رؤوف قبيسي
العربية من أقدم اللغات التي لا تزال في قيد الحياة، لكنها ضعيفة على لسان معظم متكلميها وكتابها، والسبب أن الأساليب المعتمدة في تدريسها غير كافية. لقد تطورت أساليب تعليم هذه اللغة في الزمن المعاصر، لكنها كانت في بعض المدارس القديمة أدق بما لا يقاس مما هي عليه الآن. كانت تعتمد القرآن، وكتب النحو والصرف والبيان والعروض، وكتباً مثل ألفية ابن مالك، وديوان المتنبي، وكتب الفقه على اختلاف أنواعها. يكفي أن نتذكر أن جبران خليل جبران الذي أرسلته عائلته من بوسطن في الولايات المتحدة إلى لبنان أمضى أربع سنوات في “مدرسة الحكمة” في بيروت، كانت كافية لتجعل منه ذلك الفنان الموهوب الذي أحدث فتحاً جديداً في الكتابة العربية.
كانت “مدرسة الحكمة” هذه تشدد على تعليم العربية وتوليها اهتماَماً عظيماً، شأنها في ذلك شأن معاهد ومدارس أخرى مرموقة، منها على سبيل المثل، معهد الآداب الشرقية في الجامعة اليسوعية، ودائرة اللغة العربية في الجامعة الأميركية في بيروت، التي كان يشرف عليها المعلم القدير جبر ضومط، والكلية الشرقية في زحلة، التي درس فيها الشاعر المهجري شفيق المعلوف، والمدرسة الروسية في الناصرة، التي درس فيها ميخائيل نعيمة ونسيب عريضة، والمدرسة الداودية في عبيه التي درس فيها أمين آل ناصر الدين، ومدرسة جامع الزيتونة في تونس التي درس فيها أبو القاسم الشابي، وحلقات التعليم في الأزهر، وكثير من الكتاتيب والزوايا التي انتشرت في الأقطار العربية، خصوصاً في العراق، وفي مدن عربية مختلفة، كصنعاء في اليمن وفاس في المغرب.
في الجزء الثاني من كتاب “الأيام”، يلقي طه حسين شيئاً من الضوء على طرق التعليم التي كانت تدور في صحن الأزهر، وطبيعة الكتب التي كان الطلاب يستظهرونها. يذكر أساتذته، ومنهم الشيخ محمد المهدي، والشيخ محمد المرصفي بنوع خاص، وكيف أثر فيه هذا الأخير، وحبب إليه الأدب بأسلوب راق كما يقول. إلا أن تعليم العربية الذي كان جادّاً في الأزهر، وفي الكتاتيب والزوايا، والمعاهد القليلة في الأقطار العربية المختلفة، لم يكن عاماً، إذ قابله ظهورعربية ركيكة على صفحات جرائد وكتب كثيرة، مليئة بالصياغات المهشمة، ومشوبة بالخلط بين الفصحى والعامية، تتداخل فيها كلمات تركية وفارسية في بلاد المشرق، وكلمات إيطالية وفرنسية في بلاد المغرب.
لا شك في أن اللغة العربية معمّمة الآن بشكل أفضل عما كانت عليه قبل مئة سنة وأكثر. غير أن هذا التعميم، بالرغم من فوائده الكثيرة، أفقد العربية طبقة اللغويين الكبار، أو الأدباء الذين كانوا يعرفون كيف يكتبون، ولا يضحون باللفظ والقواعد لحساب المعاني. الفضائيات العربية، على رغم ما في لغتها من وهن ولحن، تعمّم الفصحى في بيوت الملايين من العرب، خصوصاً في نشراتها الإخبارية، من دون أن ننسى الصحافة المكتوبة وفضلها في نشر الفصحى، على رغم تراجع مستواها، وما يسمى اليوم بلغة الجرائد، هو العربية الحية بالفعل، وهذه تتولى مصالحة الفصحى مع الحياة، وتعمّم كلمات حديثة نابعة من يوميات العيش في البيت والشارع، والمكتب والمدرسة، وتثبّتها في قاموس الكتابة والكلام المتداول.
الواقع أن استمرار العربية يعود إلى التراث العربي الغني، وقدرة العربية على مواكبة العصور، فهي تتميز بنظامها الصرفي الذي يساعد على إدخال كلمات مستحدثة أو أجنبية، لتغدو بعد حين، من طبيعة العربية الفصحى. هكذا توسعت العربية كما يقول جرجي زيدان في كتابه “تاريخ اللغة العربية”، وعبد الله العلايلي في كتابه “مقدمة في تاريخ لغة العرب”. عبر هذه اللغة العربية الشريفة، كما يسميها بعض النحاة، انتقلت علوم اليونان وفلسفاتهم إلى أوروبا، وعبرها عرف العرب وغيرهم أجمل الشعر وأرقه وأصفاه، وجعلت دانتي، أعظم شعراء الغرب بلا منازع، يعترف في كتابه “إل تيزورو” أي “الخزانة” أنها (أي العربية) أجمل لفن الشاعر، وأكثر طواعية من لغته التوسكانية.
إذا اتفق واستغربت أيها القارىء الكريم قولي إن دانتي كان يعرف العربية، فسوف أحيلك على كتابات أحد أهم المصنفين الذي عرفهم تاريخ الإستشراق الأوروبي، هو الإسباني الراحل الخوري ميغال بالاسيوس الذي أثبت أن دانتي نقل الكثير من مشاهد المطهر والنعيم والجحيم في مؤلفه “الكوميديا الإلهية” من القرآن، ورسالة الغفران للمعري، ومن أدبيات محي الدين بن عربي، ومن كتب عربية مختلفة أحضرها له أستاذه برونتو لاتيني، الذي كان سفير فلورنسا في عهد فرناندو، ملك آراغون وإيزابيلا ملكة قشتالة، أي إسبانيا الحالية. هذه اللغة العربية العظيمة التي وصل إعجاب بعض الأجانب بها إلى حد التقديس، تتهم اليوم بأنها مقصرة، لا تستجيب لمتطلبات الحياة المعاصرة، والنتائج الباهرة في شتى الميادين. لكن الحق ليس على هذه اللغة، بل على العرب الذين ينفقون أموالهم على السلاح والأبنية والخرافات، لا على الفنون والعلوم والجامعات ومعاهد البحث. ألم نقرأ غير مرة أن اللغة مرآة الأمة، إذا تقدم الشعب تقدمت، وإذا تأخر تراجعت، وأصبحت رهينة القواميس!
بناء على ما تقدم، يمكننا أن نتساءل: ما مصير العربية اليوم؟ على ضوء الجواب، يتوقف مستقبل العربية، ومستقبل الثقافة العربية وهوية العرب. المطلوب تخصيص المال، وتأسيس دور ترجمة، واتفاق موحد على المصطلحات، ضمن خطة تعزز العربية لغة صحافة وأدب، وتجعلها وعاء يستوعب علوم ومعارف الأزمنة المعاصرة، كما استوعبت في الأزمنة القديمة، أدب الشعوب المجاورة، وعلوم الفرس والآشوريين واليونان، اللغة، كما البشر، في تطور دائم، وفي تطورها تكتسب كلمات ومعاني جديدة تفرضها الحياة، وفي حال العربية المعاصرة، نرى تقصيراً واضحاً، ذلك أن هذه اللغة، المحكي منها والمكتوب، أضعف من أن “تقبض” على المعاني التي يمكن التعبير عنها بلغات الأمم الراقية.
المواطن في فرنسا أوإنكلترا يستخدم من مفردات لغته أكثر مما يستخدم العربي من مفردات العربية، لا لأن العربي ضيق الخيال قليل الذكاء، ولكن لأن قاموسي لغته المتداولة، المحكي منها والمكتوب المعاصر، ضيق إلى درجة تجعله ضعيفاً في التعبيرعن أشياء كثيرة، خصوصاً إذا اتصل الأمر بتحبير المقالات، وكتابة الرسائل التجارية، وإنشاء الرسائل العادية بين الناس. العربية غنية باالمفردات. يكفي النظر في المعاجم، لنرى كم فيها من كلمات متنوعة، وعبارات دقيقة تؤدي المعاني على أكمل وجه، لكنها ليست متداولة. كنت أقرأ في السيرة الإسلامية فوقع نظري على قول للخليفة عمر بن الخطاب يسأل رجلاُ ويقول له:” ما شراباً كنت جالساً عليه أمس”؟ لو كتب تلميذ هذه الجملة في مدارسنا اليوم لخطّأه المعلم، وقال له ساخراً: ما هذا الهراء؟ كيف يمكن الجلوس على فنجان من الشاي؟! إلا أن هذا التعبير الأدبي الجميل عربي سليم، والأجانب الذين يستخدمونه في لغاتهم لا بد أنهم نقلوه عن العرب، لأن الخليفة عمر، كما جاء في الكتب، قاله قبل 1400 عام!
اللغة الإنكليزية تطورت واكتملت من حيث غناها ودقتها لأنها استنجدت بلغات مختلفة، فاستعارت من الفرنسية والألمانية واليونانية واللاتينية، وكلمات من العربية، حتى صارت اللغة الغنية التي نعرفها اليوم. نحن لا نحتاج إلى أن ننحو هذا النحو، فنستعير من اللغات الأجنبية كلمات لها وقع أعجمي لا يناسب قوام العربية وبناءها، وبهاءها وجلالها. في العربية القديمة ثروة تغنينا إلى حد كبير عن هذا التوجه، وعندما يتصل الأمر بالكلمات المستحدثة، نعربها بالشكل الذي يتناسب وأوزان اللفظ العربي.
بقيت هناك حقيقة تقتضيها الحياة المعاصرة، ويتعين على الكاتب والصحافي وأستاذ الأدب أن يدركوها، وتتصل بأسلوب الكتابة. لا يكفي أن يكون الكاتب المعاصر متبحراً بالعربية، من دون معرفة علوم أخرى، وإلا فإن أسلوبه سيكون مقّعراً وصعباً، كأسلوب كتاب مثل مصطفى لطفي المنفلوطي، ومصطفى صادق الرافعي، على رغم أنه قد يكون فصيحأ صرفاً ونحواً. على العربية المعاصرة أن تكون سهلة وصحيحة وثرية ومتينة في الوقت نفسه. يبقى السؤال: ما هي هذه العلوم التي يتعين على أساتذة الأدب والكتاب معرفتها؟ في كتابه “في الأدب الجاهلي” يقول طه حسين، إن القدماء من أدباء العرب كانوا يقولون إن الأدب هو “الأخذ من كل شيء بطرف” وأن هؤلاء القدماء كانوا يتخذون الثقافة المتينة الواسعة أساساً لكل بحث أدبي منتج. يضيف: “كان الجاحظ أديباً لأنه كان مثقفاً قبل أن يكون لغوياً أو كاتباً، وأمثاله من الأدباء في بغداد والبصرة والكوفة. كانوا يتقنون قديمهم من لغة وأدب وفقه وحديث ورواية، وكانوا إلى جانب هذا كله، يحسنون الجديد، ويتصرفون في كثير من فنونه. كانوا يحسنون فلسفة اليونان وعلومهم، وسياسة الفرس، وحكمة الهند والتاريخ وتقويم البلدان، ولوعاش الجاظ في هذا العصر لحاول إتقان الفسلفة الألمانية والفرنسية، كما حاول في عصره، إتقان فلسفة اليونان”.
يذهب طه حسين إلى أبعد من ذلك فيقول: ” كيف تتصور أستاذاً للأدب العربي لم يلم بلغة أجنبية، وبأدب أجنبي، ولا بمنهج من مناهج البحث عن حياة اللغة وأطوار الأدب؟ فمن زعم لك أن الأدب العربي يمكن أن يدرس دون فهم التوراة والأناجيل، والاعتماد على اللغات السامية وآدابها، وعلى اتقان اللغتين اليونانية واللاتينية، وعلى إتقان اللغات الأوروبية الحديثة وآدابها، فهو إما مخدوع أو مشعوذ”!