لا أزال أذكره ببدلته العادية، جالساً في مترو الأنفاق، إلى جانبه مظلة، وفي يديه صحيفة، أظنّها كانت “الغارديان”. يوم لندني بارد من شتاء 1985. المحافظون في الحكم، ومرغريت ثاتشر، المرأة الحديد، تتألق في أثوابها الزرقاء بلون حزبها، وتحكم البلاد من مقر إقامتها في 10 دوانينغ ستريت.
كنت أعرف تمام المعرفة أن الرجل الجالس قبالتي هو طوني بن، الكاتب والخطيب، والسياسي العمالي القدير، الذي تولى وزارتين في عهد هارولد ويلسون وجيمس كالاهان، وكنت كبير الإعجاب بصراحته وثقافته ومقدرته العظيمة على الكلام. ساورني الفضول، فنويت التحدث إليه. لم أُرد أن أفسد عليه لحظات القراءة. انتظرت حتى يرفع رأسه عن الجريدة، فبادرته بسؤال ساذج، غير مقبول من مواطن بريطاني يعرف من هو طوني بن، لكنه مبرر من غريب مثلي، يتكلف الجهل ليدخل في حديث. قلت: “أظنك مستر بن، أليس كذلك؟”. أجاب: “أنا هو بالتمام”. سألني: “من أي البلاد أنت؟”. أجبت: “أنا من لبنان”. قال: “آه لبنان، البلد الجميل المعذب بتاريخه وجغرافيته وجيرانه”. قلت نعم، هوذا لبنان الذي اختصرته بهذه الكلمات القليلة يا مستر بن، وزدت بأن تفوهت بكلام آخر، مبرر من غريب مثلي: “استغرب وجودك في قطار الأنفاق”، فردّ: “ما الغرابة في ذلك؟ وهل أنا خير من أيّ مواطن في هذه المقصورة؟”.
أجبت كمن يدفع تهمة عن نفسه: “آسف يا مستر بن. لم أقصد الفوارق بين الناس، وأنا أعيش في هذه البلاد، ومعجم بتراثها العظيم من الحرية والمساواة والديموقراطية والعدالة، لكن في قلبي وجع من بلاد لا يستخدم النواب فيها وسائل النقل العامة، ولديهم سيارات فارهة وسائقون وخدم، ويتقاضون أضعاف ما يتقاضاه النائب البريطاني، وهم يصلون إلى الحكم في نظام بال من القرون الوسطى، ويغتنون على حساب الناس والدولة”.
سكت السياسي العريق، وقد فهم بذكائه المتوقد ما رميت إليه فقال: “ما تجده من قيم في بريطانيا ليس كافياً. لقد ناضلنا في حزب العمال، وما زلنا نناضل لتكون بريطانيا بلاداً أفضل، ولا يزال أمامنا الكثير الذي علينا إنجازه”. أضاف: “أنتم اللبنانيين شعب خلاق ومنتج، لكن تعوزكم روح التعاون، وإذا بدأتم العمل، وسخرتم ما لديكم من طاقة، فسوف تبنون بلداً جدّياً”.
توقف القطار على رصيف “هولبورن”، محطتي المقصودة، واتفق أن كانت محطة السيد بن أيضاً. حين خرجنا كان الجو بارداً والمطر غزيراً. فتح الرجل مظلته وصافحني مودعاً وقال:” هذا رقم هاتفي. اتصل بي فنلتقي على كوب من الشاي في مجلس العموم. سرّني أن أتحدث إليك، وأتمنى لك أوقاتاً طيبة”. بادلته الشعور نفسه: “سأحلم بيوم يكون السياسيون عندنا مثلك يا مستر بن، يخلعون الألقاب ويستخدمون وسائل النقل العامة”. فعلق: “أعدك بأن يوماً سيأتي ويفعلون ذلك”!
وقفت عند باب المحطة أنتظر تراجع المطر الشديد، وأرقب السياسي العريق يعدو مسرعاً، ورياح لندن العاتية تكاد تخلع المظلة من يده، وأتساءل بيني وبين نفسي: هل يأتي يوم ويكون في بلادي رجال حكم مثل هذا الرجل؟ هل يأتي يوم ينحسر فيه الفساد في بلادي، وتتلاشى منه لغة المعابد التي تثقل الروح، ويتوقف المواطنون عن الوثنية وعبادة الشخصية وعن تبجيل أهل السياسة، وشيوخ القبائل والمنافع والطوائف؟ هل يأتي يوم، يتعالى السياسيون فيه عن التفكير الضيق، ويفهمون أنهم ساعة يفسدون ويعلون على القانون، ويغتنون على حساب الدولة والناس، ويتهربون من دفع الضرائب، سيجبرون يوماً، هم وأولادهم وأحفادهم والبلاد وكل من عليها، على دفع ضرائب من نوع آخر، ضرائب الدم والحروب!
في العام 2014 غيّب الموت طوني بن، بعد صراع دام عامين مع المرض، وستة عقود أمضاها في خدمة بلاده والعدالة والاشتراكية. لعل من المفيد أيها القارئ الكريم أن أذكّرك، بأن طوني بن الذي ولد في العام 1925 لأسرة أرستوقراطية عريقة في الحياة البرلمانية هو ابن البرلماني الشهير، اللورد وليم ودجود بن، وقد تخلى طوني بن عن الألقاب والامتيازات التي ورثها عن والده وأجداده، وعن اسمه الكلاسيكي الأرستوقراطي، أنتوني وليم ودجود بن، مؤثراً أن ينادى باسمه الذي عرف به في ما بعد: طوني بن.
درس الفلسفة والسياسة والاقتصاد في جامعة أوكسفورد، وكان كاتباً غزيراً. وضع ثمانية مجلدات ضمّت يومياته الكاملة مدى سبعين عاماً، وألّف كتباً عدة منها “الليبيرالي الحر” و”الإدراك السليم” وكتابه الشهير “الجدل حول الديموقراطية” والآخر الأثير “الجدل حول الاشتراكية”، وهما من أرفع المؤلفات التي تطرح حلولاً لمشكلات السياسة والاقتصاد في العالم المتقدم والدول النامية.
في الجامعة تعرف الطالب طوني إلى صبية اسمها كارولين ميدلتون دي كامب. مرت أيام معدودة قبل أن يعرض عليها الزواج، وهما على مقعد في حديقة من حدائق مدينة أوكسفورد. تزوجا وأنجبا ثلاثة صبيان وفتاة. بعد سنوات، تقدما بطلب إلى مجلس بلدية أوكسفورد لشراء المقعد الذي شهد همس الحب ووعد الزواج. وافق المجلس البلدي، ونقل المقعد الخشبي إلى حديقة بيت العائلة، في ضاحية هولاند بارك في الطرف الغربي من لندن المدينة.
كان طوني بن في السادسة عشرة عندما التحق بالجيش. كان ذلك في أثناء الحرب العالمية الثانية. في 1943 انتسب إلى سلاح الجو الملكي. في خطاب له في العام 2009: “تعلمت أثناء الحرب كيف أتمنطق بالمسدس والبندقية والحراب، ولو استعملتها اليوم ضد جندي ألماني، هل سأكون إرهابياً أم مقاتلاً من أجل الحرية؟!”. في العام 1950 دخل بن مجلس النواب وهو في الخامسة والعشرين، فأصبح أصغر نائب في تاريخ المجلس، وفي الستينات والسبعينات شغل منصب وزير مرتين، وبين 1971-1972 أصبح رئيساً لحزب العمال، وبقي عضواً في مجلس العموم حتى العام 2001.
آمن بن طوال حياته بالفكر الاشتراكي وناضل من أجل العمال وكان صديقاً للعرب. أيّد حقوق الفلسطينيين، ووقف ضد حرب السويس وضد حرب الفوكلاند، وضد الحرب على أفغانستان، واعتبر الحرب على العراق خاسرة وغير قانونية وغير أخلاقية، وقاد التظاهرات ضد الحروب في ساحات لندن وميادينها. عندما قال الرئيس بوش إن ذهابه إلى العراق كان بطلب من الربّ، تساءل: “وهل لدى الرب مكتب في “البنتاغون؟”، وعندما كان يسمع الصهاينة يقولون إن فلسطين أرضهم الموعودة من الله، كان يردّ عليهم بالقول، إن الله لا يعمل في تجارة العقارات!
كانت والدة بن لاهوتية، ومن المدافعين عن حقوق المرأة، وطالبت بدخول النساء سلك الكهانة. ورث بن عن أمه حب الناس والعدالة على ما يقول. عارض الفساد في الدين ووقف ضد خلطه بالسياسة. والده كان عضواً في مجلس النواب في العام 1906 وكان ليبيرالياً، ثم انتمى إلى حزب العمال ليتولى منصب وزير دولة في عهد رمزي ماكدونالد، ودعا إلى استقلال الهند. في العام 1942 رُقي إلى مجلس اللوردات، وشغل منصب وزير عن حزب العمال، وفي 1945، سافر إلى القاهرة وفاوض حكومتها حول قناة السويس، ودعا إلى استقلال مصر.
كان طوني بن سياسياً وكاتباً مثيراً للجدل، ومن أقدر السياسيين على الحديث. أعداؤه في السياسة كانوا يقولون: “قد لا تتفق معه في كثير من الأمور، لكنك لا تملك إلا أن تستمع إليه حين يتحدث”. عمل طوال حياته بنصيحة والد كان يقول له: “عليك أن تقول ما تعني وتعني ما تقول، وافعل ما قلت إنك ستفعله”. كان يمكن الابن الشاب أن يعيش حياة اللوردات والميسورين، لكنه آثر العيش في أحد أحياء لندن المختلطة بالجنسيات، ودعا إلى بريطانيا دولة متعددة الثقافة والعرق. حفيدته دخلت مدرسة تلامذتها من77 جنسية. قال بن إنه ذهب مرة ليحاضر فيها، فشعر كما لو أنه يحاضر في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة!
عندما سئل مرةً إذا ارتكب خطاً وندم على شيء في حياته أجاب: “لا أخجل من القول إنني ارتكبتُ كثيراً من الأخطاء، وأدركتُ في ما بعد، أن هذا هو السبيل الوحيد إلى التعلم. لكن ما كنت أخجل هو أن أقول شيئاً لا أعتقد بصحته، لأحرز مكاسب معينة”. وعندما سئل عما إذا تعلم شيئاً، يكون بمنزلة نصيحة يسديها إلى الناس، أجاب: “علّمتني الحياة أشياء وأشياء، وعلّمتني أن الطريقة الوحيدة لتحمي بها نفسك، هي ألا تأبه لمن يحاولون إرباكك، وبثّ الخوف في قلبك، لأن هدفهم أن يتحكموا بك، ويحوّلوك إلى شخص يائس”.