هل سبق وقرأتي أو سمعتي بمصطلح «Mansplaining»؟ في حال لم يحصل ذلك، أراهن أنّك عشته مرّةً على الأقل، وبأنّه جزءٌ من حياة الكثير من النساء في أيّ مجتمع يحمل سِمة الذّكورة كسِمة أساسية من مكوناته.
ظهر مصطلح «Mansplaining» للمرة الأولى في قاموس أوكسفورد عام 2008، خلال محادثة ثنائيّة بين مدوّنين على منصة «LiveJournal»، على الرّغم من وجود ترجمة حيّة له في الحياة اليومية، قبل نشوئه واعتماده كمصطلح في اللغة الانكليزية. حيث يتألّف أساسًا من دمج كلمتين هما: Man & explaining. وفيما لو أخذنا التّرجمة القاموسيّة لهاتين الكلمتين قد ننجح في تخمين المعنى العام الذي توحيان به: (شرح + رجل). لكن لو بحثنا عن المكافئ اللغوي المُستخدم في مجتمعنا وفي لغتنا العربية، سنجد الكثير من المكافئات اللغوية سواء المستخدمة في اللغة المَحكية، أم في اللغة الفصحى، لكن من غير الاعتراف بأحدها بشكل صريح، أو من غير وجود مصطلح عربي مستقل مُتفق عليه ومُكافئ بالمعنى للمصطلح الإنكليزي؛ وفي ذلك إشارة مبدئية لوجود جذر لهذا المصطلح في لغتنا، وبالتالي مجتمعنا.
ويُشير مصطلح «Mansplaining» إلى الحالة التي يُسكت فيها الرّجلُ المرأةَ، ليشرح لها الأمور بطريقة مُشبعة بالشّوفانية والتّعالي، من منطلق أنّه الأذكى، والأعلى مقدرة عقليّة، والأشد حكمة، والأخبر فيما ظهَر وبَطُن من الأمور، سواء أكانت تلك الأمور بسيطةً أم شديدة التعقيد، لأنّه باختصار رجل، ولأنّها بإيجاز امرأة، وهذا يعني أنّها لا تعلم ما يعلمه، ولا تَخبَر ما يخبره، وأحيانًا حتّى في شؤونها الخاصّة بعينها.
وعلى الرّغم من اتساع اللغة العربية، ما زالت تفتقر لمصطلح مُعتمد ومعترف به، يُعطي توصيفًا دقيقًا للمعنى المُكافئ للمصطلح الانكليزي «Mansplaining»، والذي اعتمِد رسميًّا، وأُدرج في القواميس الانكليزية. لكن لو بحثنا في اللغة العربية عن معانٍ تُشير للمعنى المُراد، وتوصله للمتلقي، سنجد أنّ اللغة العربية بحرٌ في أحشائه كامنٌ معانٍ ومعانٍ لمصطلح «Mansplaining»، ونورد هُنا عدّة أمثلة، تتنوّع ما بين اللغة الفُصحى واللغة العاميّة، ومن لهجات مختلفة: المنطق الذّكوري، التّنظير الذّكوري، أبو العرّيف، الهجاص، الهجص، الفزلكة الذّكورية، الفَسرجة، التّفسير الذّكوري، فَتي الرّجال، الإفتاء الذّكوري… وغيرها من المصطلحات التي تختلف وتتنوّع، على اختلاف اللهجات وتنوّعها على امتداد البلاد العربيّة، وحتّى باختلاف مناطق البلد الواحد، لكن تُعطي بمجملها معنىً واحدًا.
من وجهة نظري كمترجمة، وكاتبة نسوية، وأنثى تعرّضت منذ الصّغر مرارًا وتكرارًا للمانسبلينينغ، قبل قراءتي حول هذا المفهوم، وقبل بحثي عنه، وحتّى قبل قدرتي على تعريفه وتشخيصه، أجد أنَّ أقرب ترجمة عربية مُكافئة هي «التّنظير الذّكوري». ففي اللغة العربية: (نظّر الشّيء بالشّيء: قابله به، ونظّرَ نتائج بحثه: وضعها في شكل نظرية، وتنظير الأفكار: التّأمل فيها مَليًّا لوضعها في شكل نظرية، والنّظرية: قضية تُثبَت صحتها بحجة ودليل أو برهان).
وغالبًا ما يستند الرجل عند ممارسته للمانسبلينينغ إلى الحِجج والدّلائل والبراهين المتوارثة، والتي تُثبت صحة كلامه، أي نظريته العظيمة التي على المرأة فقط التّسليم بها ولها قولًا وفعلًا، فالرجل ما شاء الله «أبو العرّيف». والأصل في ذلك يعود، على الرغم من تطور المجتمعات، واكتسابها ظاهريًّا صبغة الحداثة، إلى الموروث الثّقافي في مجتمع يُكرّس لدى الطّفل الذّكر منذ ولادته أفضلية مزعومة دون مقومات حقيقية، ويكرّس لدى الأنثى الإحساس بالضّعف وقلّة الحيلة دون سبب منطقي. حيث تستند هذه التّفضيلات غير الواعية، وغير المتصلة بالمنطق، إلى الكثير من الأقوال المأثورة والأمثال الشعبية، التي تناقلتها الأجيال وتوارثتها، إلى أن شكّلت جزءًا لاواعيًا من ثقافتها .
وهناك الكثير من العبارات التي تُشير إلى أنّ المتحدّث (الذّكر) يُمارس التّنظير الذّكوري على المُتلقي (المرأة)، من مثل: (لا يمكن للأمور أن تجري على هذا النّحو، فأنا أعلم منكِ…) – (اصمتي فأنتِ لا تفهمين في هذا الأمر…) – (ما أدراكِ أنتِ أصلًا…) – (هي الشّغلة ما شغلة نسوان…) – (المرا ما إلها بالحكي والنّقاش بالدّين…) – (إنتِ شو بفهمك بالسّياسة…) – (عم تحكي وتناقشي بالطّابة كأنّك زلمة…) – (المرا ما بتعرف تسوق سيّارة، بتخبط بحالها…) – (المرأة غير مؤهلة للقيادة…) – (كتابة الشّعر لم تُخلق للمرأة…) – (الميدان الاقتصادي / السّياسي / الصّحفي / الإداري / الدّبلوماسي….. إلخ، ليس للمرأة)، (المرأة مكانها الطبيعي المطبخ) … وغيرها من العبارات المُشابهة، التي بمجرد سماعها توجّب على المرأة أن تدرك أنّها تتعرّض للمانسبلينينغ، وبالتّالي عليها إيقاف المُتحدّث أو منع سلوكه، ليس لأنّها بالضرورة على خبرة بالموضوع المُشار إليه، بل لأنّه سلوك غير إنساني، وغير عقلاني، وغير عادل، فمعرفة الأشياء من عدمها، واحتمالية الصواب أو الخطأ عند إبداء رأيٍّ ما، لا يرتبطان بالجندر، وإنّما بمدى اهتمامك بشأنٍ دون غيره، ومدى اطلاعك عليه من خلال الدراسة الأكاديميّة أو الخبرة المكتسبة أو البحث والجهد الذاتي… وغيرها من الأسباب المنطقيّة التي تتنوّع وتختلف حالاتها تبعًا للموضوع المُثار النقاش حوله. وعليه أيّ إنسان، بعيدًا عن التصنيف الجندري، له الحق في إبداء رأيه ووجهة نظره في مجال تخصصه وثقافته واهتمامه حتّى وإن أخطأ أحيانًا، فاحتمالية الخطأ من عدمه لا ترتبطان بالجندر، وإنّما فضاء الاحتمالات ككلّ قائم إمّا على الصّواب أو الخطأ دون أيّ ارتباط جندري. كما أنّ الحوار الإنساني المُنفتح يقوم على احترام مُتبادل بين المُتحدّث والمُتلقي بغض النّظر عن جنسه (أنثى أم ذكر)، وبالتّالي فإنّ الشخص الذي يمارس المانسبلينينغ لا يلتزم بإنسانيّة الحوار، ولا حتّى بأدب الحوار نفسه، لأنّه يفرض سُلطة أفكاره المُشبعة بثقة عمياء بذاته وبصواب قوله، والمُقترنة غالبًا بتنمر حول محدودية فهم المرأة، وقلّة معرفتها، وانعدام احتمال سداد رأيها.