اليمن ومخاطر الانقسام ضمن مخطط الشرق الأوسط الجديد
“جاهزون لمعركة طويلة الأمد” .. تصريح لوزير دفاع الحوثيين في حكومة صنعاء التي أكدت أن الضربات الأمريكية الموجهة لليمنيين لن تثنيهم عن دعمهم لشعب غزة والقضية الفلسطينية وأن العمليات اليمنية ضد إسرائيل سوف تستمر حتى تنهي عدوانها الغاشم على قطاع غزة. وهو ما أكده المتحدث العسكري العميد يحيى سريع باستمرار منع الملاحة الإسرائيلية في البحرين الأحمر والعربي “نصرةً للشعب الفلسطيني المظلوم ودعما لمقاومته”.
ضربات يمنية
وقد أبلى اليمنيون بلاء حسنا منذ بداية العدوان الصهيوني الغاشم على غزة وأبدوا دعمهم الواضح كأحد أهم محاور المقاومة للاحتلال وموقفهم المناصر للقضية الفلسطينية من خلال توجيه ضربات موجعة للكيان الصهيوني وحلفائه والقيام بعمليات بطولية أثارت تعاطفا كبيرا معها وتأييدا لها في الشارع العربي باعتبارها ردا على جرائم الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون في بلادهم.
لقد شن الحوثيون في اليمن هجمات متعددة ضد المحتل الإسرائيلي منذ بدأت حرب الإبادة في غزة عقب موقعة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023. وكان إطلاق الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة باتجاه الكيان الصهيوني من أهم الوسائل التي استخدمها اليمنيون لمقاومة الاحتلال وجرائمه. وقد نجح عدد منها في الوصول لأهدافه داخل إسرائيل، كما تم استهداف سفن إسرائيلية وأخرى متجهة لإسرائيل. ورغم ما تسببه هذه العمليات من تأثير سلبي على حركة الملاحة في تلك المنطقة الحيوية من العالم والمطلة على البحر الأحمر وتحول 70% من السفن التجارية إلى طريق بديل حول جنوب إفريقيا، إلا أنها أحدثت ضغوطا على الكيان الصهيوني وردود أفعال دولية تنادي بالتهدئة، خاصة بعد أن نجح الحوثيون في تنفيذ أكثر من 100 هجوم وإغراق سفينتين.
ورغم استعراض العضلات الأمريكية العسكرية ودعم الولايات المتحدة لحليفتها الصهيونية وإنفاقها ما يقرب من مليار دولار في حملاتها على اليمن، إلا أن اليمنيين نجحوا في العديد من العمليات العسكرية النوعية والموجعة منها إسقاط دفاعاتهم الجوية لطائرة مسيرة أمريكية من طراز “إم كيو 9” في أجواء محافظة مأرب بصاروخ محلي الصنع. كما نفذت القوات اليمنية عملية عسكرية استهدفت مطار بن جوريون وسط إسرائيل، بصاروخ باليستي من نوع “ذوالفقار. ووضعوا الولايات المتحدة الأمريكية في موقف محرج رغم جبروتها، وذلك باستهدافهم حاملة الطائرات الأمريكية “هاري ترومان” بعدد من الصواريخ الباليستية والمجنحة والمسيّرات.
ضربات وحشية وصمود يمني
وفي نفس الوقت أثارت الضربات اليمنية الموجعة غضبا أمريكيا وغربيا شديدا ليس خوفا على المصالح الاستراتيجية في المنطقة فقط، وإنما دفاعا عن حليفتهم الصهيونية، وهو ما ترتب عليه ردود أفعال ساخطة وعنيفة ضد اليمنيين في مختلف أرجاء البلاد.
لذلك يواجه اليمن حربا عدوانية شرسة من إسرائيل وحلفائها وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت بتوجيه ضربات قاتلة لليمنيين تجاوزت 300 ضربة مؤخرا خلال أيام قليلة وأغارت على مناطق مدنية أبادت فيها عائلات بوحشية لا تمت للإنسانية بصلة. ووصفت تقارير عسكرية أمريكية هذه الضربات بأنها ذات طابع استباقي أكثر منه دفاعي، وأن العمليات العسكرية بعهد ترامب أكثر شمولا من تلك التي كانت أيام بايدن.
وقد أثارت وحشية الحرب على اليمن انتقادات كبيرة على المستوى الإنساني حيث قالت نيكو جعفرنيا، الباحثة في شؤون اليمن في هيومن رايتس ووتش: أن الضربات الأمريكية هذه المرة أظهرت تساهلاً أكبر مع الخسائر المدنية مقارنةً بالعام الماضي وأضافت: “لقد دأبوا على قصف المناطق السكنية ليلًا بينما كان الناس في منازلهم، وفي حالة واحدة على الأقل، قُتلت عائلة مدنية بأكملها”.
يذكر أن القاذفات الاستراتيجية الأمريكية الشبحية “بي-2” استخدمت خلال العمليات القتالية ضد اليمنيين قنابل جوية موجهة ثقيلة مضادة للتحصينات من طراز GBU-57. وهي نوع من الذخائر المصممة لتخترق الأرض عند سقوطها إلى عمق يزيد عن 60 مترا، كما تخترق الخرسانة المسلحة بسمك 19 متر وتعد من أثقل القنابل غير النووية الأمريكية حيث تزن الواحدة 13.6 كيلو جرام ويتم توجيهها بالقصور الذاتي والأقمار الصناعية ويتم تحديثها بتركيب نظام توجيه بالليزر لتحسين الدقة، ومع ذلك فشل السلاح الأمريكي أكثر من مرة في تدمير مجمع صاروخي مُخبأ تحت الأرض أنشأه الحوثيون وذلك وفقا لما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال.
وقد بدأت العمليات الأمريكية ضد اليمن في عهد بايدن منذ 12 يناير 2024، وانتهت في الشهر نفسه من العام التالي قبل أن يستأنفها الرئيس ترامب في 15 مارس الماضي وذلك ردا على إعلان جماعة “أنصار الله”، في 12 مارس، دخول قرارها استئناف حظر مرور السفن الإسرائيلية عبر البحرين الأحمر والعربي وخليج عدن، حيز التنفيذ، مهددة باتخاذ خطوات تصعيدية أخرى ردا على منع إسرائيل دخول المساعدات إلى قطاع غزة، وذلك بعد انقضاء هدنة حددتها الجماعة لتل أبيب بـ 4 أيام لفتح المعابر إلى القطاع.
واتسع نطاق العمليات العسكرية الأمريكية في اليمن مع قدوم إدارة ترامب وتحولت القوات الأمريكية من قصف منصات انتقال الصواريخ والطائرات المسيَّرة إلى استهداف كبار القادة وإسقاط القنابل على المدن غير عابئة بأرواح الأبرياء الذين يتساقطون يوميا بلا ذنب.
ما يقرب من ألف غارة وقصف بحري أمريكي بريطاني لليمن أسقط عشرات الشهداء الأبرياء من المدنيين في تصعيد أمريكي شكل تهديدا خطيرا لمنطقة الشرق الأوسط يمتد تأثيره المباشر إلى حركة الملاحة الدولية في البحر الأحمر وكذلك لسلاسل التوريد العالمية، بينما لم تحقق الغارات الأمريكية أهدافها المرجوة من هذه الغارات.
ويتمتع حوثيو اليمن بقدرة التحمل العالية والقتال الشرس المدعوم بما يمتلكونه من معدات متقدمة أمكن تطويرها بشكل يمكن طائراتهم المسيرة من حمل حمولات أكبر والسفر لفترات أطول بكثير. ويرى خبراء أمريكيون عدم جدوى الضربات الأمريكية على اليمن منهم الخبيرة إليزابيث كيندال التي أكدت أن اليمنيين تعرضوا لعشرات الألاف من المرات للقصف الأمريكي خلال العقد الماضي دون أن يؤثر ذلك على صمودهم.
معاناة اليمنيين
يعيش اليمنيون أزمات متتابعة خلفت أوضاعا معقدة على مدار سنوات طويلة من الصراع السياسي على السلطة وعدم الاستقرار، كما انعكست الأوضاع الإقليمية الساخنة وحالة الحرب الدائرة في الشرق الأوسط سلبيا على جهود السلام المبذولة دوليا لإرساء الاستقرار وإعادة الأمن لليمنيين ما ساهم في تعميق آلامهم وأوجاعهم وزيادة ثقل متاعبهم.
كانت البداية مع ثورات الربيع العربي ووصول رياحها إلى اليمن عام 2011 حيث اشتعلت مظاهرات الغضب ضد نظام علي عبد الله صالح لكن الثورة لم تكتمل ولم تثمر عن أهدافها التي قامت من أجلها بسبب احتدام الصراع بين الفرق المنقسمة ما بين مؤيد ومعارض لانتفاضة اليمنيين سيما في ظل غياب قيادة ثورية تحظى بالقبول من الجميع.
بعدها ظهر الحوثيون على الساحة بالتوازي مع تنحي علي صالح وتولي عبد ربه هادي منصور وفقا للمبادرة الخليجية. لكن سرعان ما تطورت الأحداث بشكل دراماتيكي حتى نجحوا في الوصول لمقر الحكومة في صنعاء منتصف 2014 ومحاصرة هادي الذي لجأ إلى عدن جنوب البلاد مؤكداً شرعيته وأحقيته في الحكم من مسقط رأسه. ووقعت مصادمات بين الأطراف المتنازعة أسقطت حينها 270 شخصا.
وكشفت بيانات الأمم المتحدة أن النزاع على السلطة في اليمن منذ تلك الفترة تسبب في مقتل أكثر من 377 ألف شخص سواء بشكل مباشر أو بسبب توابع الحرب، إلى جانب حدوث أزمة إنسانية كبيرة بعد أن أصبح ما يقرب من 14 مليون يمنيا مهددين بخطر الموت جوعا.
لم يكن اليمنيون بحاجة إلى حرب جديدة فرضتها قوات التحالف الدولي بقيادة المملكة العربية السعودية والتي أطلقها التحالف في 26 مارس 2015 دعما للجيش اليمني واستعادة البلاد من الحوثيين بناء على طلب من الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، لاستعادة الشرعية في اليمن، وعرفت باسم عاصفة الحزم. وجاء ذلك بعد أن أصدر الحوثيون إعلانا دستوريا في فبراير 2015 ينص على عزل الرئيس هادي وتعطيل الدستور، وتشكيل المجلس الثوري أو الرئاسي.
وفي إبريل 2023، بدأت المحادثات للتوصل إلى تفاهم مع السعودية لوقف الحرب وفقا لتأكيدات عضو المكتب السياسي لجماعة أنصار الله الحوثية في اليمن محمد البخيتي. وبناء على ذلك كان من المفترض أن يرفع الحصار عن الشعب اليمني ليستعيد حقوقه ويتلقى موظفوه رواتبهم من عوائد النفط والغاز. ولكن اشتعال الوضع في المنطقة بسبب حرب غزة وانسحاب آثارها إلى الشعب اليمني خاصة مع إصراره على دعم القضية الفلسطينية ومناصرة أهل غزة، زادت الأزمة احتكاما. ونتيجة لذلك تعرض اليمنيون للضربات الأمريكية منذ مارس 2024 لتستمر المعاناة حتى اللحظة.
وتتجلى هذه المعاناة في صورة أرقام مخيفة كشفتها تقارير الأمم المتحدة المعنية بالشؤون الإنسانية والتي ذكرت أن هناك 19.5 مليون يمنيا بما يزيد عن نصف السكان يحتاجون إلى مساعدات إنسانية في عام 2025 بزيادة قدرها 1.3 مليون شخص عن عام 2024، إضافة إلى نزوح ما يقرب من 5 مليون شخص.
بدورها حذرت منظمة اليونيسيف من معاناة نصف أطفال اليمن دون الخامسة من سوء التغذية كما أن هناك 1.4 مليون امرأة حامل ومرضع يعانين من سوء التغذية أيضا. وأكد بيتر هوكينز ممثل اليونيسف في اليمن أن “نداءنا للتبرعات لعام 2025 تم تمويله بنسبة 25% فقط. وبدون موارد عاجلة، لن نتمكن من الحفاظ حتى على الحد الأدنى من الخدمات التي نستطيع تقديمها استجابة للاحتياجات المتزايدة”.
وساهمت الغارات الأمريكية الأخيرة في حدوث مزيد من تدهور الأوضاع ونقص مياه الشرب حيث نشرت جهات إعلامية يمنية أن هناك 50 ألف يمني محرومون من الماء بمحافظة الحديدة بسبب الغارات الأمريكية وقصفها خزان المياه الرئيسي الذي كان يغذي 8 بلدات بالمياه العذبة في منطقة المنصورية.
وتأكيدا على خطورة الوضع الإنساني في اليمن، حذرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من “عواقب كارثية على المدنيين جراء تصاعد العنف في اليمن”. وقال المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن هانس جروندبرج إن الحاجة إلى معالجة أزمة اليمن أصبحت أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.
كما قدمت مساعدة الأمين العام للشؤون الإنسانية ونائبة منسق الإغاثة في حالات الطوارئ، جويس مسويا إحاطة لأعضاء مجلس الأمن أعربت فيها عن القلق من زيادة الهجمات ضد البنية التحتية المدنية الحيوية التي يعتمد عليها ملايين الأشخاص في الكهرباء والحركة الآمنة واستيراد المواد الغذائية الأساسية والإمدادات الطبية.
هل من حل لأزمة اليمن؟
لاشك أن اليمن يشهد وضعا سياسيا معقدا بسبب تصارع الأطراف الداخلية على السلطة وانقسام اليمنيين حولها حيث توجد الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا في عدن وتحظى بدعم التحالف العربي، بينما توجد حكومة الحيثيين في صنعاء شمال اليمن. وإلى جانب ذلك يوجد طرف ثالث متمثل في المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يسعى لانفصال جنوب اليمن عن الوطن الأم.
بالنظر إلى هذا المشهد على الساحة اليمنية نرى مدى التعقيد والصعوبة التي تكتنف القضية اليمنية وتلقي بظلالها على حال اليمنيين وعمق معاناتهم. ومن المؤكد أن التدخلات الخارجية من قوى دولية وإقليمية أيضا تلعب دورا رئيسيا في إشعال الصراع بين اليمنيين ونشر الفرقة والانقسام بينهم لتحقيق أجندات خاصة بكل طرف بما يتوافق مع مصالحه.
وفي نفس الوقت نجد جهود السلام التي تبذلها الأمم المتحدة تتعثر ولا تحقق هدف الوصول إلى حل سياسي خاصة في ظل أجواء حرب مشتعلة في المنطقة وممارسات صهيونية إجرامية في حق الشعوب العربية ما يعقد الأمور ويؤخر تفعيل الحلول. وما يزيد الأمر تعقيدا هو التشابك الحادث بين توترات المنطقة واحتدام الصراع الداخلي في اليمن حيث يؤدي الأخير بدوره إلى تهديد استقرار المنطقة ويهدد بتفاقم الأوضاع إقليميا وخاصة في البحر الأحمر تلك المنطقة الحيوية من العالم.
إن ما يحدث في اليمن لا يمكن فصله عن المخطط الصهيوني الأمريكي المزعوم نحو شرق أوسط جديد حيث السعي إلى تقسيمه وتفتيت دوله لتيسير الاستيلاء عليه.
وفي هذا الإطار ينتظر اليمن أحد احتمالين إما الانخراط في حرب داخلية بين الأطراف المتنازعة يصعب التنبؤ بنتائجها وآثارها على المنطقة، وإما قبول الأطراف السياسية المتصارعة فكرة الجلوس على مائدة التفاوض إنقاذا للبلاد وقبول الحوثيين لمرجعيات الحل السياسي مع الخصوم السياسيين، وهو احتمال يبدو بعيدا مع زيادة شوكتهم كقوة إقليمية أثبتت تواجدها في المنطقة وتعبيرها عن استقلالية مواقفها وعدم التراجع عن دعمها للقضية الفلسطينية رغم قسوة الضربات التي تتلقاها من الولايات المتحدة وحلفائها.
وفي جميع الأحوال يستلزم الأمر من اليمنيين الحذر من المخططات التي تحاك للمنطقة مع إعادة النظر لقضيتهم في ضوء المصلحة العامة وأولوية الوطن على المنصب وهو أمر لن يحدث بسهولة في ظل وجود تأثير وتدخلات قوى خارجية.
لذلك يحتاج اليمنيون إلى وقفة عربية مخلصة وداعمة لبلادهم مع تقديم المعونات العاجلة وأوجه الدعم الإنساني المختلفة المطلوبة لعودة الحياة لطبيعتها وتمهيد الساحة لاستئناف عملية الانتقال السياسي بقيادة يمنية.