القاتل الصامت ورسائل ما قبل الانتحار

  في كتابها «انتبه إلى جسدك»، تحدّثت الكاتبة والاستشارية النفسية د. نیکول ساكس «Nicole J. Sachs»، عن تقنية للعلاج من الألم المزمن «chronic pain»، أسمتها «Journal Speak/ التحدّث إلى الورق». تتلخّص هذه التقنية، بتمرين للكتابة مدته 20 دقيقة، طوّرته لمساعدة الناس على التعبير عن مشاعرهم، كما هي، من غير فلترة أو تجميل، الأمر الذي يُتيح لهم تفريغ خزّان الألم النفسي يومًا بعد يوم؛ حيث ينتقل الألم العاطفي إلى الورق، وعندها يتوقّف الجهاز العصبي عن إرسال إشارات الألم الجسدية. على أن يقوم الشخص، بتمزيق الورقة التي كتَب عليها، والتخلّص منها.

 تقول د. ساكس في بودكاست لها: «إنّ طب العقل عبارة عن نموذج يُدرك تأثير الصدمات النفسية والمشاعر المكبوتة على الصحة الجسدية. وأكدت أبحاث عديدة، أنّ الألم الجسدي والنفسي مترابطان، وأنّ منشأ العديد من الأعراض الجسدية عصبيٌّ – نفسيٌّ، وليس فسيولوجياً. وتصدر إشارات الألم جميعُها من الدماغ والجهاز العصبي، سواء أكان منشأ هذا الألم عصبيًا – نفسيًا أو جسديًا. وتتوقّف إشارات الألم عن الانطلاق، بمجرد انخفاض مستوى الألم عن الحد الأقصى، وذلك لأنّ جهازك العصبي لم يعد يشعر بالحاجة إلى حمايتك من اللاوعي».

  ربّما سبق كافكا د. ساكس، بالتحدّث عن هذه التقنية، دون أن يشرحها ويفسّرها بشكل علمي، عندما قال عبارته المكثّفة والعميقة: «الكتابة هي انفتاح جرح ما!»، لكن دون أن يهتم بالفعل الذي سيحدث بعد فعل الكتابة (تمزيق، حرق، إتلاف…).

والسؤال هل حقًّا تشفي الكتابة؟ أم هي مجرّد تفريغ مؤقّت للألم؟ أم هي وهمُ الكتّاب الكبير؟

 يأتي طرحي لهذه التساؤلات، بعد قراءتي عشرات السير الذاتية لكتّاب أعتقد أنّهم فرّغوا ألمهم على الورق بما يكفي، وبلغت شُهرة كتاباتهم مختلف أنحاء العالم، لكنّهم على الرغم من ذلك، أنهوا حياتهم بالانتحار: (فرجينيا وولف، مارينا تسفيتايفا، آن سكستون، سيلفيا بلاث، تاديوش بوروفسكي، أرنست همنغواي، رينيه كريفيل، سيرغي يسينين، يوكيو ميشيما، تاميكي هارا، ماريانو خوسيه دي لارا، خليل حاوي، عبد الباسط الصوفي، إبراهيم زاير، تيسير سبول، بول سيلان… وغيرهم كُثر على اختلاف الأجناس الأدبية التي كتبوها)!

 تُجيب الطريقة التي اختار بها هؤلاء إنهاء حياتهم، عن تساؤلاتي الثلاثة المتتالية السابقة، ورُبّما تتخطاها لمتوالية من التساؤلات، تتولّد عن بعضها الآخر؛ إذ كان فعل الكتابة آخر ما مارسه أغلبهم، عندما كتبوا رسائل ما قبل الانتحار. ويبدو أنّ هذا التفريغ للألم، سواء خلال مسيرتهم الكتابية أم قبل لحظة الانتحار، لم يكن كافيًا لكي يدفعهم إلى إعادة التفكير، بقرار لا رجعة فيه عقب تنفيذه. وعلى ذلك، قد تُساعد الكتابة البعض في الوصول إلى مرحلة الانعتاق من جرح الماضي، وذلك لحظة تجاوز عتبة الألم، لكن بالمقابل يفشل الكثيرون في الوصول إلى الشفاء، ما يعكس خصوصية النّفس البشرية، ويوضّح أنّها معقّدة أكثر من أن تكون هناك طريقة واحدة للشفاء، حتّى ولو كانت هذه الطريقة علمية.

 يزداد هذا التعقيد أمام ما يُعرف بالقاتل الصامت، الذي يتسلّل بخفّة يومًا بعد يوم إلى أعمق نقطة في داخلنا، لينهش لحم الروح، ويُلغي المعنى من قاموس الوجود، ويُطفئ بذلك الرغبة في الحياة. إنّه الاكتئاب، الذي عُرّف وفقًا لعلم النَّفْس على أنّه: «اضطراب مزاجي، يُسبّب شعورًا متواصلًا في الحُزن، وفقدان المتعة، وانعدام الاهتمام بالأمور المعتادة، ونقص التركيز. يُصاحبه شعورًا بالذَّنب، وعدم الأهمية، ونقص تقدير الذات. الأمر الذي يؤثّر سلبًا على المشاعر، والتفكير، والسلوك».

 وبقراءة عشرات رسائل ما قبل الانتحار لعشرات الكتّاب، نلاحظ أنّ القاسم المشترك فيما بينهم هو الاكتئاب، الذي دفعهم إلى إنهاء مسيرتهم بأنفسهم. مسيرةٌ يحلم بها كاتبٌ ما زال في بداية طريقه، حتّى ولو يصل إلى منتصفها. ومن بين عشرات الرسائل هذه، استوقفتني رسالتان لكاتبتين، نتيجة كلّ من الزخم العاطفي الذي اكتنزتاه، مع إدراك واعٍ للألم الذي أصابهما، وتفريغه على ورقة الرسالة دون أيّ تجميل؛ والثقة التي لم يغيّبها الاكتئاب، ثقة بمحبّتهم لمن أرادوا توديعهم في رسالتهم الأخيرة. لكن وعلى الرغم من ذلك، لم تحمهم هذه العاطفة من الانتحار، كما لم يحمهم وجود الآخر في حياتهم، ولا حتّى كتاباتهم. بالإضافة إلى وجود مصادفة ما بينهما، حيث اتّخذت كلتاهُما هذا القرار المأساوي في العام ذاته (1941)، بفارق أشهر قليلة.

  الرسالة الأولى: رسالة الروائية والصحافية الإنكليزية فرجينيا وولف: «عزيزي، أنا على يقين بأنّي سأجن، ولا أظن بأنّنا قادران على الخوض في تلك الأوقات المُريبة مرّةً أخرى، كما ولا أظن بأنّي سأتعافى هذه المرة. بدأت أسمع أصواتًا، وفقدت قدرتي على التركيز. لذا، سأفعل ما أراه مناسبًا. لقد أشعرتني بسعادة عظيمة، ولا أظن أنّه ثمّة من شعر بسعادة غامرة، كما شعرنا نحن الاثنين معًا، إلى أن حلَّ بي هذا المرض الفظيع. ما عدتُ قادرة على المقاومة بعد الآن، وأعلم أنّي أفسد حياتك، وأعلم أنّك بدوني ستحظى بحياة أفضل، متأكدةٌ من ذلك. هل تلاحظ؟ حتّى أنّي لا أستطيع كتابة هذه الرسالة بشكل جيد، ولا أستطيع أن أقرأ. جلّ ما أريد قوله أنّي أدين لك بسعادتي. كنت طيبًا معي، وصبورَا علَي، والجميع يعلم ذلك، ولو كان بإمكان أحد ما أن ينقذني، سيكون أنت. لقد فقدت كلّ شيء، عدا يقيني بأنّك إنسانٌ طيبٌ، وما عدت قادرة على المضي في تخريب حياتك! ولا أعتقد أنّه ثمّة كائنٌ شعر بالسعادة، كما شعرنا بها».

من يُصدّق أنّ هذا آخر ما كتبته كاتبة استحقّت بجدارة أن تكون إحدى أيقونات الأدب الحديث في القرن العشرين، مَن وُصفَت بأنّها مُلهمة الحركات النسوية، وإحدى أرفع الشخصيات النسوية، اللواتي استندت إليهنّ حركة النقد الأدبي النسوي في سبعينيات القرن الماضي، مَن أثارت آراؤها الجدل، ومَن تُرجمت رواياتها إلى مختلف لغات العالم. من يُصدق أنّها عانت خلال حياتها من نوبات الانهيار العصبي، ودخلت إلى مصحّ نفسي بسبب محاولتها الانتحار أكثر من مرّة، وشُخّصت حالتها بالاكتئاب (ثنائي القطب)!

من يُصدق أنّها بعدما انتهت من كتابة روايتها الأخيرة «بين الأعمال/Between the Acts»، التي نشرت بعد وفاتها، عاد إليها الاكتئاب الحاد، وضاعف من سوء حالها تدمير منزلها في لندن بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ وردّة فعل القرّاء الباردة تجاه السيرة الذاتية التي كتبتها عن حياة صديقها الراحل روجر. وفي نهاية المطاف، قادها ذلك كلّه إلى كتابة رسالة إلى زوجها، تكتنز العاطفة والاحترام، والاعتراف بما اختبرته معه من حبّ وسعادة، وتُوضّح حجم الاضطراب في داخلها، وإدراكها التام لأنّه رجل طيب ومُخلّص، وقادر كما كان دائمًا على تفهُّم معاناتها، فهي تفقد قواها العقلية تدريجيًّا، وتخطو دون إرادة منها صوب الجنون، لذا فهو يستحق حياة أفضل بدونها، وتستحق هي الراحة الأبدية من هذا الجحيم. ثُمّ تركتها على الموقد في غرفة الجلوس، ارتدت معطفها، ومَلأته بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر (أُوز/ (Ouse القريب من منزلها (28-مارس-1941)، ليُعثر على جثتها لاحقًا (18-إبريل-1941)، حيث تولّى زوجها دفن رفاتها في حديقة مونكس هاوس.

 الرسالة الثانية: كتبتها الشاعرة الروسية مارينا تسفيتايفا، في لحظة اختارت فيها أن تضع حدًّا لآلامها وللصعوبات الماديّة التي وصلت إليها بالانتحار، وذلك بعد شجار دار بينها وبين ابنها «مور». يومها، حالما خرج ابنها من المنزل كتبت ثلاث رسائل منفصلة. الأولى لابنها: «مورليغا اعذرني ولكن الأمور قد تسوء، فأنا مريضة بشدة، وهذه لم تعد أنا. أحبك بجنون افهم أنني لم أعد أستطيع العيش، أخبر أباك وآليا أني أحببتهما حتى الرمق الأخير، واشرح لهما أنني وصلت إلى طريق مسدود».  والثانية لمجموعة الأدباء الذين نزحوا معها خارج روسيا: «أيّها الرفاق الأعزاء، لا تتركوا مور أتوسل إلى كل شخص منكم يستطيع أن يأخذه إلى تشيستوبول، إلى نيقولاي نيقولا يفيتش آسييف. السفن، مرعبة أتوسل إليكم ألّا ترسلوه وحيدًا، ساعدوه في حزم حقائبه وحملها في تشيستوبول. أنا أعول على بيع مقتنياتي. أريده أن يعيش وأن يتعلم، معي سيضيع. عنوان آسييف على الظرف. لا تدفنوني حية تأكدوا جيدًا».  أمّا الثالثة للشاعر «نيقولاي آسييف» تشرح فيها عن سبب انتحارها وتوصيه بابنها، وكيفية التصرّف بمقتنياتها: «عزيزي نيقولاي فيتش! أخواتي العزيزات سينياكفا! أتوسل إليكم أن تأخذوا مور إلى تشيستوبول، فقط اعتبروه ابنًا لكم، وذلك لأجل أن يتعلم، فلم يكن بإمكاني إعطاؤه شيئًا، أنا فقط أدمره. لدي 450 روبلا في حقيبتي، وحاولوا بيع مقتنياتي، وفي الصندوق بعض المخطوطات لكتب من شعري، ومجموعة من النثر المطبوعة، أنا أعهد بهم إليكم، اعتنوا بعزيزي مور فهو بحالة صحية هشة للغاية. أحبوه مثل ابنكم؛ إنه يستحق ذلك. وسامحوني لم يعد باستطاعتي تحمل كل ذلك. لا تتركوه أبدًا. سأكون سعيدة إذا عاش معكم، وإذا ما غادرتم خذوه معكم، لا تتخلوا عنه!»؛ ثُمّ شنقت نفسها، بحبل قيل أنّه الحبل ذاته الذي أعطاها إيّاه، صديقها المقرّب الشاعر الروسي «بوريس باسترناك»، لتحزم به حقائبها المهترئة ذات يوم. دُفنت بتاريخ (2-سبتمبر-1941)، وبذلك انتهت مسيرة واحدة من أهم شُعراء وشاعرات ما عُرف بالعصر الفضي الروسي، التي يتضّح من خلال قراءة رسائلها الثلاث، أنّ حياتها كانت مليئة بالأصدقاء، والحُبّ، برغم الصعوبات التي اختبرتها. وأنّه كان هناك ما تعيش لأجله: ابنها، أصدقائها، وقصائدها، التي كتبت في إحداها، بطاقة أنوثة عالية: «أنا حوّاء، وعواطفي جيّاشةٌ/ حياتي كلّها رعشةٌ عاطفيّةٌ، عينايَ جمرتان…/ أنا حوّاء، مثل الريح/ والريح ليست لأحد»… لكن كان للاكتئاب رأيٌ آخر!

يقول ألبير كامو: «الانتحار هو العمل الفلسفي الأصيل». ومنحت الفلسفة اليونانية القديمة التقدير لفعل الانتحار، الذي ارتبط بطقوس دينية يُشار إليها بالتضحية بالذات. ولاحقًا غدا له فلسفته الخاصّة مع الرواقيين. كلّ ما سبق، يحكي عن النفس البشرية المعقّدة، وعدم جدوى تقنية التحدّث إلى الورق، أمام فقدان المعنى، وتجلّي رغبة الموت في قلب من أنفقوا حياتهم، يفرّغون ألمهم العاطفي على الورق. ما يعني أنّه قد يكون للكتابة ردُّ فعل عكسي، فتتجاوز كونها انفتاح جرحٌ ما.

المرجع: ويكيبيديا