اللغة كوسيلة مساعدة لاحتمال العيش

فاطِما خضر/كاتبة ومترجمة من سوريا

 يقول الصحفي الأرجنتيني توماس إلوي مارتينيث: «نحن الكتب التي قرأناها. أو نحن عكس ذلك، الفراغ الذي فتحه غياب الكتب في حياتنا». وتقول الكاتبة المجريّة أغوتا كريستوف: «الكتابة لا تُعينُني، تكاد تكون ممارسة انتحاريّة. إنّها أشقٌّ ما في العالم، ومع ذلك لا شيء يُثير اهتمامي سوى الكتابة».

الحروب، الثورات، الانقلابات السياسيّة، الجائحات، والكوارث الطبيعيّة من زلازل وحرائق وفيضانات؛ علاوة على ضغوط الحياة على المستوى الشخصيّ والاجتماعيّ والتي قد تضاعفت في عصرنا الحالي؛ ثُمّ يأتي الكاتب، مُتسلّحًا باللغة لينجو من فاقة الأمل، وعوز الفرح، ومداد الخيبة، وثِقَل الخذلان؛ مُقدّمًا نتاجه رُبّما كوسيلة تساعده على العبور في رحلة حياة، يغلب عليها البؤس!

 عشرات الكتب تُبصر النور يوميًّا، لتُخبر العالم عن مصائبه وكوارثه وحروبه، الأمر الذي يطرح عشرات الأسئلة. أختار من بينها سؤالين، لأطرحهما على مجموعة من الكتّاب العرب، علّنا نقرأ في إجاباتهم عن: جدوى استمرار الكتابة في عالم يعرف المأساة أكثر من الرفاهية، بل ويحترف صناعتها. وإن استطاعت الكتابة أن تنجو بالكاتب فهل تستطيع القراءة أن تنجو بالقارئ وسط عالم الومضات المُتسارع، المُثقل بالمظاهر من جهة، والمُثقَل من ناحية أٌخرى بالكوارث والاقتتال؟

محمد ناصر الدين/ شاعر ومُترّجم لبناني

 نكتب  لنشفى، لنرمّم ذواتنا، لننسى أو نتذكّر، ونستطيع أن نرصف العشرات من الأفعال لنكتشف بعدها أنّها تنتمي إلى حقل الطب النفسي، وكأنّ العالم العربي يستعيض عن مراكز تأهيل علاج الصدمات باللغة والكتابة، لتصبح اللغة بيت الكائن كما يقول هايدغر، لكنّه أقرب إلى بيت المجذومين أو بيوت الأرامل. تربض المأساة على الكثير من النصوص في العالم العربي، حتى لكأن طاقة الثاتانوس (طاقة الهدم والهلاك) التي تحدّث عنها فرويد، تضغط على النص لتكبت طاقة الإيروس (الإبداع والحياة فيه)، حتّى تبدو الكلمة محكومة باليتم والحداد والموت في كثير من المحاولات الإبداعية. أحلم أن نمتلك يومًا رفاهية الكتابة عن امرأة، تمشي بلا هموم على الشاطئ حافية القدمين، من بئر السبع حتّى كسب، في حين تقف السياسة والحرب والدين والقبائل والانثروبولوجيا والسوسيولوجيا كلّها أمام رغبة بسيطة للكتابة عن هذه المرأة.

 ولا أؤمن بأنّ القراءة تنجو بالقارئ «المستهلِك»، الذي تُلقى له الأعمال السريعة كوجبات «الفاست فود» في عصر السرعة، الذي يستند معجم قراءاته على «قائمة الأكثر مبيعًا»، وعلى التطبيقات التي تعرض ملخّصات عن الأدب، رافعًا شعار: «ما هو التالي؟»، ليشعر برضا وهميّ، بإحصائه أكبر عدد استطاع قراءته في الشهر أو في السنة الواحدة. حتّى ولو تطرّقت بعض هذه الأعمال السريعة والاستهلاكيّة لموضوعات حسّاسة مثل الحرب والكوارث، نجدها تسبرها بطريقة أفقيّة، تحتاج إلى كثير من العمق والوعي التاريخي والخلفيّة الثقافيّة اللازمة لتناولها بكلّ أبعادها. شخصيًّا لا أحب السرعة. أجدني أميل إلى البطء الذي يعلّمني إيّاه الشعر، وأثق به حتّى كقارئ. أفكّر ألف مرّة براسكولونيكوف وهو يقتل العجوز، وأعيد سيناريو ريش الطاووس بألف طريقة بين سعيد وصفيّة ومريام الصهيونيّة في رواية «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني. رُبّما ننجو كقرّاء بالتأويل وإعادته: يرمي الكتّاب لنا كرة بلون واحد في بطوننا كما في لعبة الركبي، نتناقل الكرة لكن نلوّنها في كل نقلة، وهكذا يغدو بيت الأرملة مشوبًا ببعض ألوان الفرح.

 عبير داغر أسبر/ روائيّة ومخرجة سوريّة

لا يكتب الكاتب، ليُجيب عن أسئلة، ولا ليجد المعنى خارج فعل السؤال ذاته، بل ليسأل، ولا نجاة له إلّا بتقليب الحقائق، ومنحها الحياة عبر عجن المسلّمات، تكويرها وإعادة تشكيلها، وحقنها بالقلق والشك، ثم لكمها، وفحص مدى صلاحيتها للعيش والبقاء، وذلك عبر السؤال، ومن ثمّ السؤال حول الجدوى. قد يبدو الكلام طوباويًا، قد يبدو غارقًا في الشك، ومُقلقًا، لكن في النهاية وظيفة الأدب ومشروعيته لا يمكن منحها «بفورميلا» من الإجابات الجمعيّة، المُعلّبة، فغنى الحياة، وامتداد قماشتها الملوّنة يمنحنا فسيفساء إجاباتها بشكل ذاتيّ حُكمًا، أي أن «نُنمّنم» حقائقنا كما وجوهنا، أن نسأل أسئلتنا في الأماكن والقراءات والتجارب التي تشبه ما نبحث عنه بآنانا الفرديّة. وفي هذا السياق، لا أستطيع أن أجزم إن كانت القراءة تقود القُرّاء إلى النجاة، لكنّي أوقن أن المعارف تفعل، بغض النظر عن الوسيط.

 إنّ البحث عن جدوى للكتابة هو ذاته البحث في سؤال المعنى، وهو السؤال الإنسانيّ الأكثر حضورًا الآن؛ فالمآسي، الحروب، الفقر، التهجير، كلُّها وقائع لم تنجح إلّا بإعلان فنائنا الفعليّ والوجداني، ولم تستطع إلّا أن تحرّض أحاسيسنا باللاجدوى، حيث يبقى «مفهوم» النجاة مفتوحًا باعتباره نقاشًا فلسفيًّا بعيدًا عن يوميّاتنا، كون هذه اليوميّات مُنغمسة إلى آخرها بالواقع الحياتي. ولهذا، إن أردنا الحديث عن النجاة، علينا الاستعانة بالمعرفة، بل بالكثير منها، لخلق أسئلة أكثر، وإجابات فرديّة حُكمًا.

وهنا، وبكثير من اليقينيّة، فإن ما أؤمن به، وما أفعله ككاتبة وإنسانة، هو تقديم أكبر قدر من الأسئلة الوجوديّة مغموسة بالشك والمتعة، علّها تحرّض كلّ من يقرأ على أن يجد معناه الخاص الذي يشبه وجهه وروحه وفرديّته المطلقة.

محمود شقير/ روائي وقاصّ فلسطينيّ

أظنّ أن طرح سؤال الكتابة يجيء في وقته الصحيح، وهو الوقت الذي نشهد فيه حرب الإبادة في قطّاع غزّة، التي قد تُستأنف من جديد بعد هذه الهدنة الهشّة.

فما الذي فعلته وستفعله الكتابة لعشرات الآلاف من المواطنين الأبرياء، الذين قضوا تحت أنقاض البيوت وفي الساحات المكشوفة والطرقات؟! ما الذي فعلته وستفعله الكتابة لمن خرجوا وخرجن من الحرب بإعاقات؟

سأكتفي بمثال هذه الحرب، التي تعايشنا معها طوال 471 يومًا، وهي تصبّ جحيمها على رؤوس النساء والأطفال في غزّة وأخواتها المنكوبات وعلى المخيمات، ولن أتطرّق لبقيّة الكوارث التي وردت في سؤالك، وأقول: أكتب، لأنّ الكتابة رئةٌ أتنفّس من خلالها، ولولاها لما استطعت مواصلة العيش. ربما كان سيقتلني السأم، أو الاحتباس العاطفيّ، أو الإحباط، أو الشعور بانعدام الفاعليّة، أو التهميش الذي سيُفقدني التوازن والعيش السَّوي والشعور مع الآخرين، والرغبة في التعبير عن معاناتهم وإيصالها إلى أوسع قطاعات الرأي العام، لرفع الظلم عنهم، ولفضح المتطرّفين الصهاينة، مُشعلي الحرب والمساندين لهم في إجرامهم، وفي الوقت ذاته لفضح الساكتين عن جرائم الحرب، من قادة وحكاّم لم يفعلوا شيئًا لنصرة الفلسطينيين، ولم يبذلوا جهودًا حقيقية لوقف الحرب.

وبالطبع، فإنّي أعي أن الكتابة لا تستطيع وقف الحرب، لكنّها ضرورية لفضحها وللانتصار لإرادة الناس في رفض الظلم.

أما القراءة فهي الواحة التي يفيء إليها الناس، لِتَهبهم بعض العزاء بأن الخير في هذه الدنيا ما زال موجودًا، وذلك برغم الصعوبات التي تعترض طريق الكتاب فتحول بينه وبين الناس، ولا يصل إليهم إلّا بصعوبة، لا مجال للحديث عنها في هذا الحيز المحدود الآن.

 أسما الجزائري/ شاعرة وناقدة جزائريّة

 إذا كنّا نتساءل عن جدوى استمرارنا في الكتابة، فعلينا أن نتخيّل العالم بدونها، أن لا أحد كتب في السّابق. إنّه لأمر مرعب للغاية! كأنّما تستيقظ صباحًا على اختفاء السّماء، أو كأنّما الطريق هي من تسير على أقدامنا لا العكس، حيث نشعر بأنّها تقطع إلينا بعد أن أصبحنا رصيفًا للوجود، أن تُدفن كلّ تلك الأحداث والعواطف، أن يُدفن التفكير، ولا ينجو من كلّ ذلك شيءٌ، أمرٌ يُشعرنا بمأساة أكبر من مأساة الشعور بأنّ الكتابة لا تستطيع أن تقف في وجه الثورات والجائحات والكوارث الطبيعية والحروب. نحن لا نعلم هل نكتب لننجو أم لنتورّط أكثر، لنمنع أم لنستسلم، وهُنا تكمن اللذّة، في يقين الكاتب الدّائم أنّه لا يستطيع ويستطيع. فالحيرة الأدبيّة هي من صنعت الفوارق في أزمنة مثل هذه، حيث انهار الإنسان على قدميه أمام معضلة القوّة وتأنيب الإرادة، ربّما نستمرّ في الكتابة لأنّ التفكير يرفض أن يعيش محرجًا، والمضي داخل اللغة يعينُ الكثيرين على أنفسهم قبل العالم.

 يهربُ الكثيرون إلى القراءة، مثلّما يهرب آخرون إلى البارات والموسيقى والأفلام والركض والأكل والنوم. رُبّما يحاولون النجاة مثل الكتّاب أنفسهم، أو يورطون أنفسهم من جديد! إنّهم لم يأتوها من ترف بل من مأساة، مأساة أنّه تم الإلقاء بهم هُنا. فالذّين فقدوا يبحثون عن أشباههم، والذّين رفضوا يبحثون عن أشباههم، والذّين أحبّوا يبحثون عن أشباههم، والذّين قتلوا يبحثون عن أشباههم… وهكذا تخلق القراءة لهم مواساةً وجوديّة تُخفف عنهم واقعيّة المعنى. فالقراءة مثل انتظار طويل لأمّ ترفض تصديق موت ابنها، التغيير فيها لا يحدث بالسرعة المرجوّة، بل ببطء يتسلّل، وببطء يعتني، وببطء يشكّل الوعي، خاصّةً في زمن كهذا، محكومٌ عليه بالقلق التكنولوجي، والقفز إلى النهاية قبل إعطاء الأحداث حقّها في المضي قدمًا نحو زمنها.

وحيد الطويلة/ كاتب وروائي مصريّ

 لم تشف الكتابة جروح أحد، رُبّما هي الحقيقة الماثلة أمامي! مائة رواية عن التعذيب لم تمنع التعذيب، لكنّها ندّدت وشهّرت به. عشنا في وهم كبير أن الكتابة يمكنها أن تُغيّر العالم، فحلمنا بما هو أبعد من الحلم، وصرخنا هُنا كدور يجب أن نؤديه، صرخنا مع الذين صرخوا محاولين إيصال صرختهم، وصرخنا نيابةً عمّن لم يستطيعوا أن يصرخوا. رُبّما هذا ما تستطيع الكتابة أن تفعله! قد تحذّر من القادم، وهذا لا يسمعه أحد. حينها تعود لمهمّتها الأساسيّة بأن تؤنّسن العالم، فتدعوه ليخلع ثوب الكره والقتل، وليرتدي بُردة الإنسانيّة.

 إنّها أحد أسلحة المواجهة، لكن طلقتها تصل بعد أن يسيل الدم، وهذا لا يعني أنّها ضعيفة. نعيش في منطقة لم تسمع بما فعله ديغول، الذي رفض الامتثال لنداء الفاشيين الموجودين بكثرة حول حكّامنا، إذ رفض أن يسجن فيلسوفًا كبيًرا، وقال قوله الشهير. بينما لا نمتلك في مجتمعنا هذا القدر من الوعي، لا عند الحُكّام، ولا عند أغلب الجمهور الذي يمشي مُغمى عليه. ومع ذلك، على الكتابة ألّا تفلت خيط حلمها، فكما قال فلليني: «الأحلام آخر ما يموت». إنّها مهمة شاقة لكنّها أنبل مهمة.

 نحيا في مأساة كبيرة بالفعل، سمعنا معًا هذا الجنرال القاتل الحقير يصفنا بالحيوانات. ألهذا الحد يعتقد أنّنا لا نكتب ولا نقرأ؟ من الواضح أنّه صدّق جملة نبيّه السفّاح أيضًا بأنّ العرب لا يقرأون! ولعلّ ذلك ما دفع جمال عبد الناصر لأن يقول لشريكه «اقرأ». سمعت الشاعر الكبير عفيفي مطر يحثُّ مُغنيًّا على القراءة: «اقرأ… الثقافة تطلع في الصوت». واليوم بوجود وسائل التواصل الاجتماعي، التي وضعت كلّ شي أمام القارئ، الغَث والثمين، لا حجة لأحد بألّا يقرأ. فالقراءة هي من تجعلنا بشرًا تليق بهم إنسانيّتهم. في الماضي كان الزعيم يقرأ نيابةً عنّا، ويكتب زبانيته أناشيدنا، واليوم حان الوقت لنقرأ ونكتب أناشيدنا بأنفسنا. قد تفوز البندقية في البداية، لكن ستنتصر الكلمة في النهاية، أو هذا ما يجب أن يحدث!