قلق غربي غير مسبوق من سقوط القارة السوداء في يد تحالف روسيا والصين
انتقل الحدث الدولي إلى أفريقيا. بدا أن الصراع الذي قد يحسم التوازنات الدولية انتقل من أوكرانيا وراح باتجاه النيجر. وأن ما هو مكتوم في صراع الأمم، لا سيما بين الغرب من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، وجد له ميدانا صارخا واضحا للتنافر وتصفية الحسابات. فإذا ما كان خبراء الجيوستراتيجيا يعتبرون أن أفريقيا هي مستقبل العالم، فهذا يعني أن من يخسر أفريقيا يخسر مكانته داخل مستقبل هذا العالم.
والقصة في النيجر هي جزء من مسلسل شهدته القارة السوداء في السنوات الأخيرة يكشف عن ضربات متتالية تلقتها باريس داخل مناطق نفوذها الاستعماري التقليدي القديم. تخسر فرنسا نفوذها في أفريقيا. كانت قد استشعرت هذا
المصير منذ سنوات، وخصوصا في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولند. وحين لاح حينها أن تنظيم القاعدة ودوائره المحيطة باتت تهدد نظام الحكم في مالي، أطلقت باريس أوائل آب (أغسطس) 2014 عملية “برخان” العسكرية تحت عنوان “محاربة الإرهاب”.
ورطة فرنسا
كان لافتاً أن فرنسا لم تجد الدعم الكافي من واشنطن والحلفاء في أوروبا. كان يبدو أن باريس تريد أن تخوض المعركة لوحدها تجنباً لمنافسة تأتي من الحلفاء بمناسبة مشاركتهم في عملية عسكرية تفتح في نفس الوقت الطريق لاختراق احتكار فرنسا لنفوذها على مستعمراتها السابقة. وحين أدركت باريس أن المعركة ضد الجماعات الإرهابية قاسية معقّدة لها امتدادات جيوستراتيجية لم تكن في الحسبان، بدا أيضا أن داخل المعسكر الغربي من يريد لفرنسا أن تدبّر لوحدها ورطتها في الوحول الأفريقية. فكان أن أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 انتهاء عملية “برخان” بعد 8 سنوات من إطلاقها.
اكتشفت باريس (وحلفاؤها أيضا) أن الجماعات الإرهابية، سواء كانت تعمل لحسابها أو لحساب الآخرين، هي أداة ناجعة لمكافحة الوجود العسكري الفرنسي من جهة ومكافحة النفوذ الفرنسي في دول المنطقة من جهة ثانية ومكافحة التمدد الغربي في القارة السمراء من جهة ثالثة. وقد لا يبتعد هذا السياق عن منافسة كل من روسيا والصين للنفوذ الغربي في أفريقيا وقيامهما بغزو قلوب الأفارقة بالايديولوجيا والعسكر والمال.
سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتضييق هوة توسّعت بين فرنسا وحلفائها في أفريقيا. جال الرجل في دول المنطقة مروّجا لفرنسا جديدة غير استعمارية، مشجعا للديمقراطية وحقوق الإنسان، ساعياً إلى تبرئة بلاده من آثام تعاني منها بلدان المنطقة. رعى في مدينة مونبيليه الفرنسية في تشرين الأول (اكتوبر) 2021 مؤتمرا للشباب الأفارقة والنخب الجامعية الذين تحاوروا معه حول السيادة واستقلال قارتهم والتوق إلى بناء دول تتمتع بحرية كاملة غير تابعة للخارج تزدهر داخلها شروط الحداثة وحرفة التداول السلمي للسلطة.
وسواء تغيّر أسلوب فرنسا من دون أن تتغير أهداف شركاتها لاستغلال مناجم اليورانيوم (توفّر النيجر 25 بالمئة من حاجة أوروبا من اليورانيوم، وهي الموّرد الثالث لفرنسا)، أم أن باريس كانت تتطلع إلى تحديث سياساتها الأفريقية من خلال دعم ترشيق الأنظمة السياسية في أفريقيا، فإن الأمر لم يُصدقه الأفارقة وإن عوّلوا عليه لإحداث التغيير في
بلادهم. لكن الأكيد أن الأمر لم يرقْ للأنظمة الحاكمة حتى تلك الصديقة لباريس.
حراك الأفارقة
في الأيام الأولى لانقلاب النيجر تمّ على وسائط التواصل الاجتماعي تداول فيديو لماكرون في آخر نوفمبر 2017 يقف بحضور رئيس بوركينا فاسو الاسبق روك كابوريا ويردّ على سؤال يطالب فرنسا بتزويد البلاد بالكهرباء. دافع ماكرون عن موقف بلاده لجهة مغادرتها حقبة الاستعمار، معتبراً أن مشاكل الكهرباء في بوركينا فاسو باتت من مسؤولية رئيسها. فكان أن ابتسم الرئيس الأفريقي متفاجئا، ثم غادر ممتعضا، وسط ذهول ضيفه الذي كان يعلّق على الواقعة بتهكم ومزاح.
تريد نخب أفريقيا الشابة والمتعلمة تخليص بلادها من هذه العلاقة المرضية مع المستعمر القديم. تتحمل فرنسا وغيرها مسؤولية النهل من خيرات دول أفريقيا، لكن مسؤولية الفقر والعوز وتنامي معدلات الهجرة هي مسؤولية أنظمة الاستقلال التي ورثت زوال الاستعمار في فترة 1960-1970. لم يعرف عن هذه الأنظمة إلا النزوع إلى الديكتاتورية والاستحواذ على السلطة والثروة والعمل وفق منظومة فساد فاقمت من مشاعر اليأس لدى شعوب المنطقة منذ عقود.
والمفارقة أن الطبقة العسكرية التي أطاحت بالمدنيين واستولت على السلطة في بوركينا فاسو (كانون الثاني/ يناير 2022) ومالي (أيار / مايو 2021) وغينيا (أيلول / سبتمبر 2021) والنيجر (تموز / يوليو 2023) هي من صلب الأنظمة السياسية التي حكمت البلاد منذ استقلالها.
والمفارقة الأخرى أنها استولت على السلطة تحت شعار شعبوي يسهل من خلاله جذب العامة ومصادرة مطلبها بالتخلص من الاستعمار القديم-الجديد المتمثل في فرنسا فسهل عليها تسيير المظاهرات الشعبية الكارهة لفرنسا.
والمفارقة الثالثة أن مصارعة فرنسا تأتي من خلال الانخراط في الصراع الدولي ونقل تلك الدول إلى المعسكر المقابل الذي توفّره روسيا والصين في أفريقيا، بحيث رفعت المظاهرات المؤيدة للانقلاب ضد الرئيس المنتخب محمد بازوم في نيامي أعلام روسيا من دون خجل أو وجل. حتى أن بازوم في مقاله في تموز (يوليو) الماضي في الواشنطن بوست حذر من “أن تقع منطقة الساحل الوسطى بأكملها في يد النفوذ الروسي”.
واشنطن والنيجر
لا تمثّل حلقة الانقلاب في النيجر في 26 تموز (يوليو) الماضي مساراً ضد فرنسا وحدها. كانت أوروبا والحلف الأطلسي قد تنبهت لـ “جبهة أفريقيا” بصفتها الحدود الجنوبية للناتو بعد أن اكتشف مؤخراً حدودا له في آسيا مقابل الصين في منطقة الاندو-باسيفيك. يتواجد في النيجر حضور عسكري لفرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة (ضمن تحالف لمكافحة الإرهاب) وهذا ما يجعل من الحدث في هذا البلد تحدياً للغرب ولمنظومته الجيوستراتيجية وليس تحديا لفرنسا وحدها. وما جرى ضد الرئيس بازوم في النيجر قد لا يكون نهاية حقبة لفرنسا بل بداية حقبة مفصلية في صراع الكبار على النفوذ في القارة السوداء.
للصراع الغربي ضد الصين وروسيا امتدادات في أفريقيا. هكذا بدأت باريس وواشنطن وعواصم الغرب الكبرى تقيس الأمور. تلقت فرنسا صفعة جديدة اهتزت لها وجوه الحلفاء أيضا. بدا أن ردّ الفعل وجب أن يتجاوز النسخة المنفعلة الغاضبة التي أظهرتها باريس، وأن على المقاربة أن تكون أكثر حصافة لمواجهة “النكسة الأفريقية” بأدوات أفريقية أولا، (تحرك دول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا-ايكواس) وأدوات أممية مدافعة عن الديمقراطية في العالم تالياً، قبل اللجوء إلى أدوات خشنة أوسع ربما تكون من ضرورات المرحلة.
عجلت الولايات المتحدة، بعد أيام من الانقلاب، بإرسال الدبلوماسية الرفيعة فيكتوريا نولاند، وعلى نحو غير متوقع، باتجاه النيجر. كشف الحدث الأهمية التي توليها إدارة الرئيس جو بايدن للنيجر داخل خريطة أجندة الولايات المتحدة في أفريقيا، والسعيّ إلى انتهاج مقاربة عاجلة ونوعية تكون بديلا عن التهويل الذي صدر عن فرنسا والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ايكواس) أو رديفاً له. وبدا واضحاً أن واشنطن لا تريد أن تخسر نيامي.
ولطالما تشرف نولاند، نائبة وزير الخارجية الأميركية بالوكالة للشؤون السياسية، على ملفات ساخنة في العالم. وقد قامت في آخر أنشطتها قبل ذلك بالمشاركة في اجتماع جدة حول أوكرانيا من ضمن وفد بلادها. ولئن صاحب نولاند إلى النيجر تصريح لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يؤكد ضرورة استعادة العملية السياسية الدستورية وعودة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى السلطة، لكن وصولها إلى النيجر وجه رسالة إلى الانقلابين بالمستوى السياسي الذي قررته واشنطن لمخاطبتهم والتعامل مع أزمة بلدهم.
لم ترسل واشنطن موظفا عاديا أو سفيرا في وزارة الخارجية على ما درجت عليه لمعالجة أزمات كبرى مثل ليبيا واليمن وغيرها. ارتأت، بناء على قراءة مكثّفة لمؤسسات القرار المختصة في الأمن والدفاع والدبلوماسية، التعامل مع القضية على نحو مختلف. وظهر أن للولايات المتحدة منذ بدء الانقلاب موقفا مختلفا ملتبسا غامضا في التعامل مع الحدث لجهة عدم استخدام كلمة انقلاب وانقلابيين ولجهة أخذ مسافة من الخطاب العسكريتاري الذي صدر عن مجموعة ايكواس ودول أفريقية أخرى في 30 تموز (يوليو) الماضي والذي قوبل بدعم وتأييد فرنسيين.
منع تمدد روسيا
استنتجت واشنطن أن لاشيء يمنع من انتقال عدوى مالي وبوركينا فاسو الحدوديتين إلى النيجر لجهة الانتقال الحاد باتجاه معسكر روسيا تحت جناح مجموعة فاغنر. استنتجت أن خطاب الانقلابيين بقي عدائيا ضد فرنسا وحدها وليس ضد الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وأنه رغم تردد أنباء بشأن اتصالات جرت بين الانقلابيين والمجموعة الأمنية الروسية، ورغم حمل المتظاهرين الداعمين للانقلاب الأعلام الروسية في نيامي، إلا أن الخطاب الرسمي للانقلابيين لم يُدلِ، حينها، رسميا بمواقف محابية لروسيا أو منحازة إليها.
وبرغم مواقف واشنطن المندّدة بالانقلاب والمعلّقة لقسم من المساعدات الأميركية للنيجر، فإنها أبقت على المساعدات الإنسانية وذهبت من خلال إرسال نولاند بالذات إلى التلويح بأنها “لاتريد قتل الناطور بل أكل العنب”. بمعنى آخر، فإن واشنطن أرادت الإيحاء يإمكانات التوصل إلى تسويات مع الانقلابيين بغية إبقاء النيجر داخل منطقة النفوذ الغربي ومنع انزلاقه باتجاه ما ذهبت إليه مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى وغينيا وغيرها في لعبة دومينو تتساقط أحجارها واحدا بعد آخر.
وإذا ما لاح من زيارة نولاند إلى الانقلابيين في النيجر اعتراف بهم والتعامل معهم شريكا للحلّ، وإذا ما أرسلت هذه المقاربة علامات مرونة قد تفُهم تودداً أو ضعفا في لهجة الولايات المتحدة في التعامل مع محرم الانقلابات العسكرية في القوانين الأميركية، فإن زيارة موفدة أميركية على هذا المستوى توحي أيضا أن الأمر جلل ويستحق المحاولة بالسبل الدبلوماسية حتى الرمق الأخير، وأن فشل الأمر لا يترك لواشنطن خيارات غير دعم تلك العسكرية التي تصدر في أفريقيا وربما الانخراط المباشر بها.
ردد الفرنسيون أن انقلاب النيجر هو القطرة التي أفاضت الكأس. هذا تماما ما يفسّر كل هذا الغضب وردود الفعل الأفريقية والدولية الاستثنائية ضد الانقلاب في النيجر التي لم يكن لها مثيل ضد سلسلة الانقلابات السابقة التي حدثت في المنطقة وحتى تلك التي حدثت في النيجر نفسها منذ الاستقلال عام 1961. ومن يراقب موقف روسيا من الانقلاب لجهة الدعوة إلى عودة الحياة الدستورية، يكشف، رغم الجانب الذي قد يكون مخادعاً، قناعة موسكو أن حدث النيجر لن يمر كما مرت انقلابات الساحل الافريقي، وأن الانقلاب، وإن انطلق لأسباب داخلية، لم يمسّ نفوذ فرنسا فقط بل أيقظ كل المنظومة الغربية على خطر بات داهماً ينذر بسقوط القارة السمراء في حضن روسيا والصين.
البحث عن تسوية
قد يبدو أن واشنطن أرسلت نولاند استجابة لنداء بازوم في مقاله في الواشنطن بوست. وفيما تؤكد بعض التحليلات الغربية أن الانقلابيين لم يدركوا خطورة ما فعلوا وما يعبثون به في خرائط المصالح الكبرى، فإن صعوبة اجتماعات نولاند مع الانقلابيين، على حد قولها، وتعذر لقائها بقائد الانقلاب الجنرال عبد الرحمن تشياني يوحي أيضا أنه بات لدى الانقلابيين، من خلال كمية ونوعية الاتصالات الأفريقية والدولية التي جرت معهم، معطيات تؤكد أهمية حركتهم ودورهم في تحديد مستقبل النيجر وهوية البلد الجيوستراتيجية داخل المشهدين الأفريقي والعالمي، وبالتالي قناعتهم بالقدرة على انتزاع مكتسبات ومصالح تجعل منهم رقما صعبا إذا لم يكونوا الرقم الوحيد لتحديد مسار ومصير النيجر وموقعها في العالم.
ويفسر الأمر مضي الانقلابيين في إصدار تعيينات عسكرية وسياسية، بما في ذلك تعيين علي الأمين زين رئيسا للوزراء، ورفض استقبال وفد الوساطة الثلاثي (ايكواس، الاتحاد الأفريقي، الأمم المتحدة)، ناهيك من ارتفاع خطاب شعبوي يَعِدُ بمواجهة الأعداء والإضاءة على استعدادات العسكرية للمعركة. ومع ذلك يعرف الانقلابيون أن بلدهم هو
من الأفقر في العالم ويعيش على المساعدات الدولية التي تقرر قطعها، وأن جيشهم سيكون ضعيفا أمام قوات ايكواس التي سبق لها أن تدخلت في ليبيريا وسيراليون وغامبيا، خصوصا إذا ما حظيت بدعم غربي أطلسي واسع النطاق.
عقدت نولاند “مباحثات صعبة” مع الجنرال موسى صلاح بارمو الذي عيّنته إدارة المجلس العسكري “رئيسًا للأركان العامة”، و 3 مسؤولين عسكريين آخرين. ولطالما اعتبر بارمو حليفاً للجيش الأميركي منذ عقود. فقد أرسلته الولايات المتحدة قبل سنوات إلى جامعة الدفاع الوطني المرموقة في واشنطن العاصمة من أجل التدرب. وفي هذا ما يشي بأن للولايات المتحدة آذانا تصغي داخل فريق الانقلاب.
وإذا ما يكشف الدفع بنولاند صوب النيجر مستوى مصالح الولايات المتحدة في أفريقيا، فإن كثيراً من المبادئ المتعلقة باحترام الديمقراطية، والتي ما فتأت إدارة بايدن تؤكد التمسّك بها وجعلها شرطاً لتعاملات واشنطن الدولية، قد ينظر إليها بعين نسبوية أخرى فداء لمصالح باتت في النيجر والجوار داهمة شديدة الأهمية على المستوى الاستراتيجي العام. قالت نولاند للانقلابيين إياكم وروسيا و “فاغنرها” وتعالوا نتكلم. هذا تماما ما يسمى في علم السياسة: “أكل العنب”.
أفريقيا المتمردة
لا تعبّر انقلابات النيجر ومالي وبوركينا فاسو وغيرها عن توترات ثنائية مع فرنسا بقدر ما تكشف تحوّلاً تاريخياً يطال كل القارة الإفريقية. صحيح أن هذه البلدان تنتفض لأسباب وحسابات داخلية لترتيب العلاقة مع المستعمر القديم، لكن حقيقة الأمر تتعلق بتوق هذه البلدان كما بلدان القارة للخروج من حقبة الحصرية والاستقطاب في العلاقة مع العالم إلى قواعد التنوّع والاختلاف والتعدد. بالمقابل يكتشف العالم على نحو متصاعد الأهمية الجيوستراتيجية لأفريقيا.
تدقّ كل العواصم الأوروبية أبواب المنطقة. زارها وزراء الصين والولايات المتحدة وروسيا، واستعجل الرئيس الأميركي جو بايدن قمة أميركية إفريقية في كانون الأول (ديسمبر) الماضي لها ما بعدها. وإذا ما كان أصحاب النفوذ الكبار يخطبون ودّ الأفارقة، فإن الأفارقة أنفسهم يكتشفون قيمة مواقع بلدانهم وثرواتها ويستنتجون أيضاً قدرات لديهم كانت محدودة سابقاً في اللعب على التناقضات والتحرّك داخل هامش بات رحباً بين واشنطن وباريس وروما وبرلين، وبات مغرياً بين الغرب من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى.
مثال مالي قبل النيجر صارخ في القفز بحدّة وحسم من مركب فرنسا إلى مركب روسيا. نكاد نقول إن السلطة الجديدة في باماكو التي يقودها مجلس عسكري بقيادة العقيد أسيمي غويتا بعد انقلاب أيار (مايو) 2021 قد “طردت” القوات الفرنسية من مالي ودفعت الرئيس الفرنسي ماكرون نفسه أن يعلن إنهاء مهمة قوة “برخان” في المنطقة. بيد أن مثال بوركينا فاسو بالمقابل هو نموذج من نوع آخر لا يتّسم بالعنف والجلافة التي استخدمتها باماكو مع باريس. فالمجلس العسكري في واغادوغو، الذي سبق أن عين إبراهيم تراوري في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي رئيساً انتقالياً، أنهى في 23 كانون الثاني (يناير) اتفاقا مع فرنسا كان أبرم عام 1918، وأعلن ذلك بالتوقيت المنصوص (مهلة شهر) عليه داخل “العقد”، ويوحي بأن هذا “الهجر” مناسبة لتصويب علاقات البلدين وتطويرها لا التخلي عنها.
طبعاً لمالي ظروف تاريخية مرتبطة بعلاقات عريقة كان البلد ينسجها مع الاتحاد السوفييتي في زمن الحرب الباردة. فإذا ما خرجت التظاهرات في مالي تندد بفرنسا وترحب بروسيا فذلك، على الرغم من تورط السلطة بتحريك الشارع، ينهل من مشاعر متجذّرة في الوعيّ الجمعي العام ضد المستعمر القديم يسهل تحريكها. وإذا ما تنهل سلطة بوركينا فاسو من نفس النبع موقفها الجديد حيال فرنسا، فهي تستعد لتموضع آخر ينهي حصرية العلاقة مع باريس والانفتاح على خيارات إضافية لا بديلة.
الخلاص من الغرب
لم تعد أفريقيا تحتمل وجوداً عسكرياً استعمارياً قديماً – جديداً على أراضيها. فحتى النيجر كانت متمسكة بعلاقات متقدمة مع فرنسا ضاقت باستضافة أعداد جديدة من الجنود الفرنسيين المغادرين لبوركينا فاسو. وكان لبّ التناقض في علاقات فرنسا الجيدة مع النيجر برئاسة محمد بازوم هو استمرار اعتماد النيجر على السلاح الروسي منذ عقود، وذهابها إلى شراء المسيّرات من تركيا. بمعنى آخر فإنه كان على باريس وغيرها من الحلفاء الغربيين أن تجيد التعامل مع براغماتية إفريقية تنهي حقبة وتقتحم حقبة مربكة لبلادة العقل الاستعماري القديم.
لا تبتعد الحرب في أوكرانيا عن التحولات في أفريقيا. أفصحت دول القارة في مواقفها وفي خيارات التصويت داخل الأمم المتحدة بشأن أوكرانيا أنها لم تعد منطقة نفوذ غربية وإن لم تقفز للانزلاق تحت مظلات روسيا والصين. ولا يختلف حال أفريقيا عن حال مناطق عديدة في العالم من مجموعة الـ “أوبك+” إلى مجموعة البريكس وغيرها من بلدان العالم التي اختارت وسطية وحياداً وحذراً في التعامل مع الصراع الغربي-الروسي في أوروبا. وعلى هذا فإن تحوّلات أفريقيا صارخة تتيح التنبؤ بنظام دولي آخر قد لا يكون جديداً بقدر ما سيفرض قواعد وشروطاً أخرى في العلاقات الدولية والمحاصصة داخلها.
ولا يمكن استنتاج الدينامية الإفريقية الجديدة من دون الاعتراف بأنها تأثّرت أيضاً بسياسات الصين التي اخترقت القارة من خلال القوة الناعمة والاستثمارات السخيّة على مدى العقود الأخيرة. تأثّرت أيضاَ بتجاهل الغرب حيناَ وبسوء سلوكه تارة أخرى. وتأثّرت خصوصاً باستراتيجية روسيا لتطوير علاقاتها مع دول القارة وازدهار نشاط مجموعة “فاغنر” داخلها، علماً أن المجموعة التي توصف بالخاصة هي ذراع تحظى بدعم روسي داخلي يمهد كثيراً من الظروف لإبرام اتفاقات سياسية واقتصادية وعسكرية بين موسكو ودول إفريقية. وتفضح المناورات العسكرية بين جنوب أفريقيا والصين وروسيا في شباط (فبراير) الماضي مستوى الاختراق الذي تحقق جنوب مناطق نفوذ الناتو.
يتدافع وزراء الدول الكبرى على رسم الخرائط الجيوستراتيجية الجديدة في أفريقيا ما يحضر القارة إلى واجهات جديدة للصراع الدولي العام. يكتشف حلف شمال الأطلسي في قمة حزيران _يونيو) 2022 أن القارة السمراء تقع جنوب ميدان نفوذ الناتو في العالم. ويكتشف أن أمن أفريقيا في مسائل الإرهاب والهجرة غير الشرعية وانتشار النفوذ العسكري الروسي الصيني يشكّل تحدياً مباشراً لم يكن أولوياً قبل ذلك داخل عقائد الحلف واستراتيجياته. يكتشف الناتو أيضاً الأهمية الاستراتيجية الكبرى لموريتانيا (التي دعيت لحضور تلك القمة) كشريك أساسي بإمكان الناتو أن يجعله أساسياً في إدارة الصراع بين الغرب وخصومه في أفريقيا.
تقرأ فرنسا جيداً ما استجد وكان مفاجئاً في خرائط نفوذها التاريخي في أفريقيا لا سيما لدى “مجموعة دول الساحل الخمس”: مالي، بوركينا فاسو، تشاد، النيجر، موريتانيا. وتبدو باريس متلعثمة في تفسير هذا الفشل. تغرف بعض التبريرات من موقف غربي، أميركي خصوصاً، لم يقدم العون اللازم لرفد قوة “برخان” في مالي وفرقة “السيف الضالع” في بوركينا فاسو. تتحدث تبريرات أخرى عن بروباغندا روسية تحرّض الأفارقة ضد “الإمبريالية والاستعمار” وتلاعبِ “القراصنة” الروس بالإعلام الاجتماعي الإفريقي لصالح خيار روسيا.
لكن في فرنسا من يستنتج بسهولة أن روسيا جاءت تقطف ببساطة محصولاً ساهمت خطايا فرنسا في زرعه طوال عقود. سسحبت باريس قواتها من بوركينا فاسو كما فعلت قبل ذلك في مالي وأفريقيا الوسطى. لم تفهم باريس أن العالم يتغير وأفريقيا تتغير معه. والأرجح أن فرنسا نفسها لم تتغير منذ الحقبة الاستعمارية في التسويق لأبوية واستعلاء بات يرفضهما جيل أفريقيا الجديد. يأتي وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بالترياق المثالي. ينتقد فرنسا لتدخلها في شؤون بلدان أفريقيا بما يعني أن روسيا لن تفعل ذلك. هذا تماماً ما تتوق إليه دول ضاقت ذرعاً بتدخل الغرب داخل شؤون بلدان العالم.
كان لافتاً أن فرنسا لم تجد الدعم الكافي من واشنطن والحلفاء في أوروبا في حربها في أفريقيا. كان يبدو أن باريس تريد أن تخوض المعركة لوحدها تجنباً لمنافسة تأتي من الحلفاء بمناسبة مشاركتهم في عملية عسكرية تفتح في نفس الوقت الطريق لاختراق احتكار فرنسا لنفوذها على مستعمراتها السابقة. وحين أدركت باريس أن المعركة ضد الجماعات الإرهابية قاسية معقّدة لها امتدادات جيوستراتيجية لم تكن في الحسبان، بدا أيضا أن داخل المعسكر الغربي من يريد لفرنسا أن تدبّر لوحدها ورطتها في الوحول الأفريقية. فكان أن أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون انتهاء عملية “برخان” بعد 8 سنوات من إطلاقها.
لا تمثّل حلقة الانقلاب في النيجر مساراً ضد فرنسا وحدها. كانت أوروبا والحلف الأطلسي قد تنبهت لـ “جبهة أفريقيا” بصفتها الحدود الجنوبية للناتو بعد أن اكتشف مؤخراً حدودا له في آسيا مقابل الصين في منطقة الاندو-باسيفيك. يتواجد في النيجر حضور عسكري لفرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة (ضمن تحالف لمكافحة الإرهاب) وهذا ما يجعل من الحدث في هذا البلد تحدياً للغرب ولمنظومته الجيوستراتيجية وليس تحديا لفرنسا وحدها. وما جرى ضد الرئيس بازوم في النيجر قد لا يكون نهاية حقبة لفرنسا بل بداية حقبة مفصلية في صراع الكبار على النفوذ في القارة السوداء.
استنتجت واشنطن أن لاشيء يمنع من انتقال عدوى مالي وبوركينا فاسو الحدوديتين إلى النيجر لجهة الانتقال الحاد باتجاه معسكر روسيا تحت جناح مجموعة فاغنر. استنتجت أن خطاب الانقلابيين بقي عدائيا ضد فرنسا وحدها وليس ضد الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وأنه رغم تردد أنباء بشأن اتصالات جرت بين الانقلابيين والمجموعة الأمنية الروسية، ورغم حمل المتظاهرين الداعمين للانقلاب الأعلام الروسية في نيامي، إلا أن الخطاب الرسمي للانقلابيين لم يُدلِ، حينها، رسميا بمواقف محابية لروسيا أو منحازة إليها.
لا يمكن استنتاج الدينامية الإفريقية الجديدة من دون الاعتراف بأنها تأثّرت أيضاً بسياسات الصين التي اخترقت القارة من خلال القوة الناعمة والاستثمارات السخيّة على مدى العقود الأخيرة. تأثّرت أيضاَ بتجاهل الغرب حيناَ وبسوء سلوكه تارة أخرى. وتأثّرت خصوصاً باستراتيجية روسيا لتطوير علاقاتها مع دول القارة وازدهار نشاط مجموعة “فاغنر” داخلها، علماً أن المجموعة التي توصف بالخاصة هي ذراع تحظى بدعم روسي داخلي يمهد كثيراً من الظروف لإبرام اتفاقات سياسية واقتصادية وعسكرية بين موسكو ودول إفريقية.