بسياستها الخارجية الهادئة وحيادها الإيجابي
” أتمنى لإيران أن تكون دولة سعيدة وعظيمة، ولكن من دون سلاح نووي..” عبارة قالها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على متن طائرة الرئاسة تعليقا على سير المفاوضات الثنائية بوساطة عمانية بين إيران وبلاده في جولتها الأولى.
وهي تعكس أهمية خطوة التفاوض، التي وصفت بالإيجابية من قبل المجتمع الدولي، وجاءت بعد أجواء عصيبة من الخصومة والتصريحات العدائية، وتؤكد أهمية دور الوساطة الذي تلعبه سلطنة عمان في المنطقة.
وتعد سلطنة عمان ثاني أكبر دولة خليجية من حيث المساحة، من الدول ذات السياسة الخارجية الهادئة غير الصدامية والتي تميل إلى الحياد الإيجابي في التعامل مع الأزمات التي تشهدها منطقة الخليج أو الشرق الأوسط بشكل عام، وبعيدا عن الشعارات الرنانة ودون التدخل في شؤون الآخرين. ولذلك تتمتع عمان بعلاقات دبلوماسية جيدة في تعاملاتها الدولية كما تتسم باستقرار سياسي داخلي يمنحها ثقة ومصداقية للعب أدوار مهمة في محيطها الإقليمي.
ولا يمكن فصل السياسة الخارجية العمانية عن وضعها وموقعها الجغرافي، يقول الباحث العماني محمد كريم الخافاني أن عمان تتسم بسواحل طويلة وممتدة لأكثر من ٣١٦٧ كم²، تبدأ من بحر العرب ومدخل المحيط الهندي وصولاً الى بحر عُمان حتى مضيق هرمز عند محافظة مسندم في الشمال، مما يستلزم ضرورة التوازن في تعاملاتها مع الجيران. وربما يفسر ذلك مواقفها الحيادية تجاه العديد من الأزمات في المنطقة منها أنها الوحيدة مع 3 دول عربية أخرى لم تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع القاهرة في أعقاب اتفاقيات كامب ديفيد. وسلكت المجال التوفيقي في الحرب العراقية الإيرانية فلم تساند إيران كما رفضت دعوات مقاطعتها وفي نفس الوقت وقفت مع العراق. وتبنت موقفا متوازنا من حرب العراق والكويت. كما التزمت الحياد حيال أزمة قطر الأخيرة مع دول مجلس التعاون الخليجي.
وعلى مدار خمسة عقود من حكم السلطان قابوس ما بين عامي 1970 و2020 اتسمت السياسة الخارجية العمانية بالحياد الجيوسياسي واستخدام القنوات الدبلوماسية لترسيخ مفاهيم السلام إقليميا وعالميا. وبعد تولي السلطان هيثم مقاليد الحكم استمر النهج العماني وتواصلت جهود السلطنة في دعم دورها كوسيط يحظى بالثقة والمصداقية من الجميع.
وساطة هادئة
وعلى الرغم مما قد يبدو من انتهاج سلطنة عمان لسياسة عدم الاقتحام في المشاكل الإقليمية والدولية والتفرغ لشؤونها الداخلية، إلا أن المواقف العمانية خلال تلك الفترة تشي بما يخالف هذا الاعتقاد ويؤكد بأنها كانت تتبع أسلوب الدبلوماسية الهادئة بينما لعبت دورا محوريا في رأب الصدع تجاه بعض الانقسامات الإقليمية العصية على الحل، ومنها دورها في إزالة الخصومة بين المملكة العربية السعودية وبين إيران. ويقول الباحث الأمريكي دكتور جورجيو كافيرو أنه ما كان من الممكن فتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقة بين هذين البلدين بعد سنوات طويلة من التوتر، بدون الجهد الشاق الذي بذلته سلطنة عمان على مدار عامين، وأنها مع شريكها العراقي من سعيا لدعم الصين لهذا الاتفاق كقوة عالمية لضمان قوته واستدامته، وهو ما كان سببا في حدوث نقطة تحول مهمة في منطقة الشرق الأوسط بتوقيع اتفاق التطبيع عام 2023. كما لعبت عمان دورا مهما لمساعدة البحرين ومصر على استئناف العلاقات الدبلوماسيّة مع إيران. وفي نفس الوقت كانت وسيطا لتهدئة التوتّرات بين القاهرة وطهران عام 2009. وقبل ذلك بسنوات بعيدة مارست سلطنة عمان دور الوسيط ولكن بصورة غير مباشرة بين العراق وإيران حينما استضافت محادثات سرية بينهما لوقف إطلاق النار خلال فترة حربهما في الثمانينات من القرن الماضي. كما قامت عمان مع الكويت بدور مهم لتمهيد الطريق لرفع حصار السعودية والبحرين والإمارات ومصر عن قطر والذي فرضوه عليها عام 2017.
لذلك كانت سلطنة عمان جديرة بالإضطلاع بدورها كوسيط من جديد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية خاصة وأنها تتمتع بخبرة طويلة وتجيد التعامل مع الإيرانيين بحكم تجاربها السابقة، سيما وأن الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران عام 2015 في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما تم في العاصمة العمانية مسقط. وهو الاتفاق الذي ألغاه ترامب في عام 2018 خلال فترة ولايته الأولى بما يعكس حالة التوتر الشديدة التي صارت إليها العلاقات الإيرانية الأمريكية خاصة بعد التصعيد الخطير الذي حدث بين إيران وإسرائيل بسبب حرب الأخيرة على غزة.
لكل ما سبق فإن اختيار سلطنة عمان لدور الوساطة بين أمريكا وإيران لم يأت من فراغ وإنما يرتكز على أسس عميقة وخلفيات ذات صلة بقوة وفعالية الأداء العماني في مثل هذه المحافل وإن كانت تقوم بهذا الدور بشكل هادئ بعيدا عن التصريحات الإعلامية الرنانة.
من الصداقة للعداء
لقد شهدت العلاقات الأمريكية الإيرانية محطات متنوعة من الصداقة للعداء الذي بلغ مداه بعد سقوط نظام الشاه على يد الخميني في ظل أحداث الثورة الإسلامية في إيران 1979 واستحكم العداء بعد واقعة احتجاز الرهائن الأمريكيين – أعضاء السفارة الأمريكية في طهران – في مقر السفارة لأكثر من 440 يوما.
وفي عام 1988 أسقطت السفينة الحربية الأمريكية “يو إس إس فينسينس” طائرة تابعة للخطوط الجويّة الإيرانية، مما أسفر عن مقتل جميع من كانوا على متنها وعددهم 290 شخصاً. وقالت الولايات المتحدّة الاميركية وقتها أن ما حدث كان بالخطأ.
وفي عام 1996 شددت إدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون تطبيق العقوبات المفروضة على إيران، على خلفية اتهامها بدعم ما تصفه بالإرهاب الدولي، ومعارضة جهود السلام في الشرق الأوسط، والسعي للحصول على أسلحة للدمار الشامل. وبعد أحداث سبتمبر 2001 اعتبر الرئيس الاميركي جورج بوش أن إيران جزء أساسي ممن أسماهم “محور الشرّ.”
وحدثت انفراجة ملموسة عام 2013 مع انتخاب “الإصلاحي” حسن روحاني رئيساً لإيران، ما خلق مناخا مناسبا لحدوث أول تواصل من نوعه بين رئيسين أميركي وإيراني منذ ثلاثة عقود وهي الخطوة التي توجت باتفاق نووي تاريخي برعاية دولية ووساطة عمانية. وبدأ العالم يتنفس الصعداء آنذاك مع تراجع حدة التوتر بين الخصمين وتبادل السجناء والمحتجزين لدى البلدين. حيث أفرجت إيران عن عشرة بحارة أمريكيين بعد أن احتجزتهم في المياة الاقليمية الايرانية. فيما تبادلت الولايات المتحدة وإيران سجناء وذلك في عملية تم خلالها الإفراج عن أربعة أمريكيين مسجونين في إيران مقابل العفو عن سبعة إيرانيين مدانين في الولايات المتحدة، بجانب الإفراج عن أمريكي خامس بشكل منفصل. وكانت هناك خطة عمل شاملة ومشتركة بعد أن اتخذت إيران خطوات تتعلق بأنشطتها النووية الأمر الذي أدّى الى رفع الولايات المتحدة العقوبات عن إيران المتعلّقة ببرنامجها النووي.
لكن ظهور ترامب في المشهد السياسي وتبنيه سياسة متشددة تجاه إيران وانسحابه من الاتفاق النووي الذي أبرمه سلفه أوباما أعاد أجواء التوتر والصدام بين البلدين من جديد.
وأعقب ذلك حالة من التوتر الشديد نتيجة لتطورات الأحداث وتشدّد الولايات المتحدة الأميركية في فرض العقوبات التي تستهدف صادرات النفط الإيرانية. في خضم ذلك اشتعلت المنطقة بعد وقوع انفجار في ست ناقلات نفط في خليج عمان، ووجهت الولايات المتحدة على إثرها التهمة لإيران بمسؤوليتها عن التفجيرات. وفي نفس العام أسقطت القوّات الإيرانية مسيّرة أمريكية فوق مضيق هرمز.
وشهد عام 2020 مزيدا من التدهور بين البلدين بعد مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في غارة أمريكية بأوامر من الرئيس ترامب. وقد دفعت هذه الأجواء إيران للتراجع عن إلتزاماتها المرتبطة بالاتفاق النووي.
ومع إدارة جو بايدن الديمقراطية لاحت في الأفق بوادر تهدئة وعقد مسؤولو البلدين محادثات نووية غير مباشرة في ست جولات في فيينا. وبعد ما يقرب من عام ونصف تصدر القلق المشهد العالمي في ظل التصريحات السلبية للرئيس بايدن عن فشل الجهود الدبلوماسية الخاصة بالاتفاق النووي مع إيران.
ورغم ما حملته سنة 2023 من بارقة أمل بعد اتفاق البلدين على تبادل محتجزين لديهما وإلغاء تجميد ستة مليارات دولار من الأصول الإيرانية في كوريا الجنوبية، إلا أن الأمور خرجت عن السيطرة وتعقدت من جديد بعد اندلاع الحرب الصهيونية الغاشمة ضد الفلسطينيين في غزة والذين تدعمهم إيران بمساندتها لمحاور المقاومة في المنطقة، ليصل التوتر أقصى مدى خاصة في ظل التراشق بين إيران وإسرائيل بالتهديد بالتدمير وتبادل الضربات الصاروخية.
في بيت وزير الخارجية العماني
بطبيعة الحال لم تكن هناك مفاجأة في سياسة ترامب العدائية تجاه إيران مع عودته من جديد للبيت الأبيض في فترة رئاسته الثانية. وتوقع الجميع أن يمارس ضغوطا كبيرة على إيران خاصة بعد أن قضى على جزء كبير من أتباعها ممن يشكلون محور مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والذي يعتبرهم “محور الشر”.
قبل الإعلان الرسمي عن المفاوضات الأخيرة أرسلت واشنطن رسالة لطهران كانت تتضمن تهديدا لإيران، وقام بتسليم الرسالة مستشار الرئاسة الإماراتية أنور قرقاش، منتصف مارس الماضي. وهنا ظهرت سلطنة عمان في المشهد من جديد بعد أن فضلت إيران أن يأتي ردها على الرسالة الأمريكية عن طريق مسقط وظل ذلك خلف الكواليس حتى تم الإعلان عن انطلاق محادثات أمريكية إيرانية في غرفتين منفصلتين بالعاصمة العمانية، والتي بدأت في منزل وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي. وهو الأمر الذي حظي باهتمام كبير في الإعلام الأمريكي وثمنت شبكة CNN الأميركية اختيار منزل وزير الخارجية العماني القريب من مطار مسقط الدولي لتيسير تنقل ووصول الدبلوماسيين كموقع للمحادثات وأثنت على الدور العماني كوسيط محايد في النزاعات الدولية وداعم مهم للحوار البناء.
كان يقود الجانب الإيراني وزير الخارجية عباس عراقجي بينما يناظره في الجانب الأمريكي ستيف ويتكوف مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط.
وقد بدأت المناقشات الفنية المتخصصة في الجولة الثالثة من المفاوضات بفريق إيراني من الخبراء بقيادة مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية مجيد تخت روانجي، ومساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون القانونية والدولية كاظم غريب آبادي. بينما ترأس مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية مايكل أنطون، فريق الخبراء الأمريكي.
لقد أبدى الإيرانيون مرونة في هذه المحادثات وأعربوا عن رغبتهم في الوصول إلى تفاهم مبدئي بشأن برنامجهم النووي يتوج باتفاق عادل، مع التأكيد أن الحق في تخصيب اليورانيوم غير قابل للتفاوض وأن القدرات الدفاعية والصاروخية لإيران لم ولن تطرح للتفاوض. ووصف البيت الأبيض المحادثات بأنها إيجابية وبناءة، وفي نفس الوقت علق ترامب مؤكدا على قدرته على التوصل لاتفاق مع إيران ولكنه تشدد بالرفض في مسألة امتلاك إيران أسلحة نووية، وهدد بشن هجوم عليها.
تحديات تواجه الوساطة العمانية
لاشك أن الدبلوماسية العمانية الهادئة والمتوازنة تحظى بتقدير دولي جعلها محل ثقة كبيرة وهي تلعب دور الوسيط سواء في السابق أو في ملف العلاقات الإيرانية الأمريكية الحالي، وذلك بفضل نجاحها في إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع جميع الأطراف واتباعها النهج المتزن وغير التصادمي القائم على الحوار والفهم العميق لطبيعة الصراع والتفهم الجيد لدوافع مخاوف الطرفين.
ومع ذلك لا يخلو الأمر من تحديات خطيرة تهدد بوأد جهود الوساطة العمانية في المهد، وتجعل ثمارها مرهونة بها، منها تأثير التغيرات في الإدارات الأمريكية والإيرانية وأثرها على فرص نجاح الوساطة خاصة مع عمق الخلافات بين الإدارتين وافتقاد الثقة المتبادلة بجانب وجود توترات إقليمية أخرى وعلى رأسها الحرب الوحشية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.
وفي خضم الحديث عن زيارة مرتقبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمنطقة الشرق الأوسط بالتوازي مع انعقاد الجولة الرابعة من المحادثات في روما بوساطة عمانية، تشهد الأجواء ما يعكر صفوها في ظل شكوى الطرف الإيراني من التعنت الأمريكي واتهامه بعدم الجدية وعد الاكتراث بالمطالب الإيرانية.
ولذلك تظل هناك تحديات خطيرة تهدد المنطقة في حال فشلت المحادثات نظرا لما يمكن أن ينجم عنه من انفجار الوضع واتساع نطاق الحرب بالمنطقة خاصة إذا ما أقدم ترامب على استخدام قواعده العسكرية بالشرق الأوسط لضرب إيران. ولاشك أن هذا الاحتمال يفرض عبئا ثقيلا على سلطنة عمان كوسيط يضطلع بدور مهم للحيلولة دون الوصول لهذا التصعيد، خاصة مع ضرورة الاعتراف بأن عمان ليست دولة عظمى وإنما دولة إقليمية لها دور محدود في فرض الحلول.
ومع ذلك ورغم كل التحديات يظل الدور العماني كوسيط مهما بحكم الخبرة التي اكتسبتها عبر سنوات ومواقف كثيرة من ممارستها هذا الدور. ومن المتوقع توسيع هذا الدور لممارسته في حل قضايا إقليمية أخرى خاصة في ظل الدعم الإقليمي والدولي وتثمينه لجهود الوساطة العمانية المتزنة.