتبر ورشا ملكيا بامتياز، يهدف من خلاله العاهل المغربي الملك محمد السادس، إلى النهوض بالأوضاع الاجتماعية للمواطنين وإرساء أسس التضامن والتآزر وتوفير التغطية الصحية والعيش الكريم للمواطن المغربي، ومن تم فإن حلول الدعم الاجتماعي المقدمة في هذا الصدد تظل مبادرة محمودة وجيدة، لكنها غير كافية في ظل تنامي ظاهرة المضاربة والاحتكار، وكذا ارتفاع أسعار بعض البضائع المستوردة نتيجة ارتفاع تكاليف الاستيراد من بلد المنشأ وإلى غاية وصولها إلى المستهلك المغربي.

إن الوضع الاجتماعي والاقتصادي بالمغرب يطرح أكثر من سؤال، فعلى الرغم من إقدام “بنك المغرب” البنك المركزي بالبلد على خفض سعر الفائدة الرئيسي في 25  يونيو الماضي من 3 في المائة إلى 2.57 في المائة، أي بمقدار 25 نقطة أساس، فإن هذا القرار لن يكون له تأثير فعلي على الاقتصاد، حسب رأي بعض خبراء الاقتصاد بالمغرب، ولا تأثير فوري على أسعار الفائدة البنكية، حيث سيتطلب ما بين 6 و8 أشهر قبل أن ينعكس على سوق تلك الأسعار، سواء على المدى القصير أو الطويل، فيما يرى البعض الآخر أنه سيشجع على الاستثمار وتمويل الاستهلاك وحيازة العقارات والتجهيزات المنزلية والقروض الاستهلاكية، وسيمكن من تعزيز الانتعاش وتحفيز النمو.

فهل ستتمكن هذه الإجراءات الاحترازية والمبادرات الحكومية في ظل المتغيرات والتقلبات الداخلية والخارجية من ضمان العيش الكريم للمواطن المغربي، وحماية قدرته الشرائية مع وضع حد لموجة الغلاء، والتقليص من الهوة بين الفقراء والأغنياء بالمغرب، خاصة أن المغرب بات يتصدر قائمة أغلى البلدان على مستوى شمال إفريقيا، حسب تصنيف “أغلى الدول للعيش لسنة 2024” الصادر عن مجلة “سيو ورلد” المتخصصة؟