موضوعنا اليوم هو عن الإعلام الثقافي، لكن قبل بدء الكلام عنه علينا أن نحدد أي إعلام نريد أن نوظفه لخدمة الفضاءات الإعلامية العربية. أفترض بأنه على مدى سنوات كان كل الذين ينتمون إلى هذا الإعلام يشتغلون بالثقافة، وينتجونها ومنهم مثلًا: عباس بيضون في جريدة السفير، عبده وازن في جريدة الحياة، أمجد ناصر في القدس العربي، كذلك ياسين عدنان في برنامج مشارف، ومحمد شويكة في برنامج صدى الإبداع، كذلك الشاعر والأكاديمي محمد عدة وبرنامج كولتورا…
فالإعلام الرسمي العربي عبارة عن مجموعة تجارب، البعض منها ما زال مرتبطًا بتجارب خاصة قد لا تتعدى نشرات الأخبار، أعني الجزء المتعلّق بالثقافة والذي يبدو خجولًا يعبر عبورًا سريعًا في نهاية هذه النشرات. فهذه المساحة الصغيرة غير كافية، لتقرير شكوى المثقف في غياب مساحات جادة تحتضن الحضور الفكري. مع ذلك لا يمكننا أن ننكر البرامج الخاصة التي يعدّها الكتاب والمثقفون إذ لا يمكن أن نضفي عليها الطابع الإعلامي الضيق بقدر ما نضيف اليها تطورًا جديدًا حول الخطاب الثقافي الإعلامي.
حاجة الإعلام الثقافي إلى شركات إنتاج
في ما يخص بعض شركات الإنتاج، نجد أنها أصبحت تحد من الإعلام الثقافي وذلك من خلال البرامج الخاصة البعيدة عن نشرات الأخبار، لكن قل ما يكون لديها علامة في الثقافة كتقديم حلقات تغطي هذا التغييب من دائرة البرامج الإعلامية، وهو تصوير حلقات أكثر عن المحتوى الثقافي لتنوير عقل الإنسان العربي في التفكير.
في المغرب مثلًا وفي مرحلة معينة، كان عبد الله العروي وكان من الذين يفتح مجال والحوارات والنقاشات ليزود الناس بتفاصيل الحياة اليومية والسياسية وكان للمثقف صوت سياسي يؤثر في تغيير أنماط العيش بمواصلة طرح القضايا ومعالجتها.
المواهب الفردية والتكوين العمل الصحافي
وبالحديث عن شكوى المثقفين، نميّز هنا بين ما يتعلق بعدم وجود أو غياب برامج ثقافية تطرح الأسئلة القلقة حول المجتمع، وما ينتجه المثقفون من كتب عوض شركات الإنتاج التي تعد البرامج وتحدد ضيوفها.
على أننا لا يمكن أن ننكر أنّ هناك دائما نقطة نور في إبداعية بعض الصحافيين وتكوينهم، بعيدًا عن
أية موهبة فردية للصحافة، إذ أنه في ظل التكوين الذي يجب أن تتبنّاه الجامعات والمعاهد العليا، فتخصص علامة ثقافية لها، نرى أنّ الغائب في داخل هذه التكوينات هو عمل الصحافيين المرتبط فعليًّا بتتبع الخبر، وننتبه أنّ حضورهم يقتصر على لقاءات فكرية، لأنهم لا يستطيعون أن يواكبوا هذه التخصصات والأفكار المطروحة، مع أنّ هناك معاهد عربية اختصاصها أسهم في تكوين الصحافيين، لكنها قليلة. كذلك في التطرق إلى البرامج الثقافية هناك عدم دقة في اختيار ضيوف المحاور، قلما نجد هذا الوعي، فصارت تجربة إعداد البرامج أو المقابلات النمطية مبنية على العلاقات الخاصة. من هنا تبدو أهمية تكوين معدي برامج قبل الحديث عن الصحافة، والسؤال هنا هل لدينا شعبة تحرير من هذا النوع في الجامعات؟
المنصات والتحولات الثقافية
تعرّض الإعلام الثقافي الرقمي أو الزمني ربما إلى تحولات سريعة وهي في الأساس تلك التي
يشهدها الإعلام بشكل عام، في ظل ثقافة المنصات الرقمية، هناك بعض التجارب الثقافية التي قد نعثر فيها على تحرير فعلي. لكن إلى أي حد يمكن للمحرر أن يكون مؤهلًا لتقييم هذا الكم الكبير الذي يُقدم إليه، وبالتالي تعدد الموضوعات في هذه المنصات؟ ربما من هنا ظهرت ثقافة الاستكتاب إذ صار كل موقع يتوجه إلى أسماء للكتابة في مواضيع معينة، بحيث لا يمكن اعتبار ذلك سلوكًا إيجابيًّا أحيانًا من جهة عدم منح الثقافة العربية أصواتًا جديدة لإغناء ما هو ثقافي وأدبي وفني وهذا ما قد يؤدي إلى إنهاء الأصوات الجديدة وهذا ما سيؤثر سلبًا في الثقافة.
هناك عدد كبير من الأصوات التي تكتب في عالمها الخاص المرتبط بالواقع الافتراضي، بينما تجارب إعلامية تنشر كل شيء إذا كان النص سليمًا لغويًّا إلى حدّ ما، على أنّ مهمة النشر الرقمي مرتبط بالسرعة. هذا بالإضافة إلى التجارب التي تكتب في المواقع والمجلات الرصينة والتي لا يمكن نكرانها، مثلًا موقع كيكا الذي كان يقدّم الثقافة وعددًا من الأصوات الأدبية التي تحضر بقوة، ومن المنصات الأخرى أيضًا ضفة ثالثة في العربي الجديد. كذلك نذكر أيضًا المجلات المتخصصة بإصداراتها الرقمية والورقية كنزوى ممثلة برئيس تحريرها الشاعر سيف الرحبي، ومجلة الحصاد ممثلة برئيسة تحريرها الأستاذة ابتسام أوجي، وهناك أيضًا صفحات تشتغل بشكل يومي مواد يومية، محترمة فيها تنوع على مستوى الحقول والأجناس الإعلامية في الوقت نفسه، وتفتح الباب للأصوات الصاعدة من الأجيال، ويمكن اعتبار ذلك نقطة إيجابية كنوع من حوار الأجيال المنتج.
في المقابل يمكننا التطرق إلى موضوع غياب التجديد العقلاني للصفحات، إذ نجد لكل منصة منطق معين في التحرير، فتقدم عددًا كبيرًا من المقالات والتحقيقات، وبعض الترجمات بينما هناك صفحات لا تستجيب، وبسرعة الضوء من الصعب أن نتابع الجديد ونميز الجديد من الجديد. وهذا ما يؤدي إلى تسطيح الكتابة ومن الأمثلة على ذلك: الكتابة عن الأدباء الذين يتوفون فجأة، أوفتح ملفات سريعة، وإشراك أصوات لا قيمة لها في التحقيقات، لملء الصفحات فقط…
من هنا غابت مهمة الصحافي الثقافي، كما غاب تكوين الصحافييين وتم اختراق المنصات من قبل بعض الأشخاص والناس الذين لا علاقة لهم، لا بالثقافة ولا بالإعلام الثقافي. هذا بالإضافة إلى ثقافة النقل والاستنساخ وعدم ذكر اسم المواقع المحترمة، التي يتمّ السطو عليها، إذ نجد المواد مستنسخة مسروقة.
هل يواكب إعلامنا فعاليات ثقافية بصورة مغايرة، غير سطحية؟ أظن أنّ هذا الإعلام يقدم كل شيء ما عدا الثقافة مع أن دوره نشرها لدى جميع الشرائح على ألا تكون ثقافة نخبوية.
ربما في مرحلة سابقة، كان صوت المثقف قويًا وكان ينخرط في أسئلة المجتمع وفي التغيير والدفاع عن القيم، اليوم صار المثقف يناضل في شراء بعض الكتب والمجلات، كل جيل له أسئلته الخاصة، وأكيد كما نجح طه حسين وعباس العقاد ومحمد برادة في جعل الصحافة الثقافية شكلًا من أشكال مقاومة الهيمنة الاستعمارية في مرحلة ما، سيأتي جيل يحاور الذاكرة المرجعية ويستعيدها ويستعير منها، من دون تقديسها كي يستطيع تطوير منظوراته للتحولات الثقافية المواكبة للمجتمع الحديث.
تطورنا على مستوى الشكل والتقنيات والحياة، لكن العقل العربي ما زال يشتغل داخل الهيمنة الليبرالية التي تفصل الإنسان عن حقيقته في الوجود، ما يقود إلى التفكير في الاخر بدلا من التفكير في الذات لمواجهة الواقع واضطراباته، فالثقافة لا يمكنها أن تنفصل عن الحياة البسيطة، وعن الرغبات التي يعيشها الإنسان بطريقة راقية بالطبع مع احترام الآخر وطريقة تفكيره. في فرنسا نزل الفلاسفة إلى الشارع لتفكيك اليومي، وشاهدنا فلاسفة وأدباء في تالدول العربية يكتبون عن كرة القدم والمونديال، فمعن البياري كتب مثلًا عن علاقة الكاتب بكرة القدم، من هنا لا يمكن فصل الثقافة عما يحيط بالإنسان من مسرح ورقص وفلسفة وفنون مشهدية و فرجوية.
ولا ننسى أنه لطالما كان النقد الثقافي نقطة نور في الإعلام الثقافي العربي، لأنه نجح في تقديم الاختلاف والنوعية للمشاهد والقارئ معًا في مراحل تاريخية عظيمة.
في عدة دول كانت الثقافة العربية مهمة، بدءًا من الرواية، وكان مثلا صدور رواية لمحفوظ يمثل حدثًا وهو الأهم بالنسبة إلى باقي البلدان العربية اما مهمة النقد فكانت تقديم قراءات هدفها إثارة الفضول لدى المتلقي من أجل اكتشاف الأعمال كما تمت إضافة إضاءة عليها في الملاحق والبرامج الإذاعية.
النقد الصحافي وضياع القيمة
وبالحديث عن النقد الصحافي الجاد نلاحظ أنه يطرح تصورًا أوليًّا حول فكرة النصوص والكثير من الأفلام، وهاجسه الأساسي هو أن يدفع القارئ إلى اكتشاف هذه النصوص ومشاهدتها وقد تَشكَل جسر حضاريّ في النقد الصحافي بين منتج النص ومتلقيه فتحققت الفائدة والمتعة معًا. لكن النقد الصحافي لم يعد مهتمًا بالحديث عن نصوص لها قيمة أو ضعيفة، لأن الحديث عنها صار استهتارًا لها والترويج لها هو المهم فقط. فالنقد إذا كان رصينًا يمكن أن يسهم في تطوير الصناعات الثقافية.