يختطّ من جديد تاريخُ الاختلاف في لبنان ومحيطه كل طلقة صفحة، كل جرح نافذةٌ مخلعة، بابٌ يفتح على نار ودخان. بابٌ فوهةٌ تطل منه عينان كانتا عينين. يختطّ تاريخ الاختلاف والمدوِّنون يأنسون إلى عملهم الفظيع، لقد افترضوا منذ عشر سنوات، منذ أكثر من عشر، وهذا هو البرهان، الكتاب، التاريخ الجديد، النار والافتراق والاحزان المشتتة، الحماسة المتعارضة، تبادل الهناء والهلع.
كان الرجل المريض وسائقه الصحيح على الطريق البحري، كان المدى فارغاً إلا من بيوت صامتة ومن بحر ومن أفق معدني، النوافذ الالمنيوم والبحر الالمنيوم وكذلك السماء، والبيوت الموصدة كلها موصدة، لحظة ما بعد رحيل طويل أو قبل عودة مستحيلة، بيوت بلا ناس، وعند صفحة الصمت المعدني، ثلاثة ألوان، ثلاث حركات: في البيت الذي تحت الطريق طفلة تلبس الأحمر تتحرك في ارجوحتها، وفي بيت فوق الطريق واجهة دكان صغير، مشكّ من الصحف والمجلات كالغسيل الذي ازهته الشمس، وفي العرزال عند المفترق البحري العريض رجل عجوز يعتني بشجرة صغيرة.
الرجل المريض وسائقه الصحيح بعد أربع وعشرين ساعة من رحلة الذهاب، يؤوبان على الطريق البحري أيضاً، البيوت تتخلى عن صمتها الى الصخب والطريق تضج بالسيارات والآلات العسكرية، كان مسلح يرقص فرحاً، آخر يعزف على الترومبات، ثالث يوزع العطور والزهر، عند المفترق البحري شجرة صغيرة وحيدة والبيت الذي تحت الطريق يضج بالنار والدخان كتنور في أول اشتعاله في ذروة اشتعاله، كانت أشياء البيت، أشياء البيوت لم تحترق بعد. كان الماء حياً في خلايا الخشب وتحت دهان الأبواب السميكة، كانت الأشياء تصرخ في حريقها كما الكائنات الحية، وعند المفترق الآخر كانت تأتي أصوات الحريق وحطام الزجاج الذي لا تعرف من يحطمه، أصوات تمزق صمت البيوت التي كانت خالية، صراخ البيوت في حريقها، وعلى طريق الاسفلت كان حصان جميل القوام يمشي خبباً بين السيارات والأليات، ثم يعدو سريعاً “مكر مفر مدبر معاً” كأنه نفسه، حصان حقيقي وليس استعارة لتكملة الصورة أو للتكنية بفكرة تسقط على المكان القلق، كان الحصان يعدو لا يعرف إلى أين ثم ينعطف سريعاً في الطريق الترابي الضيق نحو الجبل. الرجل المريض وسائقه الصحيح في السيارة رأيا بحراً ابكم وجبلاً تعلو تلاله شارات الدخان، ورأيا لصوصاً يسرقون، وآخرين يمنعونهم، وغيرهم يأخذ المسروقات ويحرقها، ورأيا رجلاً صغيراً يجر خروفاً، لقد بدأ كلص ثم عمد إلى حمل قضيب شجرة، كان سارقاً ثم صار راعياً عند الحواشي الربيعية لطريق الاسفلت، يترك الخروف يرعى قليلاً، ثم يقوده برفق، وهو اللص وهو الراعي، ويقبل الخروف بمصيره الجديد.
كان الرجل يبحث عن فرح السلامة، فأحزنه شكل هذا الفرح، حتى الفرح يبدو محزنا في الحالة العامة الفاجعة التي يعيشها وطنه لبنان، أحس الرجل أن الفكر صار مرهوناً للبداهات: حق العيش والسلامة في البيت والحقل ومكان العمل، الفكر الذي لا يصادم ليس فكراً، ولكن أين هي المصادمة، لقد صادرتها البنادق والمدافع واحالتها الى حالتي الساحق والمسحوق، الموجود الآثم والميت الذي غاب سره معه.
تنسحب إسرائيل من بلادنا وتعود إلينا من خلال حروبنا، لقد أدرك قادة إسرائيل الجدد اننا مهيأون لنوفر مالهم وأرواح جنودهم وسمعتهم، في وقائع حروبنا الأهلية التي لا تنتهي وفي عملية الاستبدال التي نقوم بها فنرد الكارثة التي أصابنا بها الأقوياء إلى الضعفاء من أبناء بلدنا وإلى الفلاحين الذين يتوحد عندهم البيت والشجرة والجسد والروح.
وقال الرجل المريض أن أوهام الحريات المطلقة للطوائف محكومة بحدودها كأوهام، وأن المنظومة الاجتماعية لا تقوم على كتب قديمة ولا على صيغ لغوية متوارثة، ولا على أحلام تريد تلوين المشرق بكامله بلون محدد، المنظومة الاجتماعية لا بد لها من وضع حرية الطوائف في عقالها وفي مجالها المحدود، وان تحل محلها حرية الاجنماع الإنساني القائم على علاقات أكثر ثباتاً واستمراراً وعمومية، تلك هي الحرية في الإقامة، وفي المكان الذي يجمع والذي هو مأثورات وفنون وحكايات عن الأعمال والأيام بقدر ما هو مصالح تربط البشر الذين يعيشون، بعيشهم.
والرجل المريض لم يصب شفاء، قام برحلة الأربع والعشرين ساعة، أصاب قبساً من الفرح بسلامة أهله وجيرانه، وعاد يحمل احزان الناس. وقال له الطبيب ان كل مدفع ينطلق من لبناني على لبناني يزيد درجة في جرح معدته ويزيد من قتامة وجهه ومن خجله الوجيع.
رأى الرجل ابنه الصغير يقرأ كتاباً عن عالم الحيوان، ومرت عيناه على مقطع في الكتاب: “يعمد الصيادون إلى اختيار مكان في البرية مسدود من جهات ثلاث، ويرسمون في الجهة الرابعة ممراً قابلاً للاقفال، ثم يبدأ الصيادون في مطاردة جماعة الفيلة وتوجيهها إلى المصيدة. وحين تصل الجماعة إلى الممر يتقدمها قائدها (قد يكون فيلاً صغيراً أو كبيراً)، تدخل جماعة الفيلة إلى المصيدة ويقفل الصيادون الممر. وعندما تدرك الفيلة ذلك تعمد إلى قائدها فترميه أرضاً وتركله بقوائمها وتنخره حتى يموت”.