” من نصّي أوقد ناري وأصلّي وأنبعث.. وأتقدّم “
يمثّل أدب السجون حالة التحدّي والصمود والأمل التي يجابه بها السجين القمع والإذلال والتيئيس الذي يمارسه السجّان عليه، بما يعنيه السجن من مساحة ضيقة ورطوبة وعفن وظلمة وقضبان وزنازين وتعذيب ووحدة وأرق وقهر وانتظار يميت الروح.
وإذ يمعن الاحتلال الإسرائيلي في قهر الفلسطينيّ، يسعى إلى استلاب هويته الفكريّة والثقافيّة، والانتقاص من وعيه ووصم مقاومته بالتخريب والإرهاب، ويعمدُ هذا العدو المناهض للإنسانيّة وللحقوق إلى خلق جوّ من الإساءة
والتشويش وطمس معالم الثقافة والأدب الفلسطينيّ بما تحويه روايته من شعر ونثر وحكايات.
يمثّل الأسير “باسم خندقجي” صورة واضحة عن هذا التعذيب المُمنهج والقهر المُستدام، فلقد حُكم عليه بالسجن بالمؤبدات الثلاثة من دون وجود دليل بيّن على مشاركته في عملية الكرمل، وقامت عليه حملات التحريض التي اتبعتها الصحافة والرأي العام الإسرائيلي، وتعرض للقمع والعزل في زنزانة، وفُرض غرامة ماليّة كبيرة عليه ومعاقبته بالسجن الإنفرادي ومنع مُحاميه من رؤيته كما يفيد أخيه يوسف خندقجي في عدة مقابلات له، وذلك كله عُقب ترشّح روايته للقائمة الطويلة ولاحقًا القصيرة للرواية العربية، لتختفي أخباره بعد فوزه بالجائزة، مع تضاعُف الغلّ الإسرائيليّ بعد أحداث السابع من أوكتوبر/ تشرين الثاني 2023.
باسم خندقجي والكتابة التي قرعت آذان العالم..
مذا تريد؟ تعليق الصرخة .. صرختك/ على وجه هذا الكوكب المريض/ وجه لاعب البوكر بلا حرارة/ وتجاعيد وحميمة التنهيد”
وُلد الكاتب والشاعر باسم خندقجي العام 1983، في مدينة نابلس، وهو عضوّ في اللجنة المركزيّة لحزب الشعب الفلسطيني، كان يدرس الصحافة والإعلام في جامعة النجاح الوطنيّة عندما اعتُقله الاحتلال في تشرين الثاني 2004، بتُهمة التخطيط لعملية الكرمل عقب انتفاضة الأقصى، والتي نتج عنها مقتل ثلاثة إسرائيليين، وفي حزيران العام 2005 صدر الحكم عليه بالسجن مدى الحياة، ودفع غرامة ماليّة تعويضًا لعائلات القتلى. لم يقف السجن عائقًا أمام إرادته في الحياة وطموحه، فنال درجة الماجستير في “الدراسات الإقليميّة- مسار الدراسات الإسرائيليّة” من جامعة القدس العام 2016، ويعمل حاليًا على استكمال دراسة الدكتوراه.
من وحدته يتذكّر باسم كل تفاصيل أحبّته اليوميّة، نوم أبيه، صحوة سيجارته، فنجان قهوته، وعطره الذكي النفّاذ.. صوته في ترتيل القرآن وقت الصلاة… والد باسم الذي توفيَ وفي حسرته شوقٌ لرؤيته.
اقترنت الكتابة عند خندقجي بالأمل، من السجن انطلق خياله، واجدًا في الكتابة مآله، فكانت القراءة سفره إلى العالم وكان الأدب لقاءه المتجدّد، كتب أبحاثًا ومقالات نُشرت في مجلة الدراسات الفلسطينيّة، وأنتج دواوين شعر منها ” طقوس المرة الأولى” و” أنفاس قصيدة ليليّة” وروايات عدّة: مسك الكفاية، نرجس العزلة (التي كتبها على مراحل متباعدة، حيث صدرت العام 2016 وقامت والدته وشقيقته بتوقيعها للقراء بدلًا عنه، وفيها يحكي عن نابلس مسقط رأسه، عن التقاليد والعادات وعن الصراع الفلسطينيّ الفلسطينيّ)، رواية خسوف بدر الدين ( تحكي عن شخصيّة متصوّفة يدعى بدر الدين، كان يقارع الفساد والظلم في عصره، ويجابه وعّاظ السلاطين وعلمائهم)، رواية أنفاس امرأة مخذولة، ورواية قناع بلون السماء.
قناع بلون السماء، وسؤال الهويّة
نالت رواية “قناع بلون السماء” الصادرة عن دار الآداب في بيروت العام 2023، الجائزة العالميّة للرواية العربيّة البوكر بتاريخ نيسان 2024، وقد تسلمت الجائزة الناشرة رنا إدريس وأخيه يوسف خندقجي. وفي بيان الجائزة قيل أنّ ما يميّز هذه الرواية هو بناء الشخصيات والتجريب، واسترجاع التاريخ وذاكرة المكان والسرديّة متعددة الطبقات. وعنها قال الناقد نبيل سليمان وهو رئيس اللجنة التحكيميّة في الجائزة “رواية تغامر في تجريب صيَغ سرديّة جديدة للثلاثية الكبرى: وعي الذات، وعي الآخر، وعي العالم..”
يطرح خندقجي سؤال الهوية، من خلال شخصيّة نور مهدي الشهدي الذي يتّخذ من علم الآثار مسارًا لنفي الرواية الإسرائيلية حول العلاقة بالأرض: “هم أسطروا وتخيّلوا كما يجب إلى الحدّ الذي خلقوا فيه مخيّمًا وشتاتًا ولجوءًا لنور وأمثاله”. ويتّخذ من رمزيّة “مريم المجدليّة” مساقًا للبحث والتنقيب، ينتفض على رواية شيفرة دافنتشي التي غرّبتها عن تاريخها العربي الفلسطيني: “لماذا ينتزع كاتب أجنبي المجدليّة من سيرتها الفلسطينيّة ليلقي بها في مهاوي الغرب؟” .
يقول الكاتب إلياس خوري عن الرواية: “سؤال الآثار هو سؤال إسرائيلي عميق، إذ إن علماء الآثار الإسرائيليين لم يعثروا حتى الآن على إثبات لهوية الأرض الفلسطينيّة من خلال افتراض أنها أرض يهودية مقدّسة، وبالتالي صار الانغماس في علم الآثار جزءاً من الهوية اليهودية الضائعة. نور أو أور يمسك بيدهم ويأخذهم إلى أعماق الأرض ليبحثوا ولا يجدوا.”
وتظهر في الرواية عالمة آثار بلجيكية لتقول الحقيقة: “موقع الكيبوتس هو أرض لقرية منكوبة اسمها أبو شوشة.. وإن هذا الكهف المُقحم في نصوصكم القوميّة المقدسة ليس سوى مرتع لهو لأطفال القرية المهجّرة.. بل كان يُستخدم زريبة للبهائم..”
استطاع “اور شابيرا” الشخصيّة القناع أن تظهر بكل إسرائيليتها وعدوانيتها للأرض والهويّة، من خلال المناجاة الداخليّة التي كان يؤلفها نور بين ذاته الحقيقيّة وذات الآخر المزيّفة.
فالمُستعمِر ببطاقة هويته الزرقاء هو القناع الذي يرتديه “نور الشهدي” ذو الملامح الإشكينازية (وهم اليهود المتدينين من ذوي الملامح البيضاء والشقراء) يساعده شكله الأوروبي وإجادته للغتين الإنكليزية والعبريّة، ويحتدم الصراع في الأنا: نور شهدي اللاجئ الفلسطيني ابن المخيّم والباحث الذي شُغف بالآثار ويسعى بالبحث والتنقيب لإعادة سيرة مريم المجدلية إلى نسختها العربية الفلسطينيّة، واور شابيرا اليهودي الفخور بإسرائيليته الذي يلتحق ببعثة تنقيب أميركيّة لأبحاث الآثار، تستهدف موقع “أبو شوشة” الذي أقيم عليه “كيبوت مشما هعيمق”، وبعد صراع بين الأنا والآخر، تظهر “سماء” فلسطينيّة من حيفا لديها بطاقة هوية إسرائيلية، ولكنها لا تنسجم مع قناعتها بالقضية وبالحق الفلسطينيّ “هذه الهويّة التي نكبتني” تقول في حوارها مع نور، في الختام يختار نور الانتماء لسماء: ” أنتِ هويّتي ومآلي”.
في الرواية إشكاليات كثيفة، تمكّن الراوي من طرحها بسلاسة ومراوغتها في أحيان كثيرة، ومنها الاشتباك الثقافي: ” مشتبك يوميا مع هذا الواقع الذي أعمل به..في القدس أتجرّع أكاذيب وأساطير.. ثم ألفظها بمناعتي وحصانتي وعزمي على مواجهة الاغتصاب التاريخي الذي نتعرض له منذ نكبتنا..”
عن الخلاف الفلسطينيّ والتفكك الداخلي، من خلال سيرة مهدي والد نور الذي اعتقل في سجون الاحتلال وكان قائدًا بارزًا “بطل الانتفاضة وسيّد أزقّة المخيّم” بات نضاله عنفًا وثورته إرهابًا، وعندما نال حريته واجه الخذلان “خذله أصدقاؤه ورفاق دربه في النضال والانتفاضة الذين انشغلوا بأبّهتم الجديدة التي تراقصت فوق مائدة السلام..”
وتتماهى المرأة الفلسطينية في الرواية مع حكاية الصمود والصبر من خلال أم عدلي والدة صديقه مراد الأسير، “الطاعنة بالصبر والصمود “، ومن خلال شخصية خديجة زوجة أبيه الصامتة والعقيم والتي تتجرع خيباتها من دون أن يلتفت لها أحد، وشخصية سماء الفلسطينيّة التي تحمل هويّة إسرائيليّة والتي لم تتنكر لتاريخها وقضيتها بل تجاهر برأيها وغضبها، وتُنقذ نور في الأخير من صراعه.
رحلة الرواية
قد يظن البعض أن العدو يسالم الأسرى فيمنحهم محفّزات لممارسة طقوس الكاتبة، ولكن في الواقع طقوس الكتابة عند المعتقَل تجري تحت الضغط وفي جوّ من التيقُظ الحذر.
في الرواية يستحضر خندقجي شخصيّة مراد صديق نور الأسير في سجون الاحتلال، “مراد الذي استغلّ ..دربّة آلامه الاعتقاليّة ليُحيلها إلى درب معرفة وثقافة تؤدي به إلى الحريّة، حريته الداخليّة على الأقل” “واجه.. حديد المعتقل بإرادته الفولاذيّة، وهزم غربته المريرة بالأمل المتدفق من حبر قلمه …”
ومن خلاله يخبرنا عن علاقة الأسير بالكتب والكتابة: ” وفي الكيس كتابان، وبأحدهما رسالة هرّبها نور، ما بين السطور، لصديقه مراد، كلمات كتبها بقلم رصاص باهت وبخطّ صغير حتى لا يعثر عليها السجّان أثناء تفحّصه الروتينيّ للكتاب، ليتأكّد من خلوّه من أيّ خطر وجوديّ قد يزلزل أمن كيانه..”
في كتابها عن أدب السجون في فلسطين تخبرنا الباحثة إيمان مصاروة كيف انتهج العدوّ في تاريخه القمعيّ سياسة الإفراغ الفكري للمعتقلين الفلسطينيين، بضرب حظر تام على الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة والإنسانيّة، وكل وسيلة ثقافية بما في ذلك الورقة والقلم.
عن تهريب أدوات الكتابة من خلال زيارات الأهل، وعن طريق المحامين واستخدام مغلّفات الطعام للكتابة عليها، وعن تهريب الرسائل من خلال الكبسولات الدوائية.. إلى هذا الحدّ يجاهد الفلسطيني لإيصال كلمته إلى العالم.
لم تكن رحلة الرواية سهلة فهي بدأت منذ تشرين الثاني2021 حتى تاريخ نشرها العام 2023. يتحدث يوسف خندقجي (شقيق باسم) متحدثًا لصحيفة اندبندنت العربية في مقال للكاتبة كاتيا طويل: كيف كان يتم نقل أجزاء من الرواية من سجن لسجن وعبر سجناء تمّ تحريرهم أو مع أهاليهم، ويقول أن باسم تابع دراسته داخل السجن وأنه كان يكتب المقالات والشعر والرواية ويرسلها لشقيقه كي ينشرها، وتروي أخت خندقجي في مقابلة أخرى لها كيف كان الإخوة يتناوبون على تدقيق وطباعة نصوص خندقجي على الحاسوب، ويضيف يوسف أن الاحتلال منع إدخال الكتب في العام 2009 إلى السجن.
“كان يتم إخراج الرواية ورقيًا مع أسير مُحرّر ومع اشتداد الرقابة مُنع إخراج المخطوطات الأدبية من السجون.. لجأ باسم إلى البريد العسكري الإسرائيلي الذي كان مراقبًا .. وكان يترك مسودّات خشية من تلفها”.
كان يوسف يزوده بالمعلومات من مصادرها، ويذكر باسم في ختام الرواية استعانته بالمؤرخ الفلسطينيّ “جوني منصور” الذي زوده بالبيانات الخاصة بمستوطنة مشمار هعيمق وقرية اللجون المهجّرة وثورة باركوخبا وموسم التنقيب عن الفيلق الروماني، ومعهد أولبرايت للأبحاث الأثرية، كذلك يذكر استعانته باختصاصيين في مجال الآثار ومنقبي آثار، إن هذا العرفان والشكر الذي يتركه باسم في الختام هو دليل أمانة وتواضع لا يصله إلّا محبٍ للعلم ذو نفس صادقة.
يبرز دور الجائزة في قدرتها على إيصال صوت الكاتب للعالم وهو ما يثير حقد الإسرائيلي وغلّه.
يذكر يوسف أن قوات الاحتلال أعلنت أنها لن تسمح بأن يستلم باسم أي فلس من الجائزة، وبالتالي فهو يبرز خشيته من أن يتم مصادرة مال الجائزة فيما لو أدخله البلد.
يذكر باسم في رسالة مؤثرة عقب علمه بترشح روايته للقائمة القصيرة للرواية ” تمت معاقبتي ومصادرة كتبي وأوراقي وأقلامي بحسب قرار إدارة السجون الإسرائيليّة. ويضيف: وإن تشدّدوا في عقوبات السجن ومصادرة الحرية فلن يستطيعوا مصادرة أحلامي وأبطال رواياتي وطموحات شعبي الصامد في غزة وخارجها، والساعي إلى التحرّر والسلام”. بهذه الروح الإيمانيّة يجابه باسم العالم، ويتحدى شراسة السجّان بالأمل موقعًا “الأسير المُقبل إلى الحريّة..”
يقول باسم في ختام إحدى رسائله: نحن موجودون وغير موجودين، نحن لسنا شيئًا فلنكن كلّ شيء…