المواطن اللبناني خلف الستارة السوداء

العتمة في تمامها. تمدّ يدك فلا تراها، ولم يهبك الله نوراً فما لك من نور.

يجلس المواطن اللبناني في عتمته أو يمشي في سوادها ويرسم في خياله أساطير من الضوء: الكلمات لعتمة الفكر، والشعارات لعتمة السياسة اليومية، ولوحات المناظر الطبيعية للترويح عن الجسد، وتمارين الحنين لاشباع الروح.

وليس سوى الضجر ما يحمله على متابعة حوارات تقارب السياسة ولا تصل اليها. منابر الجنازات والبرامج السياسية في التلفزيون. كل خطيب وكل مشارك في الكلام المكرور، ومعهما كل مستمع لا يسمع بقدر ما ينتبه لاسنانه تطحن الفستق المملح. هؤلاء يستهلكون ما تبقى من أعمارهم بما يعتبرونه مقاومة الملل: أين هي الحياة حقاً في وطن معلق وفي مواطنين ينتظرون المغادرة الى بلاد بعيدة أو السفر بلا عودة من عالم الفناء الى عالم البقاء، كما يحلم المؤمنون.

في العتمة أنت. لم يضعك أحد فيها ولم يأتوك بحجب تمنع شمس الله. أنت هو الذي دخل الزنزانة وأحكم اقفال البوابات الحديد وبقي في الداخل. لم تنسَ أن ترمي بالمفاتيح بعيداً لتضع امكانية خروجك في يد الآخرين أياً كانوا. هؤلاء حملوا مفاتيح زنزانتك ورحلوا، أو أنهم يرقصون أمام بصيص ناظريك في آخر القبو المعتم.

لا تصرخ طالباً الافراج فما أحد يسمع نداءك، فقد كنت جزءاً من لعبة مضت وانقضت، واحتسبوك في لائحة المنقرضين. واذا كان لك من أمل فهو أن يحتاجوك يوماً في جولة تجول بها أيها البائس، ثم تقود نفسك الى زنزانة جديدة تختارها. تختار سجانين جدداً، أحبة جدداً.

تلك الجدة في الشكل لا في المضمون، فذلك النائب الذي انتخبته أنت سيتولى حراسة زنزانتك بدل نائب نخر المرض ركبتيه فلم يعد يقوى على الوقوف. يتغير الاشخاص ولا تتغير الأدوار واللعبة هي هي، وخلف أسوار سجن كان اسمه وطناً هناك المخظوظون الكبار، يصادقون الأجانب القادرين في فنادق الدول الكبرى ناطقين باسم حيّز جغرافي لا باسم وطن يتحكمون بشعبه البائس.

ولا تقل انتخابات في لبنان، قل انها لعبة القادرين، ووهم التابعين، ومأساة وعي الذين بحت اصواتهم فصارت وشوشات لا يسمعها أحد.

في العتمة التي اخترتها ايها التابع والساكن في العتمة، لماذا تستدعي سجانيك؟ وتدعونا بصوتك الواهن الى الدخول في عتمتك، ولوسمعك سجانوك لأدخلونا عنوة واقفلوا الأبواب كمن يطبق كتاباً على زهرة ضئيلة.

في عتمتك يا ساكن العتمة لا يرى أحد أحداً ولا يرى أحد حتى نفسه.

هناك التحولات غير المنظورة، من البراءة الى الاجرام، من الغناء الى الصياح ومن الحب الى سوء النية والطوية.

ونلجأ الى الصمت يحضننا وقد يحمينا من التمارين اليومية في ساحة الخراب والقتل، حيث الدفاع عن الجسد بقتل الأجساد، والحيرة بين يقظة المقاومة والانسحاب الى النوم حتى الموت. ننجو الى الأبد من رؤية تلة الاحتفال المبقعة بالدم ودغل السرو المختنق برائحة الجثث، ومن اطلالة البحر الشاهد والبحر الساخر، وأولئك الذين سمعناهم وسمعناهم ولا نستطيع القول ليسمعونا.

نلجأ الى العطر الذي كان. هل يكون؟ ماء الورد وماء القصعين وماء ما لا نعرف من الأعشاب التي تشفي. والى حدائق الأزهار حيث الجنود المتقاعدون الذين عاشوا عمراً بلا حرب، جنود البزات المزينة والتحيات والشعر القصير.

الى معلمي اللغة الذين اتقنوها عربية عباسية وبسطوا سيبويه والخليل على بيادر القرى, واتقنوها فرنسية حتى حدود بول فاليري ولا جديد بعده. ونلجأ الى السمكري وصانع الأحذية الأنيق وصاحب المطحنة الذي يربي الأرانب ويزرع الملفوف، الى الحلاق الذي يقبض من زبائنه بيضاً وقمحاً، والخياط بالتقسيط حتى آخر السنة واهتراء البزة.

هناك البلدة التي نامت واستفاقت فلم تجد نفسها. زوايا الحب للقتال الدموي. وساحات المسرح الاحتفالي لتتفجر القنابل. والبيت الذي كان يحفظ سكانه، البيت بحجارته الصخرية، ثم حين يتهدم يبدو ضئيلاً: البيت هو فراغ ما بين الجدران والسقف، نملأه حكايات وأغاني وأسراراً، نملأه بصراخ المولودين وحشرجات المحتضرين. فراغ البيت ذكريات، والفراغ نفسه بعد سقوط البيت فراغ ليس لنا، هو للسماء والرياح، فراغ عمومي.

في الطريق الى هناك، تصعد السيارات وتهبط حيث مرت السكة الحديد، حين أتى الفرنسيون والانكليز وعمل الفلاحون الفقراء في ضبط الحديد والخشب وقواعد الحصى والحجارة. نسلك الطريق كأننا نتسلق، طريق شقت بالمعاول، يقول المسنون عنها كلاماً يشبه كلام المصريين عن قناة السويس.

للطريق حضورها في الذاكرة باسفلتها المزوّر كضمائر أهل السلطة والمتعهدين. للمدارس على التلال وفي الأودية. للطريق التي نعبرها طويلاً حيث نشاهد بلدات مدمرة نظنها لبشر لا نعرفهم، ثم نتذكرهم حين يصل الدمار الى بيوتنا.

للعجوز الذي اختفت صورته عن الجدار وقفز فوق النهر كأنه جناح. يتحدثون عنه كمن يخاف أن يفشي سراً.

كأننا في نهاية عصر. الأفكار بالثياب العسكرية ليست أفكاراً بل ذرائع للقتل. والبداوة الاولى نستعيدها، قبائل تتصارع على امكنة عيشها، على أمكنة صياحها. ولا يستطيع الفرد أن يتنصل بسبب خيوط القربى اللعينة.

والفقر يهبط من الأعالي أو يصعد من الوديان العميقة. يغمر الأحياء جميعاً. ولا يبحث القادة عن الفقر ليحاربوه بل يلقون التحية على ظلاله السوداء، لأن الفقر كنزهم، يأتيهم بمقاتلين مرتزقة، يبذلون الدم مقابل لقمة العيش. لا حاجة الى الشعارات وأفكار التعبئة. انها الغريزة الاولى: وجودك هو الغاء غيرك، ووجود غيرك هو الغاؤك.

والمقاولة: السياسي المقاول الذي يلتزم قضية ويحققها لحساب الغير بدم الناس (مقاول ضد مقاول)، وقد يتعاونان إذا عملا عند سيد واحد ليواجها مقاولين آخرين.

والبلدات المدمرة: بعد اسبوع أو أقل من بدء الدمار، يأتي بشر كالجراد. يحملون ما تبقى من أثاث البيوت الى بيوت ستسرق بدورها في وقت لاحق. البشر الجراد البدو المحدودون ينتقمون من سقفهم ليعيش الجميع في عراء البداوة بلا سقف.

ومن صالون البيت المدمر تلوح من النافذة أشجار اللوز، وتبدو سليمة اللوحة الخطية في صدر الصالون”كل حال يزول”.

لماذا عندما تموتون لا تتركون أثراً، ترمون الى القبر عمارات وذكريات ومؤلفات شفهية. انه السأم السأم السأم. انتظرنا طويلاً لنفرغ ويفرغوا شحنات الاحلام التي صارت رصاصاً وعصبية.

كتبوا وكتبنا بشارات الجديد ونبوءاته. أتوا ليشاهدوا تحقق الأحلام وما شاهدوا. جلسوا في نتوءات خرابنا يكتبون خيالاتهم. كنا نظنهم معتوهين أو نياماً. ضربنا على أكتافهم ليفيقوا، ثم ادركنا انهم يرفضون الاعتراف، وان خرابنا ليس سوى آخر حلم لهم قبل أن يغادروا الهوية ولم يفيقوا. قالوا انها ضرائب الأحلام الكبيرة، ثم استفاقوا معنا على الخراب العمومي، خراب أحلامهم وخراب حقيقتنا.

والذين انتظرونا سئموا الانتظار، وقالوا انها اغنية لفيروز يسمعونها في المنافي ويقولون: كان الذي كان ولن يكون.