يختبر الإنسان مشاعر الغيرة منذ الطفولة، في البيت الواحد بين الإخوة، وفي الخارج بين الرِفاق. ويواجه الأهل مشاعر العداء بين أطفالهم بصبرِ وقلق، وبقدر ما تبدو الغيرة فطريّة، وضروريّة لنمو وبناء الشخصيّة في اختبارات المواجهة، مع معايشة ما تنطوي عليه من مشاعر الحزن والقلق والشعور بالخسارة والمنافسة وغيرها من المشاعر الثقيلة، قد تتطور الغيرة على نحو سلبي لتتحول إلى حسد وإضمار للشرّ وتمنيّ زوال النعم..
لَيوسف أحبُ إلى أبينا منّا
عالج القرآن الكريم موضوع الغيرة بين الأخوة معالجة محكمة، في تناوله لقصة النبي يوسف (ع)، إذ صوّر لنا كيف يمكن للغيرة أن تُفرّق بين الأخوة، وأن تتحوّل إلى حقد ورغبة في التخلص من الآخر حتى لو كان أقرب الناس، وصولا حدّ التفكير في قتله!
وإذ أنّ إلقاء يوسف في البئر كان حبل نجاته، فيلتقطه السيّارة ويتم بيعه لعزيز مصر، الذي رعاه وأحسن مثواه، لتبدأ رحلته المحفوفة بالاختبارات الإلهيّة، حيث يواجه الحب المحرّم الذي تكنه زوجة العزيز له، فيجتاز الأبواب السبع لينقذ النفس من الوقوع في الخطيئة، وتحيطه مكيدة هذا الحب، فلا تستكين هذه المرأة التي شغفها الحب فراحت تراود الفتى عن نفسه، وتصبح حديث النسوة الشامتات، فترد لهن المكيدة بأن تدعوهن وتعطي كلّ منهن سكينًا.. وتأمر يوسف بالدخول إلى محضرهن، فيسيل الدمّ من أصابعهنّ حسرة وافتتانًا بالجمال اليوسفيّ، ليكون هذا الدم شاهدًا على براءته وخروجه من السجن، حتى يأتي الخلاص بتفسير منام فرعون مصر، والذي منه يبدأ حصاده باستعادة حقّه من إخوته وتحقيق العوَض الإلهي بالارتقاء في المكانة.
تبدأ بعقدة
فسّر علم النفس موضوع الغيرة باهتمام، ورأى في الغيرة عاطفة لاعقلانيّة، تتمركز في اللاوعي، وهي طبيعيّة وضروريّة لنمو وتشكّل مكوّنات شخصيّة الإنسان، وإذ ركّز فرويد على السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل، اقترح علينا ما يسمى بـ”عقدة أوديب”، بل فرضها علينا كتفسير وكواقع حال، وتتحدث الأسطورة في الميثولوجيا الإغريقية، عن تحقّق نبوءة ملك يقتل أباه ولا يعرف أنه أباه ويتزوّج أمّه وهو لا يعرف أنّها أُمه، وعندما يعرف الحقيقة يفقأ عينيه.
وقد افترض فيما يُشبه الفرض في العام 1910 أنّ الطفل يشعر بالغيرة من والده ويكنّ مشاعر الحب والاستحواذ لأمه، ويدخل الطفل في حالة المنافسة على هذا الحب مع الأب. وهناك أيضًا، عقدة أليكاترا وهي شخصيّة إغريقيّة تقول الأسطورة أنّها قامت بقتل والدتها لأنّها شعرت بأنها تريد خيانة والدها، وتُفسّر هنا أنّ الإبنة تحبّ أباها وتكره والدتها وتغار منها.
وفي تحليل فرويد أنّ نمو الطفل النفسي والجنسي يقوم على هذه العقد، وأنها تساعد في بناء شخصية الإنسان وظهور الأنا العليا.
فحياة الطفل تقوم على الملاحظة؛ ملاحظة الأدوار الاجتماعيّة للوالدين، ويشدّد فرويد على ضرورة أن يتدخل الأب ليضع الحدود حتى لا يتخطى هذا الحب سياقه.
يذكر الدكتور في علم النفس “أنطوان الشرتوني” في مقالة له في صحيفة الجمهوريّة تحت عنوان: “عقدة أوديب ضرورية لنمو نفسيّة الطفل”، (2 شباط 2015) بأنّ الطفل ينجذب للجنس الآخر ويشعر بالحقد اتجاه الأشخاص من جنسه، ويشير إلى اهتمام الطفل باكتشاف أعضائه التناسلية حيث تغار الفتاة من والدتها وتعشق والدها وتعتقد أنها ستكتسب عضوًا تناسليًا ذكريًا، لتفهم لاحقًا الفرق، فتعوّض الطفلة الشعور بالنقص من خلال حلم إنجاب طفل ذكر في المستقبل.
ويشير الدكتور الشرتوني أنّ هذه العقدة تنتهي عند بلوغ الطفل عامه الرابع أو الخامس، فيفهم الطفل حينها أنه لن يستطيع أن يحلّ مكان أحد والديه.
وهنا يشير الشرتوني إلى أنّ الرجل يبحث عن زوجة تشبه في صفاتها والدته وكذلك المرأة تبحث عن رجل يشبه والدها، إذ تفهم أنه لا يمكنها كسب هذه المعركة مع الأمّ إذ صحّ التعبير.
الغيرة والنمو
تقرّ الدراسات في علم النفس والتربية أن الغيرة جزء من نمو الطفل وتطوّره، وجزء من مشاعره العاطفيّة وهي تبدأ من عمر السنة ونصف حتى الثلاث سنوات، وتكون حينها المشاعر طبيعيّة وغير مضرّة، وبعد هذا السن تصبح الغيرة أكثر صعوبة.
وبرأي الاختصاصيين؛ لا يوجد سبب ثابت للغيرة عند الطفل، ولكن هناك مجموعة من الأسباب الأكثر بروزًا، وقد ذكرتها الاختصاصيّة التربويّة “دينا حرباوي”: الغيرة من المولود الجديد، القلق والانفصال العاطفي، التراجع النمائي أو ما يسمى بالمفهوم النفسي النكوص، الضغط البيئي أو التغيير المفاجئ، الحاجة إلى الشعور بالأهمية والانتماء.
يبدأ الطفل بملاحظة أنّ هذا القادم الجديد يقوم بسلب حظوته لدى أمّه، ويبدأ بملاحظة تراجع نسبة الاهتمام به، ويشعر بالخوف من فقد حبّ الأم له، فيواجه أعراض القلق والانفصال العاطفي، فيميل للانطوائيّة وفقدان الرغبة بالتفاعل مع الآخرين، وكذلك التعلّق المفرط بالوالدين والخوف من أن يُترك وحيدًا. وقد يحدث لدى الطفل تراجعًا نمائيًا أو نكوصًا حيث يسعى الطفل لجذب اهتمام والديه من خلال العودة إلى الوراء.
وتشير الاختصاصية دينا حرباوي، إلى أنّ الطفل فوق عمر الثلاث سنوات يحتاج إلى الشعور بالأهمية والانتماء، بالبحث عن مكانة داخل الأسرة وعن دور بعد وصول المولود الجديد، وفي حال إقصائه وعدم إشراكه في رعاية المولود، قد ينعزل ويتخذ موقفًا إنسحابيًا؛ بالامتناع عن الكلام والانسحاب من النشاطات اليوميّة وعدم التفاعل مع المحيط الخارجي.
علامات وإشارات
تتحدث الاختصاصيّة “دينا حرباوي” أنّ الطفل لا يعترف بشعور الغيرة لظنّه أنّ الغيرة تدل على النقص، لذلك فهو يكبت شعوره، ولكن هناك علامات تدل على غيرة الطفل من أصدقائه أو إخوانه، وهذه العلامات تظهر من خلال عدة مظاهر منها:
المظاهر الانفعاليّة وتتلخص بالميل إلى الإنعزال والانطوائية، الشعور بالأنانيّة، الشعور بالاضطهاد والظلم من الآخرين، القلق الشديد والمبالغة فيه مع الحذر من الناس، الشعور بالنقمة وعدم الراحة لنجاح غيره.
المظاهر السلوكيّة وتتبدى من خلال إثارة انتباه الأهل والمطالبة بأشياء صغيرة جدًا، التحدث بصوت عال لجذب الانتباه، الكذب في كثير من المواقف، الميل للتخريب والعدوانية، تجاهل بعض الأشخاص وخاصة من يثير غيرته، الرجوع إلى سلوك طفولي مثل البكاء والصراخ.
المظاهر الجسمانيّة، نقص في الوزن، شكوى من وجع في الرأس، تعب وخمول الطفل، فقدان الشهية. المظاهر النفسية فهي البكاء الدائم مع مشاعر الحزن، التبول اللإرادي، الحساسيّة الزائدة.
الغيرة العمياء
يمكن لهذه الغيرة أن تكون عمياء عن أي براءة أو لطافة طفل، فيبدأ الطفل الغيور عملية مضايقة هذا القادم غير المرغوب به من قِبله، فيُضمر في لمساته التحبُبيّة صفعات، وعضّات بأسنانه الصغيرة الحادة، وقد تتطوّر إلى محاولات خنق من دون أن يُدرك الطفل أبعاد ما يفعله، ويمكن لهذه الغيرة أن تسبب المأساة في حياة العائلة وتساهم في خلق مشكلات حقيقيّة في نمو الطفل ما لم يتم إدراته بشكل جيّد. وتبرُز عند الطفل الغيّور أعراض سلوكيّة منها التراجع في المهارات المكتسبة، أو التراجع إلى أنماط سلوكيّة أصغر سنًّا مثل الرغبة في أن يُحمل كالأطفال الرُضّع، أو تقليد صوت الطفل الرضيع، -كما أشرنا سابقًا- وهنا يؤدي سلوك الأهل اتجاه الطفل الغيّور دورًا مهمًّا.
فالطفل الذي يشعر بالخسارة هو ضحيّة هذه المشاعر المؤلمة التي يختبرها من دون أن يدرك أبعادها، وهنا يعدّ تدخل الأهل ضرورة ملحة تفرض عليهم مراعاة مشاعر الهجر بتجنّب إهماله وتخصيص وقت له، والاستمرار على روتين الاهتمام به، حتى لا نصل إلى طفل أكثر عدوانية وانطواء.
فالأطفال أكثر حساسيّة من البالغين في إدراك مشاعر الأم وفهمها لذا من المهم أن تتحكّم الأم بمخاوفها. وأن تنتبه لردّات فعلها المحسوبة حيث تفسّر تعابير القلق التي تبديها الأم اتجاه طفلها خوفًا من أذية أخيه الأصغر من خلال السلوك أو اللفظ، شعورًا بالذنب لدى الطفل، وتُعزّز مشاعر الغيرة السلبيّة لديه، لذلك من الضروري أن تدير الأمّ الموقف برويّة وحكمة قدر إمكانها.
لمساعدة الطفل في ترويض غيرته
كما تمت الإشارة إلى أنّ الغيرة فطريّة، وتحمل في طيّاتها طاقة عدوان اتجاه الذات واتجاه الآخر كذلك، لذا من المهم أن يسعى الأهل لاحتضان هذه المشاعر وتفهّمها، والعمل على ترويضها لمساعدة الطفل على فهمها والتعامل معها بما لا يسبب له ولا للآخرين ضررًا.
وتقترح حرباوي من جملة الحلول تخصيص وقت خاص ونوعي للطفل ليشعر بالأمان والاهتمام.
والحرص على مجموعة من المحاذير أثناء التعامل مع الأطفال، وهي: تفضيل أحد الأطفال على الآخرين، والمبالغة بالاهتمام اتجاه طفل واحد، وتتحدث أيضا عن سلبيات معاقبة طفل أمام الآخرين.
كذلك تقترح أن يتواصل الآباء مع الطفل الغيور بلطف، من خلال سؤاله عن مشاعره وتشجيعه على التعبير عنها، وتعزيز مشاعر الأمان بالتعبير عن الحب الذي يكنّه الأبوان له وطمأنته باستمرار أنّ مكانته ثابتة وشرح احتياجات الصغير، وتعزيز دور الأخ الأكبر من خلال طلب مساعدته وإشراكه في رعاية الصغير كإحضار الحفاضات أو اختيار الملابس، مع إظهار التقدير لدوره وتعزيز شعوره بالأهميّة. وتعزيز ثقته بنفسه من خلال مدح إنجازاته والتركيز على صفاته الإيجابيّة، وكذلك تقترح الحفاظ على روتين يومي ثابت. كذلك تدعو إلى تجنّب المقارنة بين الأخوة لأن ذلك يزيد من الغيرة والاحتقان العاطفي، وتدعو الأهل إلى طلب المشورة من مختّص في حال استمرت الأعراض وتفاقمت حدّتها وخاصة منها التراجع النمائي كالتوقف عن الكلام وغيرها..
ويبقى أن المقال هنا قد تناول مفهوم الغيرة عند الأطفال، ولم يكن توسعيًّا في عرضه فاقتصّر الحديث عن اختبار مشاعر الغيرة الأولى في مرحلة الطفولة، وذلك لأنّ الغيرة في هذه المرحلة فطريّة، وهي اللُبنَة الأساس التي عليها تُبنى مواقف الطفل في تكوين شخصيته، وعليه فإن الآباء هنا يؤدون دورًا غاية في الأهميّة في تصويب وتهدئة مشاعر طفلهم، ومساعدته حتى يكون ضمن دائرة الأمان والاهتمام.