تحمل في جوهرها رسالة “أمل”..
“إنها لوحات تنطق بآلام الإنسان ومآسيه، تروي قصص أولئك الذين تحوّلوا إلى مجرد أرقام في هذا العالم الموحش. أشعر وكأننا انزلقنا إلى واقع آخر، ندور في دائرة مغلقة لا فكاك منها.” بهذه الكلمات عبّرت الفنانة التشكيلية اللبنانية جنان الخليل، عن لوحاتها التي ملأت “كاف آرت غاليري” Kaf Art Gallery في منطقة الأشرفية في لبنان، وقد حمل المعرض عنوان “أمل”.
هكذا انطلقت جنان الخليل من ذاتها لتخاطب الكون بألوانها وريشتها، حيث صوّرت من خلالها صراعات الروح وارتباطاتها بالقيم. في كل لوحة، يتنقل المتلقي إلى عالم آخر، عالم يمر عبر الزمن، محملاً بالألم، والفرح، والتساؤلات المستمرة التي تحمل في طياتها الدعوة إلى السلام. لوحاتها لا تخلو من صرخاتٍ تجسد الألم الكوني، الذي تنبعث منه رياح الوحشة، مع

ذلك تحمل في ثنايا لوحاتها أملًا مستمرًا أيضًا ، حيث تُقدم في كل منها رحلة بصرية تؤدي إلى الكشف عن طبقات الوجود المتشابكة.
وتتابع جنان الخليل لتخبرنا عن ولادة فكرة عرض لوحاتها في “كاف آرت غاليري”، فتقول:
وُلِدت فكرة هذا المعرض من صرخة الأرض في غزة ولبنان، حيث أنّ الكثيرين فقدوا حياتهم، ولم يعد للإنسان قيمة أو معنى. جاءت هذه اللوحات انعكاسًا لعمق التأثر الذي عشته إزاء تلك الأحداث. وبعد خمس وعشرين سنة، كان لرندى غجر، صاحبة الغاليري، الفضل في تشجيعي على العودة إلى لبنان وعرض أعمالي في غاليري كاف، الذي أسسته غجر واهتمت فيه بالفن المعاصر.
وتعد جنان الخليل واحدة من أبرز الفنانات التشكيليات اللواتي وضعن بصمة قوية في مجال الفن المعاصر. حازت الخليل على شهادة الدكتوراه في الفن التشكيلي من جامعة السوربون في فرنسا، وهو ما يمثل تتويجًا لمسيرة فنية أكاديمية غنية. قبل ذلك، درست هندسة الديكور في الجامعة اللبنانية في بيروت، وحصلت على شهادة الدراسات العليا في الرسم والتصوير، وهو ما منحها قاعدة معرفية متينة مكنتها من مزج التقنية مع التعبير الفني في أعمالها. بذلك، جمعت جنان بين الإبداع الفني والعقلية المعمارية لتصنع أسلوبها الفريد الذي يميزها من بين العديد من الفنانين التشكيليين.
أقامت الفنانة العديد من المعارض الجماعية والفردية في العالم العربي وأوروبا، ما أتاح لها عرض تجربتها الفنية وتوسيع نطاق تأثيرها. في كل معرض، كانت جنان الخليل تسعى إلى تحدي المفاهيم التقليدية، وتقديم رؤيتها الخاصة للوجود الإنساني عبر أعمالها التي تتنوع في أسلوبها وتقنياتها الحديثة، وظلت محكومة بحسّ عاطفي عميق دائمًا، يعكس فنّها علاقتها بالعالم وبالزمن. لوحاتها، مثل نوافذ مفتوحة على عالم متناقض، تستعرض صراعات الإنسان وتبحث في تناقضات الوجود وتتمثّل من خلالها تجربة الإنسان وعلاقته بالعالم وتفاعله مع محيطه وما ينتج عنه من تأثيرات سببها الصراعات والحروب.
وفي كلمة لرندى غجر صاحبة “كاف آرت غاليري” تقول:
“لقد أسرني إبداع جنان الخليل في معارضها بتركيا، وحين التقيتها في بيروت، أقنعتها بعرض لوحاتها في غاليري “كاف” خاصتي. وبالرغم من أن المعرض تأجّل مرتين بسبب حربي غزة ولبنان، فإن الإصرار والصبر جعلانا نتمكن من تحقيقه. خصّت جنان الخليل غاليري “كاف” بأعمالها الفنية التي أنجزتها حديثًا، ثمّ قدمتها هدية لغزة.”
وتتابع رندى غجر: “الفن بالنسبة إلي هو حياتي الأخرى. أمضيت ثلاثين عامًا في أفريقيا، حيث تعرّفت إلى الفن التشكيلي الأفريقي وغصت بتفاصيله، وحين عدت إلى بيروت، أخذت “غاليري كاف” من أحد الأصدقاء، وبذلت جهدًا كبيرًا في فهم الفن التشكيلي اللبناني والتعمق فيه. لم تكن البداية سهلة، فقد تزامنت مع أزمة لبنان الكبرى، لكنني كنت مؤمنة بأن الفن هو الفرح، وهو التعبير الأصدق عن الأحاسيس الداخلية ورؤية الفنان للعالم. اللوحة بالنسبة إلي كتاب أقرأه بحثًا عن نهايته، أتأمل يوميًّا الأعمال الفنية في منزلي، وفي كل مرة أكتشف فيها فكرة جديدة.، إنها علاقة الفهم اللامتناهي للفن التشكيلي.”
تعتبر جنان الخليل أن الريشة هي أداة تعبير، فبها تفتح الأفق أمام مخيلتها لتمنح الحياة للألوان التي تندمج وتتشابك مع المواد المستخدمة عبر وسائل متقنة. فهي لا تسعى إلى تقديم صور واقعية بقدر ما تسعى إلى تمثيل مشاعرها وتجاربها الشخصية التي تتداخل مع مشاعر الإنسانية جمعاء. الألوان في لوحاتها تمثل سيلًا من الأفكار والخواطر، إذ تصوغ كل لون بطريقة تعبّر عن أعمق الانفعالات الإنسانية. تتنقل في مزاجها بين الألوان الحارة والباردة لتخلق توازنًا جماليًا يحمل في دواخله كثيرًا من التوتر والتآلف في آن واحد. والنتيجة هي لوحات مشبعة بالحياة، حيث يتداخل الحزن مع الفرح، واليأس مع الأمل، ليعكس ذلك التناقض الأبدي الذي يعيشه الإنسان في صراعه مع ذاته ومع العالم..
في كل عمل فني تقدمه جنان الخليل، تجد نفسك أمام لوحة ليست مجرد رسم، بل هي حالة متكاملة تنبض بالحياة. هي تجسد تفاعلها مع الكون من خلال استخدام تقنيات فنية مبتكرة تدمج فيها الرمزية والتجريدية مع الأشكال الطبيعية التي تعكس التغيرات الثقافية والعاطفية التي تمر بها. في أعمالها، لا يتوقف البحث عن المعنى بل يستمر في التنقل بين الطبقات العاطفية، لتكشف عن جوانب أخرى من الشخصية الإنسانية، ما يتيح للمتلقي أن يغوص أكثر في تفاصيل اللوحة ويكتشف في كل مرة معانٍ جديدة.
لوحاتها، بكل قوتها، ليست مجرد تعبير عن ذات الفنانة فقط، بل هي محاولة لتقديم صورة شاملة عن الإنسان بكل تناقضاته وأحاسيسه المتنوعة. هي رحلة استكشافية في عوالم جمبلة ومشوهة في آن، ولكنها تحمل في جوهرها رسالة أمل عميقة، إذ تحاول جنان الخليل من خلال ألوانها أن تخلق بيئة فنية موازية للعالم الواقعي، الذي يعج بالصراعات والتحديات والآمال أيضًا. من هنا، لا تكمن جمالية لوحاتها في التفاصيل الدقيقة فقط، بل في قدرتها على محاكاة الوجود البشري بكل أبعاده الداخلية.
يوم سألتها في أحد الحوارات: “هل الفن مؤلم إلى هذه الدرجة؟ وهل تستطيع اللوحة أن تصور هشاشة الكائن في زمن الرقميات المتسارع والعولمة المجنونة العابثة بكل شي بما في ذلك الإنسان نفسه؟
أخبرتني أنّ ألم الفن متعة لا يدركها سوى الفنان ذاته، فهي لا تجزم بذلك الألم كما أنها لا تنفيه قطعًا. تتكون الحياة بين ضدين هذا وذاك، فإن كان الفن مؤلمًا يبقى أخف وطأة من ألم الحياة نفسها ومعاناة البشر اليومية، التي تستطيع اللوحة التعبير عنها حتمًا مع اختلاف الزمكان، ومهما كانت القضايا متعددة ومتشابكة، فالفن جمال لها.
وفي معرضها المذكور في “كاف آرت غاليري”، توسعت جنان في أعمالها لتشمل ثيمات جديدة لم تكن موجودة في معارض سابقة. فقد قدمت لوحاتٍ تحمل رموزًا لأشكال وأرقام، ما يعكس تفاعلها مع التقنيات الحديثة والعصر الرقمي الذي يغير من شكل الإنسان وواقعه. هذه الأعمال تعتبر دعوة إلى التفكير في علاقة الإنسان بالآلة، ومع المكان والزمان في العصر الرقمي. اللوحات التي تم عرضها في هذا المعرض تجعل من المشاهد يراجع نفسه في مواجهة التكنولوجيا الحديثة، وفي علاقة الإنسان مع العالم الذي بات يطغى عليه التطور السريع.
من خلال رؤية فنية دقيقة وواسعة في آن، تمكّنت جنان الخليل من تسليط الضوء على الأعماق المضمرة للإنسان حيث جسّدت من خلال مزج المواد الخام بالألوان لتخرج بلوحات تقاوم بها على الصعيد الشخصي قبل كل شيء، المرض والألم والاكتئاب عبر رفض السوداوية والظلمة النابعة من اللاإنسانية أو حيث تجرد الإنسان من إنسانيته، فقد راحت تصرخ في لوحات تنضح بالحياة في رغبة منها بزرع الأمل بإنسان ما زال يقدّر أخاه الإنسان، بعد أن صارت الأفكار والعقول متجهة باتجاه واحد خارج عن الإبداع في عالم تحكمه الآلات والأرقام.
تبحث جنان الخليل عن حياة داخل هذه الحياة، حياة ملؤها الصفاء والنقاء وسط رفض الجانب الزائف الذي صار مهيمنًا على العقول. إننا أمام فنانة مقاوِمة تسير في خط يعيد للحضارة مكانتها. تقول جنان في حديثنا عن سؤال الموت وكأنها تستشرف الحروب التي مرت منذ حرب غزة إلى حرب لبنان: كيف يمكن ترجمة سؤال الموت في لوحة مسطحة ممتدة؟ ألا يفرض هذا الموضوع تغيير الشكل، ما دام الموت يحوّل الأرض إلى تابوت أو قبر؟ فالتابوت، في جوهره، يمثل حياة لأجساد ممزقة لا تقوى حتى المقابر على احتواء رفاتها المتناثرة بين شظايا الحروب والطائفية والتفسير الأحادي للدين والتطرف والإرهاب. وليس هذا فحسب، بل إن فلسفة ما بعد الحداثة اجتاحت العالم العربي بمظاهر سطحية، كالسراويل الممزقة، من دون أن يمر أولًا بمرحلة الحداثة والعقلانية.
وفي النهاية، تظل أعمال جنان الخليل بمنزلة قصائد مرئية، تنطق بالكلمات التي يصعب على الكلمات التعبير عنها. إنها تحمل رسالة خاصة في كل عمل، وتفتح أمام المشاهدين أبوابًا للتأمل في ما وراء الألوان والأشكال، لتدعوهم إلى رحلة بحثية عن الذات والوجود. لا يمكن النظر إلى لوحاتها من دون أن يشعر الناظر بأنها جزء من تجربته الخاصة، لأن كل لوحة هي نوع من بصمة فنية تظل محفورة في الذاكرة، وتثير مشاعر مختلطة بين الألم والأمل، بين الواقعية والخيال.