القاصة اللبنانية بسمة الخطيب : النساء الحساسات هنّ من يضئن طريقي ويلهمنني

الروائية والقاصة اللبنانية بسمة الخطيب تمتلك أدوات الإبداع لتشعر القارئ بأبعاد نصوصها القصصية والذهاب به إلى منطقة سردية فريدة وأسلوب غير اعتيادي ومتعة غامضة.

بسمة الخطيب تكتب الرواية، القصص القصيرة وتكتب للأطفال. درست الإعلام المرئي والمسموع وتربية الطفل. عملت مراسلة لإذاعة بي بي سي العربية وفي تلفزيون المستقبل والجزيرة للأطفال، وفي جريدتي السفير اللبنانية والحياة اللندنية.

صدر لها العديد من المجموعات القصصية والروائية منها: دانتيل، شرفة بعيدة تنتظر، برتقال مرّ. نالت عددًا من الجوائز منها الجائزة العالمية  للكتاب وجائزة اليعسوب البنفسجي”الأميركيتين  2019  عن كتاب قنديل ألمى ووصلت إلى

القاصة اللبنانية بسمة الخطيب : النساء الحساسات هنّ من يضئن طريقي ويلهمنني

اللائحتين القصيرتين إندي ناشونال اكسيلانس، ونكست جنزيشن 2021 عن كتاب (حقيقة منسية ).تقيم الآن بين لبنان وإسبانيا.

كان لنا معها هذا الحوار عن المجموعة القصصية الصادرة حديثًا بعنوان: (نحر الغزال )هذه المجموعة التي تشبه قصص الأطفال الخرافية المكتوبة بأسلوب سردي مبدع حيث أنها جعلت أبطال المجموعة القصصية أشبه بكائنات الخيال العلمي أو كائنات غريبة الأطوار كل قصة لها مغزى جاءت بنوع تراجيديا  مميزة.

الحصاد:في المجموعة القصصية “نحر الغزال” الصادرة عن “دار المتوسط –إيطاليا” نجد غرائبية وضجيجاً وقلقاً… حدثيني عن حيثيات ولادة المجموعة القصصية وهويتها؟

بسمة الخطيب: أثناء الوباء قرّرت أن أجمع القصص التي كتبتها خلال عقد من الزمن لأرى إن كانت تصلح للصدور في مجموعة. كان أسلوبها واحداً تقريباً ومناخاتها متقاربة، نشرت بعضها في المطبوعات الورقية والإلكترونية وأخرى لم أنشرها، حرّرتها وعملت عليها لبعض الوقت، وشعرت أني بحاجة إلى إضافة ثلاث أو أربع قصص لأفكار كانت تلحّ عليّ. في تلك الفترة عشت احتضار أبي وفتك السرطان به، تجربة الحظر، وتبعات الوباء، وواكبت معاناة أطفالي مع كل هذا، وبعد وفاة والدي ظننت أني لن أمسك القلم ثانية. لكن ما حدث بعد سنة ونصف من تلك الشكوك هو العكس تماماً. عدت إلى المجموعة القصصية وراجعت بعض التدوينات وبذور القصص التي خزّنتها في دفاتري خلال سنوات. وبدأت أكتب باندفاعة لا مثيل لها، حدث الأمر تحديداً بعد عودتي من رحلة على فرانكفورت. رحلة الذهاب كانت مزدحمة للغاية، عائلات لاجئة وأخرى مهاجرة وسيدة معها قطط حبيسة قفص استفاقت عند هبوط الطائرة وبسبب التدافع. شعرت بأن عمراً جديداً سيكتب لي إن خرجت من الطائرة. تأخر فتح باب الطائرة لعلّة ما. كنت في سجن من نوع آخر. حين خرجت من الطائرة وتنفست الهواء الطلق شعرت بأني نجوت من الموت للتوّ. حدثت أمور ملهمة في تلك الرحلة، أم لعلّني استعدت قدرتي على الدهشة والتخيل والتقاط الإشارات واستقبال الإلهام! حين عدت من رحلتي بدأت أكتب باندفاعة جامحة وتقريباً من دون تعب أو ملل أو توقّف. قصّة بعد قصّة بعد قصّة. كانت مختلفة الإيقاع والأجواء والأسلوب عن أي شيء كتبته سابقاً. كنت أنا أول من دُهش بها وهذا أكثر ما يسعد الكاتب: أن يكتشف مناطق جديدة في خياله وإبداعه وقدرات جديدة في لغته ومرونة في زوايا معالجته للموضوعات واستخدامات مختلفة لأدواته. كتبت حوالي عشرين قصة وعملت عليها بضعة شهور. بعد أكثر من سنة حين أردت إصدارها قرّرت أن أصدرها وحدها من دون أن أجمعها بالقصص القديمة. كان هذا مثار جدال داخلي ومع الأصدقاء المقربين الذين يقرأون مسوداتي. البعض كان مع اصدار القصص كلها وترك القارئ يميز بين عالميها. ولكني لم أفضّل هذا الخيار. وهكذا صدر كتاب “نحر الغزال” الذي اعتبره ولادة جديدة لي كقاصّة.

الحصاد:ما هو العنوان الأبرز لتجربتك القصصية الحالية هذه؟

بسمة الخطيب:أظنّ أنّه “الرمزية”. وقد شعرت بالرضا الإبداعي وأنا أدفع بكتابي إلى النشر، لأنّ القصّة القصيرة طالما كانت بالنسبة لي أكثر الفنون رمزيّة. الترميز يتطلب التكثيف والخيال والإدهاش وبلاغة المضمون وهذا هو فضاء القصة القصيرة المثالي.

 الحصاد: في كتاب “نحر الغزال” إحالات للواقع الذي نعيشه فنجد الترميز والغموض والوضوح حيث تكتبين عملك بشكل فني ولغة سلسة رشيقة غرائبية.. من أين تستقين أفكارك؟

بسمة الخطيب:من كلّ صوب وكلّ بُعد. عملية تحويل لقطة ترينها عبر شباك مطبخك أو جملة تسمعينها وأنت تعبرين إشارة مرور إلى فكرة تلتصق في عقلك ثم تنتقل لتصير قصّة، عملية لا قواعد ثابتة لها، ولا وصفات معينة، يحدث الأمر في لحظة عجائبية بذاتها، لا تحسب زمنياً وفق المعايير العلمية المعروفة. من الأفضل أن أعطي أمثلة لأن الإجابة تبدو تنظيرية بهذا الشكل. مثلاً قصة “العمياء”، وهي عن امرأة تعمل في صالون تقليم أظافر لديها زوج وأطفال. بين موجات الوباء المتتالية تبدأ تعاني في حرقة في عينها تتزايد مع الوقت وتنتقل للعين الثانية تتطوّر الحرقة إلى دموع كثيفة وعجز عن فتح الجفون، ليتعذّر عليها فتح عينيها في النهار ومواجهة النور، تتحوّل إلى كائن ليلي، عمياء في النهار ومبصرة في الظلام، تتجوّل في المدينة في الليل مع كائنات الليل الأخرى، يتركها زوجها ويسافر بأطفالها. تروح تقتات من البراري والقمامة، تتحوّل إلى ضبع مخطّط- الذي كاد ينقرض قبل الوباء وعاد ليظهر مع انحسار النشاط البشري الخارجي. من أين أتت هذه القصة؟ بالتأكيد من حياتي ومشاهداتي معاً. أنا شخصياً بدأت أعاني من حرقة في العين ومرة كنت أقود فبدأت عيني تدمع وتحرقني فأغلقتها وقدت بعين واحدة. هدأت عيني لاحقاً، قالت الطبيبة إنها حساسية من التلوث، وقال آخرون إنها حرارة العين، وقلت لنفسي إن العالم بات يؤذي العين، وفي تلك الفترة كان هناك خبر عن عودة الضبع المخطط الذي هو أحد الحيوانات الوطنية البرية في لبنان إلى الظهور بعد أن كاد ينقرض.

أما قصة “في انتظار سرطان البحر” فهي عن سجناء في أحد سجون الأنظمة العربية القمعية حيث لا قانون ولا إنسانية، يقرر السجناء أن يقتل أحدهم الآخر، وهي أتت من وحي صور قيصر التي تفوقت فظاعتها على صور سجني “غوانتانمو” و”أبو غريب”. وكأن ثمة منافسة على الوحشية. كل أنظمة القهر ليست واحدة بل متمايزة عبر كسر عتبات توحشّ كل منها.

قصة المسخ هي من وحي حشرة كافكا العملاقة، سألت نفسي ماذا لو حدث العكس واستيقظ حيوان متوحش ذات يوم ليجد نفسه إنساناً في مغارته! طردته الحيوانات الأخرى إلى عالم البشر حيث كابد الشوق للحرية والغرائز البرّية… وفي قصة “الحقيبة” يجلب زوج ذات يوم أحد إلى بيته حقيبة لصديقه الذي هاجر وتركها عنده ريثما يعود. لا تتقبل الزوجة الحقيبة وتحاول التخلص منها، لكنها تعود لها كل مرة، تشعر بأنها جعلت البيت مكتظاً وقلبها مضطرباً، تخشى أن تكون فيها قنبلة وأن تنفجر فور تفتحها، ثم تتآلف مع وجودها في إحدى زوايا البيت وكأنها جزء منه، ولكن تعوّدها لا يحدث من دون ثمن، تسبب الحقيبة ضرراً في روح الزوجة، وضرراً في علاقتها بالأيام، فتصير كل أيامها آحاداً رغم تهرّبها من ذاك اليوم وإسقاطه من رأسها. القصة تطوّرت من فكرة خطرت لي وأنا أسمع في المطار تحديراً روتينياً “من أنّ الحقائب المتروكة ستصادر ويتم إتلافها”، فكرت في المستودع الذي تحشر فيه الحقائب قبل الإتلاف ومحاولتها للنجاة. كما أنني ممن يعتقدون بأن للأزواج حيواتهم الخاصة خارج بيت الزوجية وعالم الأبناء، فماذا لو جلبوا قطعة من ذاك العالم إلى البيت؟ كيف ستتقبله الزوجات؟ إن كانت زوجة حساسة فقد تصيبها تلك القطعة بالارتياب والهوس. وستجبر على تقبّلها رغم رفضها أن تراها حتى. تُجبر التقاليد الاجتماعية والمعتقدات الدينية الزوجة على تقبّل كلّ دخيل يجلبه زوجها، لأجل أمان أسرتها وعدم تفككها.

الحصاد:لقد قلتِ في لقاء: “المرأة رمز منح الحياة” . ففي المجموعة القصصية نحر الغزال نجد النساء حاضرات بشكل رائع فتصفين أوجاعهنّ؟

بسمة الخطيب:المرأة تمنح الحياة، والألم جزء مهمّ في أن تكون حيّاً. المرأة منذ تصير أمّاً تصير أكثر عرضة للألم والقلق. علمياً، مع المخاض والإرضاع يزيد إفراز دماغ المرأة لهرمون الأوكسيتوسين، الملقب بهرمون الحبّ لأنه المسؤول عن التعاطف والود والتواصل والتفهم. هشاشة ألم في تلك المرحلة دفعت الرجل إلى تولي مهمة الخروج ومواجهة شراسة العالم وتأمين حاجيات امرأته وطفله. أنا لا أضيء على النساء الحساسات والقويات والمكافحات والمترددات في نصوصي، أنا أستنير بهنّ، هنّ من يضئن طريقي ويلهمنني…

الحصاد:كيف تم اختيارك للعنوان؟

بسمة الخطيب:كنت قد اخترت عنوان إحدى القصص في المجموعة وهو “هل أخبرتِ الأشجار؟” أحببت أن يكون العنوان سؤالاً. لكن الناشر خالد الناصري طلب أن أفكّر في عنوان آخر لأن الحالي يوحي بأن القصص رومانسية وهي ليست كذلك، بل هي قاسية وتراجيدية غالباً. تناقشنا ودرسنا عدة عناوين، لكنني في ساعات الفجر الأولى لأحد الأيام، وأنا عاجزة عن النوم، قررت أن أعيد كتابة إحدى القصص. فقد أوحى لي حواري مع خالد بفكرة وارتسم الغزال في مخيلتي كرمز لما يفتقده عالم قصصي وتبحث عنه الشخصيات التي قادها قدرها إلى الوحشية والقسوة. ثمة وحوش كثيرة في كتابي، وهي تصطدم بالجمال والعذوبة والوله والشجن قبل أن تفترسها، بينما يمكنها أن تفترسها بسهولة، ثمة مجال للعبث بها أولاً واختبار قوتها وصمودها…  لذا أعدت القصة واسمها يلحّ على أصابعي: نحر الغزال. حين كتبته على الشاشة قلت لنفسي: هذا هو! وكان هو.

الحصاد:وفي المجموعة نفسها نجد  مع بداية كل قصة تبنين عالمًا قصصيًا جديدًا وتبدأين من الصفر وعليكِ أن تختزلي الحكاية في سطور قليلة؛ فقمتِ باستخدام الأشخاص نفسهم في أكثر من قصة. لماذا؟

بسمة الخطيب:هذا أحد أبرز تحديات الكتابة القصصية، وأكثرها خصوصيّة وألقاً. مع كل قصة تبدأ من الصفر، وتبني عالماً قصصياً جديداً على الأقل في رأسك، وعليك اختزاله في سطور قليلة. هذا أمر يغريني شخصياً ويأسرني. في هذه المجموعة قمت لأول مرّة باستخدام بعض الشخصيات في أكثر من قصة، حتى أن القصة الأخيرة في الكتاب تجمعهم بشكل لن أكشفه لئلا أحرق الحبكة. ما حدث أن شخصيات قصصي عاشت في رأسي متجاورة وبعيدة في آن، وفكرت في أنها قد تجتمع مصادفة من دون علمي، أو بالتآمر عليّ. ورحت أعثر على وجهها تظهر خارج قصصها الخاصة بها.

الحصاد:القارئ يتجه نحو الرواية أكثر من المجموعات القصصية. كيف تفسرين هذه الظاهرة؟

 بسمة الخطيب:أوافق “وليم فوكنر” قوله إن القصة القصيرة أكثر الأنواع الأدبية تطلّباً بعد الشعر، وهذا لا يقتصر على متاعب القاص فقط، بل متاعب القارئ، فالقارئ يفضل قراءة رواية لأنها أسهل بالنسبة له. مع القصص يبذل مجهوداً أكبر في التركيز وملاحقة الحبكات المنفصلة. القصة تتطلب جهداً وصبراً للكاتب والقارئ. الكتّاب بدورهم يعانون ليعثروا على ناشرين لقصصهم القصيرة، لا بد من أن أشكر هنا دار المتوسط وشجاعة خالد الناصري ودعمه للقصة القصيرة بشكل مميز عن بقية دور النشر العربية.