اللبنانيون والعرب وحكايات كليلة ودمنة

ما زلت احتفظ بمقالات من ملحق “النهار” القديم، تعود إلى أواخر ستينات ومطالع سبعينات القرن الماضي. كان أنسي الحاج رئيساُ لتحرير الملحق، فيما كان والده لويس الحاج، رئيسا لتحرير الجريدة. كنت يومها صبيا مدمناً قراءة الملحق، أتأثر بما ينشر فيه، وأنتظر صدوره، على رغم قلة ما كان في جيبي من قروش. ذلك عهد قد مضى، وما أكثر ما أضاعت السياسة من أعمارنا سنوات كانت يمكن أن تكون جميلة، كجمال ذلك الزمن الأخضر الجميل، لذلك كرهت السياسة والسياسيين. لم أنتخب أو أصفق لأحد منهم في حياتي واكتفيت بجبران وفيروز الرسولة وطناً، أحمل أغانيها أينما اتجهت في غربتي الطويلة، وأعترف أن بُعدي عن السياسة جنبّني جدالاً مع الناس، كان يمكن أن يكون طويلاً ومضنياً، لو كان الأمر عكس ما أردت، أو اتخذت موقفا ًمؤيداً لجهة، ومعارضاً لأخرى.

لقد غدت السياسة إحدى مآسينا، إلى درجة أنها أصبحت جزءاً أساسياً من تراثنا الشفوي. وما أكثر ما يتخاصم الناس ويختلفون بسبب السياسة. نفطر عليها ونتغدى ونتعشى، ونادراً ما تجد تجمعاً لا تكون السياسة فيه محور الحديث وسُكر الكلام. عشت في دول عدة، وخالطت شعوباً كثيرة، فلم أجد شعباً يتحدث في السياسة أكثر من اللبنانيين والعرب، حتى صارت موضوعاتها أحاديث الشيوخ والشباب والنساء والأطفال والناس من كل الطبقات.  أذكر مرة دخلت مطعماً لبنانياً في لندن، فسألني أحد النوادل عن رأيي في حادث مقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وهمّه أن يعرف من أرى أنه القاتل! حين أجبته بأنني لا أعرف، رد قائلاً:” ولو، يا أستاذ، فهمك كفاية؛ الأميركيون قتلوه ليخرجوا فرنسا من لبنان”! قلت” كيف عرفت، وهل لديك معطيات وأدلة؟ أجاب على الفور: صدقني”!… نادل في مطعم يعرف من قتل رفيق الحريري، وعشرات القضاة والمحققين نظروا في القضية سنوات طويلة ليصلوا إلى نتيجة، وحتى هذه النتيجة لا تزال مثار جدل إلى الآن!

تركت المطعم، وتذكرت حادثة طريفة حصلت للشاعر اللبناني الياس فرحات المهاجر في البرازيل. دخل فرحات مرة متجر صديقه المعلم توفيق قربان وقال: “يا أبا رئيف، كنت كافراً واليوم عدت إلى الإيمان، وبدأت أصدق قصص التوراة، قل لي، بالله عليك، أي القصص كنا نحكم أنها أكذب القصص؟ أما هي قصة حمارة بلعام التي نطقت وكلمت صاحبها؟”. قال قربان:” بلا شك، ولكن أوضح لي كيف عدت إلى الإيمان، وأين ومتى حصل ذلك؟”. أجاب: “كنت ماراً أمام بناية البلدية وسط مدينة سان باولو، فسمعت المدعو حنا يكلم جاره قبلان في الفلسفة، فدهشت وقلت إن تصديقي ما ورد في التوراة، أسهل من تصديقي ما أسمعتني إياه أذناي”!

هنا هتف قربان في وجه صديقه الشاعر وقال: دونك المستودع ولا تعد إلا بقصيدة.

بعد دقائق عاد فرحات منشداً:

قل للذي يحسب التوراة كاذبة / إن البراهين تمحو كل تكذيب

والحق يلبث عرياناً وإن نسجوا / حبا لإغرائه أبهى الجلابيب

 هذه حمارة بلعام لقد تركت / نسلاً يجدد أيام الأعاجيب

في كل يوم أرى جحشاً يكلمني / بمضحكات المعاني والأساليب

لست من أهل الشعر بحيث أكتب في ذلك النادل، قصيدة مثل قصيدة فرحات الشاعر، في المدعو حنا وجاره قبلان، لكن الذي أريد قوله إننا نتكلم في السياسة واهمين أننا نعرف كل شيء. نعادي من يخالفنا في الرأي. نخّونه ونتهمه بالعمالة، كأننا وحدنا الوطنيون، ثم نخالف القوانين ونرتكب أفظع الأعمال بحق بلادنا! نمشي في المظاهرات. نتجمع في الساحات. نسمع الخطب والمحاضرات. نقرأ الصحف ونشاهد الشاشات. نسمع عشرات التحليلات لخطباء وكتاب ومحاضرين ومذيعين وضيوف من هنا وهناك، يتحدثون بلغة العالم بكل شاردة وواردة، وصغيرة وكبيرة، كأنهم وحدهم على حق. وما يحزن أن بعض المحللين والكتاب ليسوا أحراراً في ما يكتبون ويقولون، في حين أن كثيرين من القراء والمستمعين يعجبون بهم ويتبنّون كلامهم كأنها آيات مقدسة، ويتعصبون لهذه العقيدة أو تلك، أو لهذا الزعيم أو ذاك، فتصبح الوطنية عندهم مجرد موقف سياسي لا غير!  لا نحتاج إلى أن نكون مسيّسين لنبرهن أننا وطنيون محبون لبلادنا. في بلاد العالم المتحضر، لا تحتاج الشعوب من يعلمها الوطنية التي ليست غير حب الوطن والتزام القوانين. وحب الوطن الذي هو من الإيمان، لا يحتاج إلى هذه الثرثرة السياسية المفسدة للعقول والقلوب، تطغى علينا بفعل الصحف والشاشات والجامعات والأندية وحتى الحانات والدكاكين، وبدلاً من أن يهتم الناس بالعلم والمعرفة، يتخاصمون ويتحاربون.

حين كنا صغاراً في مدارس الصغار، كنا نقرأ قصصاً منها المحزن ومنها المفرح، ومنها الذي يزخر بالحكمة. كان المعلمون يقرؤون علينا قصائد في الوطنية منها واحدة لشاعر النيل حافظ ابراهيم، عنوانها “غادة اليابان”، ومنها هذه الأبيات:

لا تلم كفي إذا السيف نبا / صح مني العزم والدهر أبى

كنت أهوى في زماني غادة / وهب الله لها ما وهبا

حملت لي ذات يوم نبأً / لا رعاك الله يا ذاك النبا

ثم قالت لي بثغر باسم / نظم الدرّ به والحببا

نبؤني برحيل عاجل / لا أرى لي بعده منقلبا

ودعاني موطني أن أغتدي / علني أقضي له ما وجبا

هكذا الميكادو قد علمنا / أن نرى الأوطان أماً وأبا

كنا نقرأ هذه القصيدة ونحبها، لما فيها من الجرأة والتفاني في خدمة الوطن، ونحب حكايات كتاب “كليلة ودمنة” وما فيها من معاني التعاون، ومنها قصة الشيخ الذي كان له ثلاثة بنين، وكيف أنه جمعهم ذات مرة ووضع أمامهم أعواداً من الخشب، وكيف قدر كل واحد منهم أن يكسرها الواحد بعد الآخر، وعجز عن كسرها حين جمعت في كومة واحدة. وعن التعاون أيضاً ما رأيناه في باب “الحمامة المطوقة” من ذلك الكتاب، وكيف أن صياداَ نصب شبكته ونثر عليها الحَب، وكمن قريباً منها، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مرت حمامة يقال لها المطّوقة، وكانت سيدة الحمام. وكان معها حمام كثير فوقعت هي وصاحباتها في الشرك، وأقبل الصياد فرحاً مسروراً، فجعلت كل حمامة تتلجلج في حبائلها وتلتمس الخلاص لنفسها. لكن الحمامة المطوقة أوصت صاحباتها بألا تكن نفس إحداهن أهم إليها من نفس صاحبتها، وألا يتخاذلن في التعاون، ويتعاون جميعاً فيطرن كطائر واحد وينجون. وهذا ما حصل، إذ جمعت الحمائم أنفسهن، فوثبن وثبة واحدة، وقلعن الشبكة من يد الصياد وعلون بها في الجو. حكايات بسيطة لم نأخذ منها العبر. نسير في طريق مظلمة ضد مصلحتنا ووحدتنا وحقوقنا في الحياة. نوازع شريرة ومصالح آنية تتحكم بنا، تجعلنا قبائل متفرقة، تتحدث لهجات مختلفة، ولا تقوى على شيء.

نحن العرب واللبنانيين في مقدمة الشعوب التي تعمل لغير مصلحتها. نشعل الحروب والعداوات، ثم نطلب من الغريب العون والحماية، غافلين عن قيمة الحياة الحرة الكريمة، ومعنى أن يكون الوطن سيداً مستقلاً، ومعنى أن الأمة التي لا يتعاون أفرادها، هي أمة ضعيفة، مِثلُها كمثل سرب حمام تائه، يطارده صياد من هنا وصياد من هناك، ولا أحد فيه يصغي لحمامة مطوقة. ننرك مصيرنا بيد القدر، كمن يردّد قول الشاعر: مشيناها خطى كتبت علينا / ومن كتبت عليه خطى مشاها! بهذا القدر من الإهمال مضت حياتنا ولا تزال تمضي. يذهب جيل ويأتي جيل، ونحن على خصام، لا شيء نتقاسمه غير الحطام، نبدّد ثرواتنا ونترك الغرباء ليكونوا وحدهم الرابحين؟!