ليس في العالم دولة وجودها يثير المشاكل لمحيطها مثل إسرائيل، وإسرائيل هذه، لا يمكن أن تعيش من دون حروب؛ ولادتها تؤكد ذلك كما نشأتها. ولدت في حربين عالميتين؛ حُبل بها في الحرب العالمية الأولى، وولدت في الحرب العالمية الثانية، وليس لديها ما تظهره للعالم اليوم، غير عصبية لا نظير لها في الزمن المعاصر، مصحوبة بسيطرة اقتصادية عالمية، وذراع عسكرية مغرورة عمياء، لا تفرق بين عسكري ومدني، ولا بين “إرهابي” وبريء.
منذ 1948 وحروب إسرائيل مع جيرانها لم تتوقف، وقد تبقى متأججة إلى زمن لا أحد يعرف له نهاية. وعداء اليهودية مع العرب ما هو غير فصل من فصول عدائها مع شعوب ودول أخرى، دوّنها التاريخ عبر مراحل مختلفة؛ من سرجون الأكادي، وسنحاربب الآشوري، إلى الملك البابلي نبوخذ نصر، ومن الملك السلوقي انطيوخوس الرابع، الى الإمبراطور الروماني تيتوس، ومن الملك البريطاني جون في القرن الثالث عشر، الى أدولف هتلر في القرن العشرين، ومن مصر جمال عبد الناصر، إلى نظام الولي الفقيه في إيران، فهل يُعقل أن هذا السياق التاريخي المتواصل من معاداة اليهودية يعني أن تلك الدول والملوك والأباطرة، كانوا كلهم على خطأً، وأن اليهود وحدهم كانوا على حق، وأنهم “شعب الله المختار”، وأن على البشرية كلها أن تخضع لهم؟!
حين كنت أتردد إلى “زاوية الخطباء” في حديقة “هايد بارك”، في لندن، كنت أسمع اليهود يردُّون على الخطباء الفلسطينيين بالعبارة الإنكليزية Israel is here to stay، أي ” أن إسرائيل هنا لتبقى”. لم أفهم يومها ما تعنيه هذه العبارة حق الفهم، إلا بعد أن تقدم بي العمر، وقرأت في “سِفر التثنية” من “العهد القديم” ما جاء على لسان موسى لقومه:” آراميا تائها كان أبي”، عندها أدركت ما تعنيه إسرائيل لليهود، فهي “مكان اللجوء”، أو “الاستراحة الأخيرة” لليهودي التائه، وهم سوف يحاربون بسلاحهم وأسنانهم للحفاظ على هذه “الاستراحة”، بعد تاريخ طويل من التشتت والتيه والضياع. لكن لكل شيء ثمن كما يقال، وقضية فلسطين ليست استثناء، وما يراه اليهود أنه حق لهم، لا يراه آخرون، خصوصاً من يعتبرون أنفسهم أصحاب الأرض من الفلسطينيين، ومنهم بعض اليهود أنفسهم.
في العام 1955 وضع الحاخام اليهودي المناهض للصهيونية إلمر بيرغر، كتابه الشهير “إسرائيل باطل يجب أن يزول” وصدرت نسخته العربية في القاهرة بقلم إميل خليل بيدس. كان برغر من الذين تصدوا للفكر لصهيوني، وكرس عمله ووقته لمحاربة الصهيونية، وفضح ادعاءاتها، وتحذير اليهود من خرافاتها وأخطارها، معتبراً اليهودية ديناً لا قومية، ووضع كتاباً يحمل المعنى ذاته تحت عنوان “اليهودية دين وليست قومية”، كما وضع كتباً أخرى شرح فيها أفكاره ومواقفه السياسية. ولد إلمر برغر في مدينة “كليفلاند” من ولاية “أوهايو في العام 1906، ومن أعماله مساهمته في في تأسيس “المجلس الأميركي لليهودية” وتوليه قيادته، بهدف التصدي للدولة الصهيونية، على اعتبار أنها “كيان باطل، لا يمثل اليهود كلهم بأي معنى قومي أو سياسي”. زار بلمر بلدان الشرق الأوسط في العام 1955، وكتب رسالة من القدس وصف فيها البؤس الذي سببته الصهيونية وقال: «إسرائيل جعلتني أشعر شعوراً عميقاً مذلاً كيهودي”، وأصدرمنشورات ودوريات عدة، شرح فيها أفكاره المعادية للصهيونية. وبعد حرب 1967، قام بجولة في أوروبا الغربية، وألقى العديد من المحاضرات ضد السياسة الإسرائيلية، وأدلى بتصريح لصحيفة “نيويورك تايمز” قال فيه إن إسرائيل هي المعتدية، ما أثار سخط الصهاينة عليه في كل مكان، وأخذ أقطاب “المجلس الأميركي لليهودية” يضغطون عليه، فقدم استقالته عام 1967، وأنشأ منظمة سمّاها «البديل اليهودي الأميركي للصهيونية» واستمر ناشطا فيها إلى يوم وفاته سنة 1996.
اليوم تهّود إسرائيل الأمكنة القديمة في القدس القديمة، ويسعى حكامها المتطرفون إلى السيطرة على الضفة الغربية، وتغيير اسمها ليصبح “اليهودية والسامرة”، مع أن كبار المؤرخين في إسرائيل وغير إسرائيل، يؤكدون أن مفهوم اليهودية والسامرة، خرافة توراتية لا أساس لها، وينفون وجود “مملكة داوود” و “مملكة سليمان”، ومنهم من يعتبر العهد القديم “رواية إلهية” خاصة بتقاليد قبيلة من قبائل أرض كنعان، وبعض المؤرخين يعتبرها “رواية إلهية”، مثلها مثل “الكوميديا الإلهية ” للشاعر الإيطالي دانتي. مهما يكن، فإن حروب إسرائيل مع جيرانها قضت على فكرة أنها الملاذ الآمن لليهودي التائه، والحرب التي لا يزال أوارها مستعراً، دليل على ذلك، إذ فرضت على الملايين من سكانها الاحتماء بالملاجئ، وحملت مئات الألوف منهم للرحيل عن إسرائيل. هناك مثل جرماني قديم يقول: “العصبية تقتل نفسها في النهاية”، حقيقة تؤكدها حوادث التاريخ، والعصبية قد تكون دينية، أو عرقية، أو قومية متطرفة، وأسوأ مظاهرها حين يكون عمادها السلاح. إسرائيل تتباهى اليوم بترسانتها الحربية، وتستمر بالحروب، لكنها، عاجلاً أم آجلاً، سوف تقضي على نفسها.
لم يتمكن العرب من القضاء على إسرائيل، لأنهم ضعفاء، ومنقسمون على أنفسهم. أنظمتهم السياسية بالية ورجعية، وغالبيتهم كما الصهاينة، يستلهمون خرافات غيبية، ويخلطونها بالسياسة خلطاً غريباً، والعقلاء منهم مستبعدون عن صنع القرارات، ولا يملكون ما تملكه إسرائيل من تكنولوجيا، ومن سلاح جوي، وترسانة حربية مرتبطة بخطوط إمدادات عسكرية أميركية مهولة، ومدعومة من يمين غربي متطرف. مع ذلك فإن إسرائيل التي ولدت في الغرب، ستلقى حتفها على يد هذا الغرب نفسه، وقد يأتي من داخلها، لأنها شعب يفتقر إلى التجانس، ومنقسم على نفسه، وكل مملكة تنقسم على نفسها تخرب، كما جاء في المأثور الديني. أما المستوطنات التي زرعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، في الضفة الغربية، ومنها الحكومة الحالية على وجه الخصوص، وجهزتها بالسلاح ضد الفلسطينيين، ما هي إلا بركان سيأتي يوم وينفجر شغباً، يمتد لهيبه في طول البلاد وعرضها، كما النار في الهشيم. هذا من طبيعة الأمور، لأن غالبية المستوطنين أشبه بقبائل عبرانية تعيش خارج العصر، وتستلهم ماض مشبّع بالخرافات، عمرها من عمر الزمن الذي كتبت فيه التوراة وكتب فيه التلمود. هؤلاء سوف يشعلون حروباً داخل إسرائيل قد تؤدي إلى زعزعة كيانها، وربما إلى زوالها. لا أحد بمقدوره تحديد الفترة التي سوف يحدث فيها الشغب الذي يوّلد الحروب. قد يحدث بعد عشر سنين، أو بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة، لا أحد يعرف…. إن هذا حكم الزمن.