سلسلة “سيرة شاعر”
نضيء في هذه السلسلة على عدد من سيَر الشعراء العرب، الذين كان لهم أثرًا أدبيًا متمايزًا، تذكيرًا وتدليلًا على ما سطّروه من أمجادٍ مقفّاة مصاغة بالبلاغة الفنيّة .
«كأني غَداة البيْن يوم تحمّلوا/ لدى سَمُرات الحيّ ناقِفُ حَنظلِ..»
استحدث امرؤ القيس عادة الوقوف على الأطلال، “وقوفًا بها صحبي عليَّ مَطيّهم..” فالعربيّ المسكون بالترحال والذي كانت دياره خيمة يضربها في الأرض وحيث وجد ماءً وكلأً، كان مسكونًا بهاجس الحنين على الرّغم من شظف العيش:
“ترى بعر الآرام في عرصاتها/ وقيعانها كأنها حبّ فلفلِ” فهذه الديار التي كانت مأهولة غدت بعد رحيل أهلها مقفرة وسكنت بها الظباء، وهو طبعٌ من الوفاء للمنزلِ. تناقل الرواة معلقته الشهيرة “قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل” وهي من أولى المعلّقات “وأوّل ما عُلّق في الجاهلية شعر امرئ القيس، علّق على ركن من أركان الكعبة أيام الموسم حتى نظر إليه.. وكان ذلك فخرًا للعرب في الجاهلية..”.
كان الأوّل في تصنيف طبقات الشعراء وتكاثرت الأحاديث والقصص المروية عنه، حتى اختلط الحابل بالنابل، ومنهم من شكّ في وجوده أساسًا.. واختلفوا في حقيقة اسمه وتاريخ نشأته، إلّا أن ما ثبُت عنه هو: جندح بن حُجر بن الحارث الكندي المعروف بـامرئ القيس، ورَجّح منهم أنه وُلد في مطلع القرن الخامس الميلادي وعاش ما يقارب الأربعين عامًا، وهو من قبيلة كندة التابعة لمدينة نجد، من أصول يمنيّة، نشأ نشأة مترفة فكان أبوه “حجر” من سادة القوم.
عُرف بألقاب عدّة منها: أبي الحارث، أبي وهب الملك الضليل، ذو القروح (يقال أن جسده تقرّح من آثار الجدري) وامرؤ القيس (امرؤ من البسالة والقيس صنم من أصنام الجاهلية).
كان امرؤ القيس فصيح اللسان منذ الصغر، وكانت والدته فاطمة بنت ربيعة التغلبية أخت كليب والمهلهل “الزير سالم” ويُذكر أنه تعلم منه الشعر، خالط الصعاليك وتغزّل بالمرأة ما اتّسع له المقام، وعلى قدر ما كانت موهبته الشعرية فذّة وناضجة على قدر ما استخدمها في سرد أسلوب حياته اللاهي.
عاش رحالا عابثًا محبًا للهو والشراب والنساء. وكانت شخصيته لا تتوافق مع طبائع والده فأرسله لرعي المواشي ليجعله يكدّ في مسلكه وهو ما لم يمنعه من الاستمرار في قول الشعر، حتى استبعده عن القبيلة إلى حضرموت بين أعمامه وبني قومه فكان يهيم في القفار رفقة أصحابه ويغير على القبائل الصغيرة لسلب متاعها.
بين اللهو والغلو..
اشتهر شعره بالإباحية، وكان العرب حينها على ضعف شأنهم وشتات أمرهم، يُجمعون على احترام الأعراض حتى أنّ الشاعر الذي يُشبّب ببنات القبيلة يُعاقب بالنفيّ، فكيف بشاعر مترف مدلّل ابنُ ملك، استباح المحظور في سرد غرامياته، ولم يراعِ في ذلك حرمة مرضعٍ أو حامل، ولا خدر عذراء، إلاّ وقضى عندها وطره. مقترفًا الكثير من الفواحش: ” وبيضة خدر لا يُرام خباؤها/ تمتعتُ من لهوٍ بها غير معجّل/ تجاوزت أحراسا لديها ومعشرا..”
“ورضت فذلت صعبة أيّ إذلال/ فأصبحت معشوقا وأصبح بعلها/ عليه القتام سيّء الظن والبال/ يغط غطيط البكر شدّ خناقه..”
تجاوز الشاعر هنا الحرُمات فاستباح فراش امرأة متزوجة وبعلها يغطّ في نومه. كان يفخر بمعاشرة النساء، ويُشهّر بإنجازاته الجنسيّة وكأنه كازانوفا زمانه، وقد أكثر من حكي التفاصيل بأسلوب يخالف فيه التقاليد والأعراف، بلغة مسبوكة وألفاظ متماسكة وغير مطروقة، وذهب بعض النقاد معللًا أنّه كان على دين مزدك وهي ديانة وثنية فارسية كانت تأمر باتّباع الشهوات والغرف من اللذات؟! وهي محاولة لغضّ الطرف عن الجانب الأخلاقي من شعره ما أمكن، حتى يتسنى لهم التمعن بجودة الألفاظ وعراقتها وقوّة الصورة الشعريّة وفرادتها، وهو ما لا يمكن تجاوزه؟!
يقال أنه كان عاشقًا لـفاطمة بنت العبيد الأعرابية ويقال أنها ابنة عمه ويقال أنها “عُنيزة” التي ذكرها في معلّقته: “أفاطم مهلا كل هذا التدلّل/ وإن كنتِ أزمعت صرمي فأجملي/ وإن تك قد ساءتك مني خليقةٌ/ فسلي ثيابي من ثيابك تنسل”
ومن السيَر التي تُروى عنه، حادثة يوم الغدير، يوم دارة جلجل، حيث كمن لنسوة وردن الغدير وفيهن عُنيزة، وتجردن من لباسهن لينزلن فيه، فأتاهن امرؤ القيس على غفلة فأخذ ثيابهن، جمعها وقعد عليها: وقال لهن: لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو ظلّت في الغدير يومها حتى تخرج متجردة فتأخذ ثوبها! فأبين ذلك حتى تعالى النهار وخشين أن يقصرن عن المنزل فخرجن مضطرات حتى آخرهن عنيزة، فكن يأتينه مقبلات ومدبرات. فقلن له: عذبتنا وحبستنا وأجعتنا.. فنحر لهن ناقته وأطعمهن: “ويوم عقرت للعذارى مَطيّتي/ فيا عجبا من كورها المتحمّل/ فظلّ العذارى يرتمين بلحمها/ وشحمٍ كهُدّاب الدّمقس المفتّل..”
الملك الضالّ
توارث حجر (والد امرؤ القيس) السيادة عن آبائه على قبيلة بني أسد، ومما يُقال أن حجرًا هذا كان طاغيّة كثير التجبر والظلم ، وفي حادثة يُقال فيها أنّ بني أسد ثاروا عليه ورفضوا دفع الإتاوة التي كان يفرضها عليهم، فجمع سادتهم وضربهم بالعصا فقيل عنهم “عبيد العصا”، استباح أموالهم وطردهم من ديارهم فأورث في قلوبهم الحقد عليه.
قُتل حجر على يد بني قومه، وأصبح على المشرّد اللاهي أن يأخذ بثأره فقيل أن الخبر وصله وهو في مجلس لهوٍ في اليمن، فقال مقولته الشهيرة: ” ضيعني أبي صغيرا، وحمّلني دمه كبير، لا صحوَ اليوم ولا سكر غدا. اليوم خمرٌ وغدا أمر”.
ونُسب إليه، إنشاده: “تطاول الليل علينا دمون/ إنا معشر يمانون/ وإنّا لأهلنا محبون”
وشدّ الرحال باحثا عن أنصار له ولكنه لم يكن رجل سياسة وهو الابن المدلّل والشاعر العابث، لا خبرة له ولا دراية بعالم بالسياسة وشؤونها، لبس رداء الحرب، منقادا لطبعه المتهوّر، هجم على بني أسد وقتل منهم مقتلة عظيمة، ورفض أي طريق للصلح حتى انفضّ عنه مناصروه، أرادها حربا مستمرة، ويبدو أنه كان مغترًا بصليل السيوف منتشيًا بمشاهد القتل والسفك متماهيًا في مكان ما مع صورة والده الطاغية: “الحرب أوّل ما تكون فُتيّة/ تسعى بزينتها لكلّ جهول/ حتى إذا استعرّت وشبّ ضِرامها/ عادت عجوزا غير ذات خليل”
قصد القسطنطينية طالبًا نجدة قيصر الروم، وتوفي وهو في طريق عودته ويُقال أنه توفي بعدما امتلأ جسده بالقروح من آثار الجدري، من ذلك سمي بــ”ذي القروح”، ويُقال مسمومًا بالسترة التي أهداه إياها الملك بعدما وصله خبر مفاده أن امرؤ القيس تغزّل بإحدى بناته.
ليل امرؤ القيس
عاش امرؤ القيس حياة الترحال بين البراري والقفار في صحراء الجزيرة العربية، أمضى النصف الأول من عمره القصير ماجنا لاهيا يجدّ في طلب الخمرة والنساء، وفي النصف الثاني من عمره طالبًا للثأر. فكانت علاقته مع الليل علاقة يشوبها التضجّر، والحزن الكثيف، يبثُه أنواع الشكوى والهموم، وشبهه بالموج “لأن الظلمة تجيء دفعة واحدة وفورة فورة أوّل الليل” ناقلًا حركة النفس المتألمة من جثوم الليل الطويل على صدره في النجوم المشدودة التي لا تكاد تتحرك عن موضعها: “وليل كموج البحر أرخى سدوله/ عليّ بأنواع الهموم ليبتلي/ فيا لك من ليل كأنّ نجومه/ بكلّ مغارٍ الفتل شدّت بيذبل” ويذبل هو جبل في نجد يطل على مضارب بني أسد. ” وجسّده مستعيرًا من حركة الإبل البطيئة والمُتثاقلة مفردات الملالة في الحراك: “فقلت له لما تمطّى بصلبه/ وأردف أعجازا وناء بكلكل/ ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي/ بصبحٍ وما الإصباحُ منك بأمثل”.
أسقط امرؤ القيس على الليل همومه، وهو الذي يوحي أسلوب حياته اللاهي بالخلوّ، يؤسطر حالاته الفنية وفي ذلك تعبير عن عقدة كامنة في عمقه لعل قوامها التماهي مع صورة الذكورة التي رفضها الأب، كان متمردا على الرياسة بمصاحبة الصعاليك ومخالفة الأعراف والتقاليد، وعلى الصرامة والحدّة باللهو والمجون والجدّ في ملاحقة النساء وطلب وصالهن. فهل كان يغطي نقصه بذكر مآثره هذه، لاستهانة والده به، وعدم اعترافه بتفوقه الشعريّ، بل ونفيه له. حتى نجد أنه عندما وصله خبر مقتله لم يجزع وأكمل مجلسه، وفي اليوم التالي طوى صفحة من حياته ليبدأ مرحلة إثبات رجولته وأنه أهلٌ للحكم ولطلب الثأر.
ذكر الكثير من الأماكن في شعره والجبال وهو ما يحمل دلالة تنقّله في البلاد وقدرته على الحفظ والتذكر، وهو من علامات الذكاء والفطنة والتي لم يكن له في السياسة حظّ منها.