الكوليرا:وباء الفقر وقناع للحرب الخبيثة

الأوبئة الهاربة من الأدب إلى الواقع

لطالما قرأنا عن الأوبئة ومن بينها الكوليرا، سواء في كتب التاريخ أو في الروايات والقصص والأفلام السينمائية . ولطالما قرأنا عن البشر المصابين الذين يتساقطون بالآلاف ،وشاهدنا الأبطال يحتضرون على خشبات المسارح . وإذا كان الطاعون والسل قد تسببا للجنس البشري بحالات متتالية من الهلع الكابوسيّ. فإن الكوليرا لم تُقصر من جهتها في تكبيد البشرية أفدح الخسائر والأضرار .

فالكوليرا كما غيرها من الأوبئة , تسببت بالمباعدة بين الناس ., وفرقت شمل الأسر والجماعات ،وبخاصة في زمن الحروب الدامية‘والطويلة , كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية وغيرهما من الحروب والكوارث . وهي إذ شردت البشر الآمنين من منازلهم , ولاحقتهم دون هوادة إلى ظهور المراكب والسفن , وهم يفرون هاربين من “الموت الأصفر”،الذي ساوى البحر بالبر , ولم يسلم من براثنه المميتة كبير أو صغير , فقير أو غني , أبيض أو ملون .

. فقد أصابت سهامه،أيضاً، المهاجرون غير الشرعيين الذين هربوا من بلدانهم الأم ،بسبب الفقر أو الاستبداد،فقد تلقفت الأوبئة من نجا منهم من الغرق،وقد تمّ رمي جثث الكثيرين منهم في البحر،اتقاء للعدوى،وصوناً لحياة الذين لم يتمكن الوباء منهم.

وقد حَفل تاريخ الأدب بجميع أشكاله،وعلى امتداد العالم،بوصف الكوارث التي سَببتها الحروب ومنها الأوبئة،التي تناولها الشعراء في قصائدهم،أسوة بالروايات والمسرحيات والسينما..

.فالشاعرة العراقية نازك الملائكة استهلت الحداثة الشّعرية بقصيدتها الشهيرة “الكوليرا ،والتي تُعبر من خلال عنوانها ومضمونها عن الانتشار المأساويّ لمرض الكوليرا في مصر،في أربعينيات القرن المنصرم،ولعلّ شهرة القصيدة في العالم العربي،قد تأتت من كسرها لإيقاع الوزن الخليلي،أكثر من موضوعها،الذي حولته الملائكة إلى مناسبة للتفجع العاطفي،والإنشاء التّعبيري العالي.

كما تفاعلت الرواية العربية والعالمية،بشكل وثيق مع الفواجع الناجمة عن الأوبئة،سواء تعلق الأمر بالكوليرا،أو بالطاعون والسل وغيرهما .تَصف الروايات العالمية الألم الناتج،عن تفشي الأوبئة عبر التّاريخ، بدقة متناهية،وعن الخوف من الموت الداهم،والهرب من ظلّه الأسود من مكان إلى آخر،.

وهو ما انعكس بشكل واضح،في رواية الكاتب الفرنسي “ألبير كامو”، “الطاعون”،الحائزة على جائزة نوبل للآداب،والتي تدور أحداثها في مدينة وهران الجزائرية،حيث تفشى المرض الأسود،بشكل تدريجيّ ،في أرجاء المدينة،وقضى على الآلاف من سكانها،واستمر لعام كامل،قبل أن يأخذ طريقه إلى الانحسار.

يَصف كامو كيف تم عزل المدينة لفترة طويلة،وما عاناه الناس بغياب الاهتمام بوضعهم المزري،وعن غريزة البقاء التي حاربت بعبثية غريزة الموت ،وما خلّفه المرض من هلع ،استوطن ذاكرة الأحياء فيما بعد.

أمّا الروائي المصري نجيب محفوظ، ذَكر في رواية “الحرافيش “،عن وباء أصاب مسقط رأسه، مخلفاً وراءه بيوتا خالية من ساكنيها،وحظائر فارغة من الأرواح.

في حين أن الروائيّ الكولومبي،”غابرييل غارسيا ماركيز”،قد جعل من فكرة الوباء الذريعة الملائمة،للتبشير بالحب و العشق ،بوصفهما التعويذة الأنجع في وجه الموت. ففي روايته”الحب في زمن الكوليرا”،التي لاقت شهرة عالمية، والتي تتناول قصة حب بين مراهقين،فشلا في الوصول إلى الزواج ،بسبب التفاوت الطبقي بينهما. وبعد أن انتظر الفتى العاشق حبيبته طويلاً ،ووصل كلاهما إلى سن الشيخوخة،فقررا معاً استدراك ما فاتهما من قبل ،وعقدا قرانهما على متن مركب في أحد الأنهار،ثم رفعا راية الكوليرا على متنه ،لكي تكون الذريعة المُلائمة ،لنجاة الحب من “مكائد اليابسة”.

وفي روايته “العمى”،تحدث الكاتب “خوسيه ساراماغو،عن نوع آخر من الوباء ،الذي شلّ أبصار النّاس،في مدينة بكاملها،كتّعبير رمزيّ ،عن طغيان الاستبداد،وإلغاء التنوع،وإحلال اللون الواحد للايديولوجيا الشمولية،محل التّنوع المعرفي والفكري

كل هذه الروايات والقصائد مجتمعة ،ألهمت السينما والمسرح،فتحولت إلى ملاحم إبداعية في الدراما العربية والأجنبية.فالأدب على اختلاف أنواعه ومسمياته،ذكر خطورة الأوبئة ، التي شاخت المدن والممالك في حضورها ،وأهلكت جيوشاً كاملة في ساحات الحرب،فكثرت المقابر الجماعية ، وطرود البريد التي تنبئ بموت عزيز في الحرب.فهل ما تشهده بعض الدول حاليا ًمثل سوريا واليمن ولبنان من انتشار محدود للكوليرا هو نتيجة حتمية لآلة الحرب الطائشة ،سواء أكانت عبر السلاح أوحرباً اقتصادية؟

وهل الحكومات الحالية تتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأمور في الآونة الأخيرة،من خلال الفساد المُستشري؟ وهل نحن أمام كارثة وبائية وإنسانية في هذه الدول ؟

أسئلة كثيرة تتبادر إلى الأذهان ،خاصة بعد الهلع الذي رافق الناس جرّاء تفشي فايروس كورونا عالمياً،فهل تستطيع المجتمعات الفقيرة والمُعدمة التغلب على الكوليرا،التي تنتشر في بيئات لا تمتلك أدنى مقومات النظافة والبحبوحة.

الطبيب طارق حجازي المتخصص في الصحة العامة وأمراض الجهاز الهضمي،ذَكر لمجلة الحصاد ،أن الحروب هي المسبب الأول للأمراض،إضافة لمشكلة التغيّر المناخيّ، وتأثيره السلبيّ على العالم ،مُعتبراً أن سوريا ولبنان هما من بين هذه البلدان المُتضررة.، نتيجة هشاشة البنية التحتية للمياه،الذي دفع بالكثيرين إلى اعتماد مصادر مياه بديلة وغيرآمنة ،وانهيارالنظام الصحيّ.

يُتابع حجازي بأن الحدّ من مرض “الكوليرا “،يكمن باحتواء المرض،في مراحله الأولى،وخاصة من خلال “العلاج بالإماهة”أي زيادة نسبة السوائل،وتعويض الشوارد .

يُضيف د حجازي أنّ علاج الكوليرا سهل في المرحلة الأولى،ولكنه قد يؤدي للوفاة مع استمرار الاسهال والجفاف،خاصة عند كبار السّن والأطفال.

ويولي حجازي أهمية كبيرة لمحاضرات التوعية،والارشادات التي تحد من انتشاره على نطاق واسع،مُعتبراً أن تفشي الوباء في سوريا ولبنان يعود إلى للتقارب الجغرافيّ بين البلدين ممّا يُشكل تهديداً حقيقيا،لجميع سكان بلدان الشرق الأوسط،.خاصة مع وجود حكومات ينهشها الفساد ،وهي المسؤولة بشكل أو بآخر عن انتشار الكوليرا أو أية جائحة أخرى.

أمّا الدكتور علي ضاهر،المتخصص في الأمراض الدّاخلية،والمُتواجد في منطقة مُتاخمة للحدود السورية اللبنانية،وهوعلى تماس مباشر مع النازحين السوريين في  المخيمات،وشاهد على أوضاعهم المأساوية.فهو يعتقد أن الحرب الدائرة في سوريا منذ سنوات،ساهمت في انتشار عدد كبير من الأمراض،ومن بينها الكوليرا،الذي يعتبر مرضاً قديماً،عانت منه الأجيال السّابقة،نتيجة ظروف مُشابهة.

وتابع د علي قائلاً:”إن الكوليرا،قد يتحول إلى وباء،في حال عدم تدخل الدول المعنية،وأكد على ضرورة وضع خطة طوارئ صحية،لضمان عدم انتشار المرض،وانتقاله بين الدول.

وإذ يؤكد على أهمية التوعية الصحية ،في مجال التّصدي للوباء ،يؤكد في الوقت ذاته على دور الوزارات المعنية،في هذا المجال .ويشدّد على ضرورة التعاون بين وزارتي البيئة والتربية،لأن سبب المرض الرئيسي هو التلوث.

إنطلاقاً من هذا الأمر يرى ضاهر أنّه يجب تأسيس فريق صحي،في كل المدارس،بهدف التّوعية الذاتية والمجتمعية على السواء،دون إغفال الدور المحوري لوزارة الصحة ،بكل ما يتعلق بشؤون السلامة العامة ،وتعقيم المياه ،وتناول الأطعمة الخالية من المواد الكيميائية.

من ناحية أخرى،يرى د.علي أن هناك مبالغة في طرح المواضيع المتعلقة بالأمراض المعدية،في وسائل الإعلام،ويدعو المعنيين في كافة الوزارات والبلديات،والمؤسسات التابعة للقطاع العام،إلى تحمل مسؤولياتها،وضرورة توعية المجتمعات الفقيرة من “الكوليرا”،ومن جميع الأمراض الأخرى،النائمة تحت الجمر.

وإذا كان لدينا ما نستنتجه من كل ما سبق،فهو أن الحروب الضروس ،لا تفتك بالبشرفي ساحات الحرب وحدها،بل من خلال التربة الخصبة ،التي توفرها للأمراض والأوبئة،الأكثر فتكاً،ولكنّ هذه الحروب لا تأتي صدفة من السّماء،بل هي بفعل فاعل،والفاعل نفسه هو الإنسان نفسه،الّذي يخطر له عبر نوع من السادومازوشية،أن يُدمر الكوكب ،الذي يعيش بين ظهرانيه كل بضعة عقود أو قرون من الزمن.لذلك فإن الكوليرا ،هي التي تَسكن في دواخلنا،لا تلك التي تفد إلينا من الخارج.