الكتابة في عصر التفاهة

نعم من يرشدنا اليوم الى الحضارة بهويتها ومعانيها أو أو يأخذنا نحو الدولة أو مجموعة الدول التي تختصر أو تختزن الحضارة؟  ألا يحقّ القول بأنّ الكلمة أُفرغت من مضامينها وباتت أوهاماً متكررة معاصرة استهلاكيّة، لكأن الحبر فيها بحر أوهامٍ من دون تعريتها؟

تأخذنا الأسئلة مباشرةً للإطلالة على عراء الإنسانية، مشدودين كباراً ومشدوهين بالحضارات الهندية القديمة والفرعونية وبلاد الرافدين والهيلينيّة التي أفضّلها على الإغريقية والرومانية والفارسية والبيزنطية، وتسحبنا نحو تقفّي الحضارة الإسلامية والمسيحية الأوروبية الملغومة حالياً بالسبرانيات وصناعات الذكاء الغريبة العجيبة على نسق بعيد لما جاء في “ألف ليلة وليلة” الذي وُصم ب”الكتب الساقطة” التي لا ينبغي قراءتها ولم نعرف من وضعه حتى الآن .

نحن، في الواقع، نفترق كغيرنا كثيراً عن تلك الحضارات وأنظمتها وشعوبها بعدما فقدنا الجوهر وكسونا عصورنا بالثقافات السريعة، وأسوق الكلمة هنا بمعناها الفرنسي أي بطرائق المأكل والملبس والنوم وأساليب الحياة الإجتماعية التي تتمايز ربّما بالشكل عبر المجتمعات المتقاربة في عصور الفضاء لكأننا في لحظات الإكتشافات الكبرى الأولى.

كان ابن خلدون (1406- 1332) الأب الروحي القائل بسقوط الحضارات في “المقدّمة”، لأنّ غاية العمران هي الحضارة بمعنى الترف الذي يسقط مع بلوغ غايته. جميل هذا الربط بين عمر الحضارة والترف؟ 

أكتب في الجحيم المُساند ل”طوفان غزّة”، وأعدو مع غيري بالنازحين من تدمير الجنوب والبقاع والضاحية نحو بيروت وجبل لبنان وشماله وقد ضاقت الجمهورية بالنازحين إذ لم يبق مساند أو مقاعد في المدارس والكنائس والجوامع والفنادق والمطاعم للإيواء واحتضان العائلات المهجّرة وأسراب “العصافير” الطرية المكومة في زوايا الشوارع وفي الساحات وتحت المطر مطرّزة السماء بعلامات استفهامٍ يستحيل نقلها، وأراني عاجزاً أشدّ طرفي الحبل بهذا اللبنان المقهور المدمّى حيال طوفانات الموفدين والمنظّرين من الكتاب والخبراء العسكريين والمدنيين الإستراتيجيين والإعلاميات والإعلاميين بكامل أناقاتهم العاجزين بدورهم عن الخروج من  تفاهات كواكبهم وتناقضات تحليلاتهم والتوقّعات.

أشدّ حبل التاريخ  بين أناملي فوق لوحة الأبجدية خلال 647 سنة لأوصل بين ابن خلدون الذي ألّف”المقدّمة”عام 1377 والأستاذ الجامعي الكندي آلان دونو Alain Deneault ناشر مؤلّفه بالفرنسية  ” la mediocratie” في ال2015، الصادر في ال2020 بعنوان”عصر التفاهة” ليتلقّفه أساتذة الجامعات والقراء لقية جعلتهم يتحسسون هشاشة الإنسانية المعاصرة وفقرها الهائل عبر سياسات الأنظمة والقيادات الدولية المتدهورة لكأنّ الشيخوخة مسحت وظائف المؤسسات الدولية.

تجذبك التفاهة باعتبارها النتيجة المتراكمة للفشل الدولي ودفع البشرية نحو كوارث لا تليق بالعصر سببها سيطرة الضعفاء والجهلة والتافهين البسطاء الذين يشغلون زوايا مثلّثات الأنظمة الدولية في السياسة والإعلام والفنون مراكمين الخدمات الذليلة إنعاشاً للأسواق العالمية فقط المسكونة بالأرباح والخسائر ولو كانت النتيجة الكوارث البشرية في أنحاء الأرض. بتواضعٍ جمّ أقول: نشرت مؤلّفي ال26 بعنوان:”الإعلام وانهيار السلطات” في 509 ص في ال2005، وطلّقت النشر لمخطوطات أمامي  وبينها مخطوطةً جاهزةً تنظر إليّ الآن بعنوان:” انتحار الحضارات فوق أرض النبوآت”، حفلت بكوارث الربيع العربي من تونس إلى لبنان عاشق الصراعات والحروب وجاذبها وكأنه لم ولن يقم أبداً من جراحه التاريخية الملتهبة والمُستعادة حيال ضحالة عصر مسارح المُقال والمكتوب واللايكات والإشارات والمهرجانات والعبثيات التي غمرت مسارح الإنتخابات الرئاسية الأميركية وخلّفت التشظيات المرضية اللبنانية بالطبع حول غزة ولبنان للإنتظار على أرصفة الدماء وبعناوين وأحلام تفوق كثيراً نصوص من كتبوا في الحضارات من آرنولد توينبي (1889- 1975) الذي تأثّر بابن خلدون أساساً القائل  بانهيار الحضارة الحتمي للدول بسبب رعونة السياسيين، أو شبنغلر القائل بسقوط الغرب،أو كولن ولسن المنظّر لسقوط الحضارات في كتابه “اللامنتمي”، أو فوكوياما في “نهاية التاريخ” أو صموئيل هنتغتون عبر”صدام الحضارات”، أو باتريك بوكانان الذي أعلن موت الغرب وتجعّد حضاراته بعدما  أهلكتها الشيخوخة.

ماذا  يعني لكم مصطلح الحضارة اليوم؟

 لا شيء كبيراً على الأرجح!

لنفكر ببساطة أنّ العولمة والإلكترونيات والشهرة والتواصل هي ظواهر تنسينا الحضارات الدسمة وانسحابها تاركةً مقاعدها العالية وبريقها العريق تاريخياً للثقافات المتنوّعة المتخالطة والمتنافسة والمتحاورة بالكلام والسلاح مهما كانت غريبة أو ضحلة أو بعيدة لكنها تبدو أكثر من مرغوبة اليوم ويمكن متابعتها والتلهي بألعابها بجنون من أطفال العالم. وأفترض توخيّاً للموضوعية في المجال، بأنّ الفروقات تذوب بسرعة هائلة بين المجتمعات الناشئة الناهضة بكونها تتصالح مع أجيال “التكنولوجيات” السهلة للأجيال الطرية الى درجة تمنح الإنسان المعاصر مهما كان فتيّاً أو رضيعاً شهوة اللعب ببرامج الرقميّات العالمية حتى قبل أن يستوعب أو يكتسب هوية محددة. هو عصر اللعب بالحضارات عبر السبابات.

هكذا تبرز المدن الزاهية مأهولة اليوم بخليطٍ هائل من شعوب الأرض راكضين في أنفاق المترو والساحات وراء لقمة الأكل والإكتفاء البسيط أو في متابعة صور أنفاق الجحيم في غزة ولبنان، ركضاً للإتّصال بالآخر في الدنيا تحدوهم الرغبات  الرقمية نحو “عبادة” شاشة المحمول الصغيرة. يبدو العصر منتسباً بهويته الى هذا اللحاء البشري باعتباره إنتساب وجودي يعني في أقصى ما يعنيه أنّه موصول بالبشرية صامتاً أو هامساً أو مهدّداً أو مفجّراً يسمع صداه وصدى الآخر.

تنقشع الظلمات إذن، وتنكشف مواقع الجماعات والشعوب بين من هو مسترخٍ ومن يسابق الشمس التي لا تغرب عن الأرض بالمعنى التواصلي والإبتكاري التحديثي في مختلف المجالات.

من وكيف نحدّد دوائر  الإنتاج والإستهلاك ومواطنها في عصر إختلاط الأجناس البشرية المتقاربة في أفكار التكنولوجيا وأجيالها المتكاثرة؟

أطرح هذه الأسئلة للتفكير والتجديد بإعتبار التجديد إضافة قيّمة إلى القديم ، وأتصوّر بأنّ الأفكار والنظريات والعقائد والأديان، تلعب وستلعب دورها سلباً و”إيجابا”، في في خليطٍ واسع من الثقافات التي تتحوّل، ونحن في صلبها، الى معرض في ملعبٍ واحد موحد إسمه الأرض.