* يقول صندوق النقد الدولي إن الضغوط في الاسواق المالية تعقد مهمة المصارف المركزية
*أزمات العقار تفاقم التحديات التي تواجهها المصارف كما يحصل في الصين
*قد تتعرض الصناعة المصرفية العالمية لضغوط شديدة لخفض تكاليف الودائع المرتفعة
ما هي الآفاق الاقتصادية للقطاع المصرفي في العالم في العام 2024؟ وهل يمكن أن نشهد خضة مصرفية مشابهة لتلك التي واجهت مصارف في الولايات المتحدة في الربع الأول من العام 2023؟
أسئلة مشروعة في ظل تباطؤ الاقتصاد العالمي، إلى جانب المشهد الاقتصادي المتباين، وهو ما سيشكل تحدياً للصناعة المصرفية في عام 2024. وسيتم اختبار قدرة المصارف على توليد الدخل وإدارة التكاليف بطرق جديدة.
لقد واجهت المصارف في العام 2023 ضغوطاً كبيرة وضعت صلابة النظام المالي العالمي أمام اختبار عسير. وكان السقوط المفاجئ لمصرفي “سيليكون فالي” و”سيغنيتشر” الأميركيين وفقدان الثقة السوقية بمصرف “كريدي سويس”، وهو من المصارف المؤثرة على النظام العالمي في أوروبا، بمثابة تذكير قوي بالتحديات الناجمة عن التفاعل بين تشديد الاوضاع النقدية والمالية وتراكم مواطن الضعف التي تواجهها المصارف.
ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في تسريع انتشار الأحداث، حيث انتقلت تداعيات ما حصل سريعاً الى المصارف والأسواق المالية عبر أنحاء العالم، مسبّبة موجة بيع واسعة للأصول عالية المخاطر، وذكّرت الكثيرين بأحداث الاثنين الاسود في العام 1987.
يقول صندوق النقد الدولي إن الضغوط الناشئة في الاسواق المالية تؤدي إلى تعقيد مهمة المصارف المركزية في الوقت الذي تأكد أن الضغوط التضخمية أطول أجلاً مما كان متوقعاً. وبعد أن سجلت المصارف المركزية زيادة كبيرة في حيازات الاوراق المالية خلال الجائحة، بدأت في تقليص حج ميزانياتها العمومية لتعود إلى نصابها الطبيعي. لكن هذا الامر سيفرض تحديات أمام أسواق الدين السيادي في الوقت الذي يشهد تراجعاً في السيولة وارتفاعاً في مستوى الديون.
وتتزايد المخاوف جراء ما يواجهه القطاع العقاري في العديد من الدول بفعل تدهور أسس الاقتصاد وارتفاع تكلفة التمويل. ففي الولايات المتحدة مثلاً، تمثل مجموعة من المصارف التي يقل مجموع أصولها عن 250 مليار دولار حوالي ثلاثة أرباع الإقراض المصرفي في سوق العقارات التجارية، وبالتالي قد يؤدي تدهور جودة الأصول الى تداعيات حادة على ربحيتها وحجم الإقبال على الإقراض المصرفي.
وفي الصين، يتعرض النظام المصرفي العملاق، وهو الأكبر في العالم، بشدة لأزمة العقارات. إذ أنه ما يقرب من 40 في المئة من جميع القروض المصرفية مرتبطة بالممتلكات. ويتزايد الضغط على تلك المصارف حيث تخلف العشرات من المطورين العقاريين عن سداد المبالغ المستحقة عليهم كالمطور الأكثر مديونية في العلم “إيفرغراند”، ولائحة المتخلفين طويلة.
ويعني حجم مشاكل العقارات في الصين- من مستويات الديون الهائلة، وزيادة المعروض من الشقق والمستهلكين الذين يشعرون بقلق متزايد من الشراء- أن الحكومة قد تضطر في السنوات المقبلة إلى إنفاق مبالغ ضخمة من المال لإنقاذ المصارف التي تحمل أصلا أربعة أخماس الأصول المالية للبلاد، بما في ذلك معظم السندات.
ويتوقع مصرف “جيه بي مورجان” تراجع أرباح المصارف الصينية إلى نحو 10 في المئة في عام 2024، إذا استمرت معدلات الديون الرديئة لدى شركات التطوير العقاري المتعثرة في الارتفاع. وقد ترتفع إلى 13 في المئة في حالة تعثر جميع شركات البناء الصينية الخاصة، وشركات التطوير العقاري التابعة للحكومة، الأمر الذي يترتب عليه تراجع أرباح المصارف بنسبة 10 في المئة.
بين النمو الاقتصادي والفائدة والمصارف
لا شك أن تباطؤ الاقتصاد العالمي سوف يؤدي إلى تحدي الصناعة المصرفية بطرق جديدة في عام 2024. فعلى الرغم من أن الجهود الأخيرة لمكافحة التضخم تظهر علامات النجاح في العديد من البلدان، إلا أن المخاطر التي سلطت الضوء عليها اضطرابات سلسلة التوريد، وإعادة توصيل العلاقات التجارية، والتوترات الجيوسياسية المستمرة ستعقد النمو الاقتصادي في جميع أنحاء العالم.
ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة لا تزيد عن 3 في المئة في عام 2024. كما أنه من المتوقع أن تشهد الاقتصادات
المتقدمة?أي الولايات المتحدة ومنطقة اليورو واليابان والمملكة المتحدة وكندا?نموا ضعيفاً بنسبة 1.4 في المئة في عام 2024. لكن العديد من الاقتصادات الناشئة ستشهد نموا أعلى على خلفية الطلب الاستهلاكي القوي، والتركيبة السكانية الأصغر سنا، وتحسين الموازين التجارية.
ومن جهتها، ستقوم المصارف المركزية بضبط سياساتها النقدية خلال عام 2024.
من جهتها، توقعت منظمة التعاون الاقتصادي أن يتراجع النمو إلى 2.7 في المئة في عام 2024 من 2.9 في المئة هذا العام، قبل أن يرتفع إلى 3 في المئة في عام 2025 ، بسبب تعافي نمو الدخل الحقيقي وانخفاض أسعار الفائدة.
وبحسب المنظمة، فان وتيرة النمو غير متساوية. إذ تواجه الاقتصادات المتقدمة عموما نموا أبطأ من الأسواق الناشئة، ويتخلف أداء أوروبا عن أميركا الشمالية والاقتصادات الآسيوية الكبرى.
أما أوروبا حيث يتأثر الاقتصاد بشكل وثيق بأسعار الفائدة المرتفعة وحيث تؤثر تكاليف الطاقة المرتفعة على الدخل، فتواجه طريقاً صعبة بشكل خاص للتعافي الكامل.
ولكن كيف ستؤثر بيئة الاقتصاد الكلي في 2024 على الصناعة المصرفية؟
ستواجه المصارف على مستوى العالم مزيجاً فريداً من التحديات في عام 2024، ولاسيما قدرتها على توليد الدخل وإدارة التكاليف.
بمعنى آخر، قد تتعرض الصناعة المصرفية العالمية لضغوط شديدة لخفض تكاليف الودائع المرتفعة، وحتى مع انخفاض أسعار الفائدة. فتوقعات العملاء بمعدلات أعلى، إلى جانب زيادة المنافسة في السوق، ستجبر العديد من المصارف على تقديم أسعار فائدة أعلى على الودائع للاحتفاظ بالعملاء ودعم السيولة.
في هذا الإطار، ترى “ديلويت فايننشال سيرفيزيس” إن الوضع سيختلف حسب المنطقة. فالمصارف الأوروبية قد تكون قادرة على خفض تكاليف الودائع بسرعة أكبر ، مع العلم أن الصناعة المصرفية الأوروبية لم تواجه الكثير من المنافسة من صناديق أسواق المال، على عكس الولايات المتحدة. على سبيل المثال، خلال الاضطرابات المصرفية في مارس (آذار) 2023، بلغ إجمالي التدفقات إلى صناديق أسواق المال في أوروبا 19.3 مليار دولار، مقارنة بـ 367 مليار دولار في صناديق أسواق المال الأميركية.
وفي ما يتعلق بنمو القروض، تتوقع “ديلويت” أن يكون الطلب متواضعاً نظرا لظروف الاقتصاد الكلي وارتفاع تكاليف الاقتراض. ومن المرجح أيضا أن تواصل المصارف سياسات الإقراض الائتماني التقييدية. فوفقاً لاستطلاعات الإقراض المصرفي الأخيرة التي أجراها الاحتياطي الفدرالي والبنك المركزي الأوروبي، شددت العديد من المصارف بالفعل معايير الائتمان عبر جميع فئات المنتجات، كونها تتوقع المزيد من التشديد بسبب التوقعات الاقتصادية الأقل ملاءمة والتدهور المحتمل في قيم الضمانات وجودة الائتمان.
وتتوقع وكالة “فيتش” للتصنيفات الائتمانية تشديد الرقابة المصرفية وسط اليقظة المتزايدة للصدمات التي قد تزيد من تأثير أسعار الفائدة على الأصول الحساسة للمخاطر ، وأعباء خدمة الديون، والاستقرار المالي بشكل عام. ورأت أن الحوكمة والمناخ والجريمة المالية والمخاطر السيبرانية ستظل في بؤرة التركيز.
الرياح المعاكسة
تقول “ستاندرد أند بورز” في تقرير لها حول توقعاتها للقطاع المصرفي في العام 2024، إن توقعاتها للمصارف العالمية تبقى ثابتة، حيث أنه وفقا للبيانات التي جمعتها حتى 31 أتبور (تشرين الاول) 2023، فان 79 في المئة من توقعات التصنيف المصرفي تبقى مستقرة. وترجع هذه المرونة إلى حد كبير إلى الرسملة القوية، والربحية المحسنة، وجودة الأصول التي لا تزال سليمة.
“بشكل إيجابي، ستستمر أرباح معظم المصارف في الاستفادة من أسعار الفائدة المرتفعة”، قالت الوكالة في تقريرها.
لكن التوقعات الاقتصادية الضعيفة تمثل رياحاً معاكسة لحجم أعمال المصارف وجودة الأصول وظروف التمويل. إذ يمكن أن تتفاقم المخاطر الرئيسية، حيث من الممكن حدوث تدهور ملحوظ في الظروف الاقتصادية في أوروبا والولايات المتحدة والصين، بينما لا يزال التضخم مرتفعاً. كما تجلب حروب روسيا وأوكرانيا وإسرائيل مخاطر غير مباشرة.
وتضيف أن أسواق العقارات التجارية تعاني من تراجع كبير، مع انخفاض الطلب والأسعار، خاصة في الولايات المتحدة والصين وبعض الدول الأوروبية. وسوف تكون الخسائر المترتبة عنها محسوسة لبضع سنوات.
وتتوقع “ستاندرد أند بورز” زيادة التباين الائتماني، حيث سيكون الضغط أكثر وضوحا للمؤسسات والكيانات المالية غير المصرفية ذات ملامح التمويل الضعيفة أو المعرضة بشكل مباشر للمخاطر الجيوسياسية.
أوروبا والشرق الأوسط
ثلاثة مخاطر رئيسية لمصارف منطقة أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا والأسواق الناشئة في عام 2024، بحسب “ستاندرد أند بورز”:
1- السيولة العالمية: من شأن ارتفاع أسعار الفائدة على المدى الطويل وانخفاض شهية المستثمرين للاستثمار في الأسواق الناشئة، أن يؤدي إلى الضغط على مصارف وبلدان منطقة أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا ذات الرافعة المالية الخارجية. وتعتبر كل من تركيا ومصر وتونس من الأنظمة المصرفية الأكثر عرضة للخطر.
2- ضعف جودة الأصول: بالنسبة لبعض مصارف أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، من المرجح أن يؤثر انخفاض النمو الاقتصادي وارتفاع التضخم وارتفاع أسعار الفائدة والتوسع في المناطق الجغرافية الأكثر خطورة، على مؤشرات جودة الأصول.
3- خيارات السياسة: تعتبر قرارات توفير دعم السيولة وتنفيذ الإصلاحات وتعزيز التحول في السياسات في بعض البلدان، من بين الدوافع الرئيسية لمصارف أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا والأسواق الناشئة في عام 2024.
من الواضح أن العام 2024 لن يكون سهلاً، حيث ستواجه المصارف المركزية خيارات صعبة في ما يتعلق بخفض الفائدة أو تثبيتها، كما أن الحكومات ستجد نفسها مضطرةً إلى اختيار السياسات المالية الملائمة بظل الزيادة الكبيرة في الفائدة. وكل ذلك ستكون له تداعياته على الصناعة المصرفية التي يفترض أن تستعد للمواجهة.