أ.د. مازن الرمضاني*
في مقالنا للشهر الماضي تناولنا ابرز المقومات التي تنبع منها الفاعلية الداخلية للهند كقوة دولية كبرى بازغة. والقول إن توافر الهند على مثل هذه المقومات لا يلغي أنها تجابه, في الوقت ذاته, بثمة تحديات داخلية وخارجية مهمة قد يفضي تفاقمها إلى تعطيل عملية الإرتقاء الهندي إلى مصاف القوى الكبرى. في هذا المقال سنتناول هذه التحديات تمهيدا لمقال الشهر القادم, الذي سيعمد إلى إستشراف مستقبلات الهند في عام 2032 . وتتوزع تحديات الإرتقاء الهندي إلى نوعيين: تحديات داخلية وأخرى خارجية.
- التحديات الداخلية
تتعدد وتتنوع هذه التحديات. هذا جراء إنتشارهاعلى جل الصعد الداخلية الهندية. فإضافة إلى التحديات الآقتصادية والسياسية, تجابه الهند بتحديات مجتمعية ناجمة عن إنتشار الفقر, والتميز ضد المرأة, ومخرجات النمو السكاني المتسارع, كالبطالة وإتساع الفجوة بين سكان المدن وسكان المناطق الريفية, فضلا عن التعصب الديني والطبقي, ناهيك عن التحديات البيئية والصحية. ولتعددها, سنكتفي بتناول التحديات الاقتصادية والسياسية.
1.1. التحديات الآقتصادية
غني عن القول أن الهند, وإن تتوافرعلى واقع اقتصادي يُعد الآسرع نموأ في العالم, بيد أنها في الوقت ذاته تعاني من تحديات اقتصادية مؤثرة. ولعل ابرزها واقع الفقر المدقع, وتقادم البنية التحتية, فضلا عن تفاقم الحاجة إلى مصادر الطاقة.
1.1.1 واقع الفقر المدقع
عديدة هي الآسس, التي يرتكز عليها الآقتصاد الهندي. ولعل من بيت أبرزها هو أن يفضي ارتفاع النمو إلى خدمة الطبقات الآكثر احتياجا في المجتمع وتوفير فرص العمل لهم وتحقيق العدالة في توزيع الدخل بين عموم السكان. وعلى الرغم من أن مخرجات الجهد الرسمي ادى إلى إنخفاض نسبة الفقراء في المناطق الحضرية والريفية على السواء. بيد أن هذا الآنخفاض كان محدودا . إذ لم يتجاوز نسبة 10% في هذه المناطق, الآمرجعل اكثر من ربع سكان الهند البالغ نحو 1.3 مليار نسمة يعيش في فقر مدقع. فقد جاء في تقرير تم تقديمه إلى الجمعية العامة للآمم المتحدة في عام 2006 بعنوان: الجوع المزمن والتغذية في الهند” … أن الجوع وسوء التغذية يعدان من المشاكل الكبرى في الهند … واكثر مما كان علية الحال في تسعينيات القرن الماضي. إذ هناك فجوة واسعة بين الذين يتغذون جيدا وبين الذين لا يستطيعون توفير ما يكفيهم من الطعام. كما أن هناك تفاوت مناطقي ملموس. فالمناطق الآكثر تحضرا هي الآوفر حضا من التنمية الآقتصادية مقارنة بالمناطق الريفية. فجل الطبقة الفلاحية تعاني من عوز مادي وسوء تغذية…”
وقد أفضى هذا التفاوت المناطقي إلى أن تكون معدلات النمو, ومن ثم الدخل, في الولايات الهندية الجنوبية والغربية اكثرارتفاعا من تلك الولايات في الشمال والشرق. فبينما بلغ معدل الدخل الفردي في الآولى نحو 73% خلال عقد واحد(2003-1993), بلغ في الثانية نحو 13% فقط خلال الزمان ذاته. وتؤكد أراء أن مخرجات هذا التفاوت المناطقي تمثل أحد التحديات المهمة أمام الإرتقاء الاقتصادي الهندي.
2.1.1 تقادم البنية التحتية
من أجل تحقيق نمو اقتصادي حقيقي وفعال يُشترط توافر بنية تحتية عصرية وذات جودة عالية وعلى كافة الصعد. وتؤكد اراء عدة أن تقادم البنية التحتية في الهند وتخلفها يُعد من بين ابرز نقاط الضعف في الآقتصاد الهندي, والتي يمكن أن تعرقل الإرتقاء الهندي سيما وآن مخرجاتها تنطوي على تاثير سالب على قدرتها التنافسية العالمية, و تدفق الإستثمارات الاجنبية, وتطورالمشاريع المحلية.
3.1.1 ازدياد الطلب على مصادرالطاقة.
لقد ادى تسارع النمو الاقتصادي في الهند إلى تنامي الطلب على مصادر الطاقة, ومن ثم الاعتماد المتزايد على الاسواق الخارجية لاشباع هذا الطلب. وجراء هذه الاعتمادية أضحت الهند رابع أكبر دولة مستهلكة للطاقة بعد الولايات المتحدة الآمريكية والصين واليابان بنحو 3 مليون برميل في اليوم. وفي نهاية عام 2018 بلغت نسبة ارتفاع وارداتها النفطية نحو 19.17% . ويشكل الاعتماد على النفط نسبة 33% من مجمل احتياجاتها الطاقوية وبنسبة استيراد تبلغ نحو 65%.
وتفيد مؤشرات الاستهلاك الهندية من الطاقة, إن الهند لكي تحافظ على معدل نمو سنوي يبلغ نحو 6%, فإن هذا المعدل يتطلب زيادة استهلاكها من الطاقة بنحو 5% وبحجم استيراد اعلى بالضرورة. ويكاد الراي يجمع على أن الزيادة المستمرة في الطلب على مصادر الطاقة والمواد الطاقوية تُعد من اصعب التحديات التي يواجهها الآقتصاد الهندي.
2.1 التحديات السياسية
منذ استقلالها في عام 1947 وحكومتها الآولى بقيادة جواهر لال نهرو(1964-1947) مرورا بالزمان اللاحق تطور في الهند نمط من الدمقراطية يتكرر القول إنها الاكبر عالميا. بيد أن القول يعاكسه أخر يؤكد:” إن الحكم الديمقراطي في الهند يعاني من نقاط ضعف عديدة ومتآصلة فيه…” وعلى الرغم من إحتمالية أن تبقى الهند أكثر ارتباطا بالديمقراطية,هي احتمالية عالية, إلا أن الديمقراطية الهندية تجابه هي الآخرى بتحديات مهمة, منها مثلا تسيس الدين, والفساد السياسي, والتناحر الحزبي…الخ.
1.2.1 تسيس الدين
بعد وفاة نهرو عام 1964 بدآت في الهند عملية تسيس الدين . إذ بدء زعماء المؤتمر الوطني الهندي بالتخلي عن العلمانية لصالح استقطاب وتحشيد وتوظيف الاكثرية الهندوسية لاغراض سياسية وغير سياسية. إن الآتجاه نحو تسسيس الدين منذ وقت مبكر في الهند افضى في الوقت ذاته إلى بداية ظهور ملامح التعصب الديني الذي صاحبه الاحتقان الديني القائم على اساس النزعة القومية والدينية, الذي أدى تفاقمه في وقت لاحق إلى اغتيال انديرا غاندي في عام 1984, التي كانت رئيسة وزراء الهند لآربع فترات على التوالي خلال الفترة ( 1984-1966). كما أن راجيف غاندي منذ توليه أدارة الحكم, بعد اغتيال والدتة. لجآ , هو الآخر إلى أداة التخويف الديني من باكستان الإسلامية للحصول على دعم الآغلبية الهندوسية , التي ذهب قادتها إلى المناداة بإقامة نظام سياسي في الهند تسيطر علية هذه الاغلبية. ولم يبتعد حزب بهارتيا جاناتا, بعد تولية المسؤولية الرسمية في عام 2003 هو الاخر عن توظيف الدين لاغراض سياسية وسواها.
وعلى الرغم من أن الاصلاحات الاقتصادية الهندية متفاعلة مع انتشار آفكارالوسطية والاعتدال وبروز, سونيا غاندي, كزعيمة مؤثرة لحزب المؤتمر الوطني قد ساعدت على الحد من حالة التطرف والتشدد بين الاديان, إلا أنها لم تجد نهاية لها. ومن غير المحتمل أن يتم ذلك لتجذرهذه الحالة داخل المجتمع الهندي, الذي يتميز بتعدد الآديان والطوائف التي تتشكل منها الآحزاب الهندية. إذ تشكل الهندوسية الديانة الآكبر وبنسبة 80%, وتليها الديانة الآسلامية بنسبة 15%, ثم المسيحية بنسبة 2.6%, والسيخ بنسبة 1.9% واديان أخرى.
ولهذا التنوع الديني, لم يخلو تاريخ الهند بعد الاستقلال من حركات دينية انفصالية كبرى في (جالاند) في الخمسينيات , و(البنجان) في الثمانينيات, وفي (كشمير) في التسعينيات, ولاكذلك من أحداث عنف هزت المجتمع الهندي وأدت إلى انخفاض مستويات اللحمة الاجتماعية فيه. ومنها أحداث هدم مسجد البابري في عام 1992, وأحداث حريق جور جرات في عام 2002,واحداث بومباي في عام 2002, وكذلك الاظطهاد الهندوسي للمسلمين عام 2014.
2.2.1 الفساد السياسي
تؤكد أراء أن الفساد السياسي والإداري وسوء استخدام السلطة والمحسوبية من بين أبرز تحديات النظام السياسي الهندي. ومما ساعد على ذلك توظيف بعض المسؤولين الهنود بقاء حزب المؤتمر الوطني الهندي فترة طويلة في السلطة لتحقيق اهداف ذاتية, فضلا عن غياب الرقابة الفاعلة. لذا طالت تهم الفساد كبار المسؤولين الهنود, من رؤوساء وزارات ووزراء وحكام ولايات, وأدت الى تراجع شعبية حزب المؤتمرالوطني لصالح المعارضة ولاسيما لحزب, بهارتيا جاناتا, القومي الهندوسي.
3.2.1 التناحر الحزبي
يرتبط هذا التناحر بواقع التعدد والتنوع الديني والقومي والثقافي في الهند. فهذا التعدد والتنوع أفضى إلى مثله على صعيد الآحزاب السياسية. فكل, أوعدد, منها أضحى يمثل أحد الآديان أو أحدى القوميات في الهند. كما أن التنافس بين الاحزاب الهندية أضحى على أشده, ولاسيما بين حزب المؤتمر الوطني وحزب بهاراتيا جاناتا, بإعتبارهما الآكبروالآكثر شعبية. وهذا التنافس لا يرد فقط إلى تاثير التعدد والتنوع الديني والقومي والثقافي, وإنما إلى قيام السياسة الداخلية الهندية عليه أيضأ وبمخرجات ادت مثلا الى تغليب مصالح هذا الآحزاب على المصالح العامة, فضلا عن تاثير وسيطرة جماعات المصالح الخاصة, ناهيك عن دور هذا التناحر الحزبي في زعزعة الاستقرار السياسي
- التحديات الخارجية
لقد أفضى الموقع الجغرافي للهند إلى أن تقع بين ثلاث قوى نووية, هي الصين وروسيا وباكستان , تتميز العلاقات الهندية مع باكستان والصين خصوصا بالتوتر والصراع الكامن الممتد, الآمر الذي جعل الواقع الإستراتيجي لمنطقة جنوب أسيا يتميز بالاضطراب وعدم الآستقرار. إن هذا الواقع يشكل أهم التحديات الخارجية/الآقليمية, التي تواجه الهند من الناحية الجيو سياسية. في إدناه سنتناول علاقات الهند مع كل من الصين وباكستان بالتتابع.
1.2 العلاقات الهندية- الصينية
مرت العلاقة الثنائية بين الهند والصين بإربعة محطات رئيسية: الآولى, وقوامها الآعتراف الهندي بالجمهورية الصينية الشعبية عام 1949 وتبادل العلاقات بين الدولتين, والثانية, وتقترن بتدهور العلاقة الثنائية ابتداءً من العام 1959 جراء المشاكل الحدودية وقضية التبت, والثالثة, الوفاق بين الدولتين في أعقاب الغزو السوفيتي لآفعانستان عام 1979. وقد امتدت هذه المحطة إلى عام 1998, وقد شهدت العلاقات الثنائية خلال هذا الزمان توقيع عدة اتفاقيات ذات علاقة بفض الخلافات الحدودية والتجارية وسواها. أما المحطة الرابعة, التي بدآت منذعام 1998 بعلاقة تجمع بين سمات التراجع والتطور في أن. ولإنتقال هذه العلاقات بين التراجع والتطورعبر الزمان, فإنها تتماهى مع مثلث الخصائص الآساسية للسياسة/العلاقات/ الدولية, التي هي: التعاون والتنافس والصراع . مع هذا التماهي, إلا أن الخاصية الغالبة لهذه العلاقات هي التنافس, ولاسيما على النفوذ الإقليمي, الذي يمهد عادة للصراع. فبينما ترى الهند في الصين بمثابة العقبة الآساس امام نفوذها الإقليمي, ترى الصين في الهند بمثابة القوة الإقليمية الكبرى المناهضة لمشروعها في الريادة الإقليمية ومن ثم العالمية.
ومما يساعد ايضا على تأجيج التنافس ومن ثم الصراع الهندي-الصيني ليس فقط تناقضات المصالح متعددة المضامين, وإنما ايضا توافركلا الدولتين على مشاريع إقليمية/دولية متناقضة ومدعومة بالمقومات الصلبة والناعمة لقدرة كل منهماعلى الفعل, هذا فضلا عن تاثر هذا التنافس بمخرجات التحالفات المضادة الناجمة عن العلاقة الوطيدة لكل من الهند والصين مع دول ثالثة ترتبط مع أحداهما بعلاقة صراع. فبينما تتبادل الصين العلاقة الوطيدة مع باكستان, التي ترى في الهند بمثابة التحدي الإقليمي الآساس لها, للهند بدورهاعلاقة تكاد تكون خاصة مع الولايات المتحدة الآمريكية, التي ترى في الصين بمثابة القوة الدولية المنافسة لها على قيادة النظام الدولي .وهكذا يتم توظيف باكستان من قبل الصين كطرف موازن للهند, وتوظيف الولايات المتحدة للهند سبيلا مساعدا للحد من الصعود الصيني الإقليمي والعالمي.
2.2 العلاقات الهندية-الباكستانية
لقد ادى استقلال شبه القارة الهندية عام 1947 إلى تقسيمها على أساس ديني إلى دولتين: الهند ذات الآغلبية الهندوسية, وباكستان ذات الآغلبية المسلمة. أن هذا التقسيم أسس لعلاقة صراع كامن وممتد بين هاتين الدولتين حول قضايا متعددة بعضها أضحى معلنا ومعروفأ كقضية كشمير خصوصأ, التي كانت وراء اندلاع ثلاث حروب بين الدولتين في اعوام (1971, و1965, 1947). لقد أدى الصراع الممتد زمانا على كشمير, ذات الآهمية الجغرافية العالية جراء متاخمتها لاربع دول,هي باكستان, والصين, وافغانستان , والهند , وذات الاغلبية المسلمة( 80% من نحو 13 مليون هم سكنتها) , إلى أن تستمر العلاقة الثنائية بين الهند وباكستان إنعكاسا لهذا الصراع. فعلى الرغم من محاولات فضه سلميا وعلى نحو يؤمن مصالح كل من الدولتين ,إلا أن هذا الحل لا زال معلقا, ومن المرجح أن يبقى كذلك, سيما أن كل منهما يرفض أن تكون كشمير ضمن سيادة الآخرى, هذا على الرغم من أن جل سكانها هم من المسلمين, الآمر الذي يجعلها بداهة أقرب إلى باكستان من الهند, انطلاقا من أن تقسيم شبه القارة الهندية كان قد تم على اساس ديني, كما تم ذكره.
إن بقاء الصراع على كشمير دونما حل , ولاكثر من نصف قرن, افضى إلى دخول كلتا الدولتين في سباق تسلح تقليدي ونووي , الآمر الذي أدى إلى زيادة إنفاقهما العسكري سبيلا لتحقيق أهداف متناقضة. فبينما تسعى الهند إلى تأمين تفوقها العسكري على باكستان, تسعى الاخيرة الى دعم قدراتها العسكرية لاغراض ردع الهند. ومن هنا نبع التسلح النووي الباكستاني والإرتقاء بقدراتها الصاروخية وانظمة الإطلاق الآبعد مدى. إذا بها تستطيع باكستان مهاجمة اكثر من ثلث المدن المتوسطة والكبيرة الهندي, مما يعني وقوع كارثة بشرية في حالة إندلاع حرب نووية بين الدولتين. وقد قيل: ان الحرب النووية بين الهند وباكستان قد تؤدي بحياة 127 مليون شخص من الدولتين. لذا غير مرجحة مثل هذه الحرب. فالاسلحة النووية هي لاغراض الردع وليس الآستخدام.
بيد أن عدم ترجيج مثل هذه الحرب, لا يلغي احتمال تكرارحدوث التوترات العنيفة بين الدولتين واحتمال تصاعدها إلى الاستخدام المتبادل للقوة العسكرية. فتاريخ العلاقات بين البلدين زاخر بمثل هذه التوترات. ومثالها التوتر, الذي حدث في شباط عام 2019, جراء هجوم انتحاري أودى بحياة 40 جندي هندي وردود الافعال الهندية عليه. هذا التوتر كاد أن يفجر حربا بين الهند وباكستان.
وكذلك لبقاء الصراع على كشمير ممتدا تبعات سلبية على الداخل الهندي. ففي ظل التعددية الدينية والعرقية والقومية, التي يقترن بها المجتمع الهندي, يدفع هذا الصراع إلى زيادة حدة التوتر العنيف بين المسلمين والهندوس, الامر الذي لا يفضي إلى عدم دعم الآستقرارالمجتمعي فحسب, وإنما أيضا إلى مخرجات أمنية واقتصادية سلبية عديدة.
*استاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات
العدد 126 / أذار 2022