كيف يمكن أن يكون النّظر إلى النّقد الأدبيّ في تطوره خلال هذه المرحلة الجديدة داخل الصّحافة الثّقافية ؟ هل ينبغي أن يكون نظريًا مقتصرًا على تلك المرحلة المتوفرة إلى غاية الآن، والمبثوثة في الدّراسات الأدبيّة؟ أم ينبغي فتحها على مرجعيّات جديدة تتجاوز حدود الأفكار النّقديّة الّتي كان ينحصر فيها النّصّ الأدبيّ على ذاته بوصفه بنيةً مغلقةً تبعًا للمفاهيم النّقديّة الّتي يتمّ استيرادها من المناهج النّقدية وتطبيقها بشكل آلي على النّصّ الأدبيّ من دون الوعي بخصوصيّته؟ وهل يمكننا أن نقرّ بمبدأ القطيعة بين هاتين المرحلتين المهمّتين في تاريخ النّقد الأدبيّ الحديث وإحداث انفتاح أسهم في التّأسيس لقراءات نقديّة تستجيب لأفق انتظار القارئ العربيّ؟ فما هي مكونات هذا النّقد وعناصره وأدواته التّحليليّة؟ وكيف يحضر من داخل الصفحات الثّقافيّة؟ وما علاقة الإعلام بالثّقافة؟ أهي علاقة تماه أم علاقة تقاطعات معيّنة؟ أسئلة كثيرة تراود المهتمين والمشتغلين في الإعلام الثقافي تحتاج إلى أبحاث رصينة للإحاطة بها.
النقد والأثر
إنّ الحقيقة النّقديّة هي الّتي تجعل الكتابة دالّة عليها، ومن ثمّ يصبح النّاقد “كاتبًا بمعنى الكلمة وتغدو كتابته “أثرًا مفتوحًا ذا طبيعة ملتبسة” كما يقول رولان بات في كتابه النقد والحقيقة، حيث يعتبر أنه ليس ضروريًّا أن يكون النّقد خاليًا من الاعتبار الذّوقيّ، على أنّ هذا لا يعني إطلاقًا أن يخلو النّقد من إعطاء معنى للأثر اعتمادًا على القراءة، والقراءة الصّحيحة الواعية تراعى فيها مسألة اللّغة بوصفها بؤرة العمليّة في أدبيّات النقد الأدبيّ الجديد؛ ذلك أنّ النّقد ينشغل أساسًا باللغة نفسها؛ فهو “خطاب حول خطاب” غير أن ثمّة إشكال مهمّ يتعلّق بإمكانات النّقد الجديد نفسه الّذي أسهمت فيه في تشكله روافد متعدّدة لم تبدأ اليوم فحسب، بدل تشكل في سياق انفتاح العلوم وتداخلها مع حقول معرفيّة مجاورة ما سمح ببناء تصوّرات جديدة أسهمت في توسيع آفاق النّقد وقدراته على تفكيك النّصوص وتقديم تمثيلاتها للقارئ بمختلف أنواعه.
من النص إلى النص:
طرح رولان بارت Roland Barthes قضيّة “الانطلاق من النّصّ إلى النّصّ معتمدًا في ذلك الشكلانية الروسية بوصفها قاعدة يبني عليها النّاقد الموضوعي رؤيته إلى عالم النّصّ بعيدًا عن الرّؤية الانطباعيّة غير العلميّة؛ ومن ثمّ، يبعد كلّ عنصر خارجيّ من قبيل البيئة والعصر والظّروف التّاريخيّة والاجتماعيّة والنّفسيّة الّتي لا يمكن الاستئناس بها في نطاق ما هو نصّيّ”. ولهذا يعمل تبعًا لهذا السّياق النّصّيّ ببلورة نقد يستنطق النّصوص يسعى إلى إيصال الكيفيّة الّتي يتكونّ على إثرها النّصّ، وأن تكون اللّغة النّقديّة وعاء لتخزين يمحو عناصر التّرابط مع المضمون؛ ذلك أنّ”تعلّم اللّغة معناه تعلّم الطّريقة الّتي يفكّر فيها في هذه اللّغة”. قد يعود ارتكازنا النّقديّ على مصدر كلاسيكيّ في تحديد مصطلحات موضوعيّة، وذوق، ووضوح وهذا لا يعني استحواذًا على الأصل جراء ما قد يتولّد عنه من دلالات، فمثلًا ملاحظة البنيات الدّاخليّة التي تشكّل جوهر النّصّ الأدبيّ لا يعني بتاتًا التحليل البنيويّ بحذافيره؛ لأنّ الأساس التطبيقيّ يكمن في قراءة الأعمال الأدبيّة ونصوصيّتها تبعًا للحدود التي يفرضها الجنس الأدبيّ، والتحليل البنيويّ للنصّ الأدبيّ، على سبيل المثال لا الحصر، لا ينجز إلّا في ترابطه بنماذج تطبيقية.
هكذا تكون العلاقة الجدليّة بين مراحل النقد القديمة والآنية تآزرية، تستفيد من جميع المكوّنات، استفادة إبداعية؛ أي استفادة يتم بها تشكيل عنصر الابتكار، بمعنى آخر، إنّ الاتباع يصير أحيانًا مصدرًا للابتداع المذهل. ولهذا فإن القطيعة بين مفهوم النقد قديمًا ومفهومه حديثًا، بشكل نسبيّ الاعتبار؛ لأنّ طبيعة الجدّة التي تتّصل بالنقد الراهن تستند في رؤيتها إلى اعتبارات حضاريّة وثقافيّة وإبداعيّة (وإبداعية في نطاق الثقافة) مع اعتبار الجانب الاجتماعيّ أو ما يسمى بالبيئة تأثيرًا وتأثرًا.
وعليه، فإنّ النظر إلى النقد الجديد في تطوره الراهن ينبغي أن يكون نظريًّا موضوعيًّا عن طريق التركيز على الشروط والآليات، وليس على التأويلات التي لا تحتكم إلى ما هو نصّيّ من جهة، وموضوعيّ من جهة ثانية.
تنوّع النقد في الصفحات الثقافية:
يحضر النقد الأدبيّ من داخل الصفحات الثقافيّة بطرائق متعدّدة؛ إذ نلمس اهتمامًا ملحوظًا بالرواية والشعر مقارنة بنقد النقد؛ أي قراءة الكتب النقديّة الصادرة حديثًا أو الدراسات الأدبيّة التي تعمل على تطبيق منهج من المناهج النقديّة؛ ولهذا، فإنّ حضور النقد الأدبيّ يصبح كما يكتب الناقد التونسي عبد الدائم السلامي في كتابه كنائس النقد، “جَرْدًا لمُكوّنات الرواية أو القصّة أو القصيدة مكتوبٌ بلغة تقريريّة، يصلح لكلّ نصّ مكتوب ولكلّ نصّ لم يُكتب بعدُ، بل ويصلح أيضًا لكلّ نصّ لن يُكتبَ أصلًا”. إنّ هذه الإشارة التي يوردها الناقد عبد الدائم السلاميّ تتّسم بالدقّة؛ لأنّها تظهر مواكبة حثيثة للإعلام الثقافيّ، وخصوصًا طبيعة النقد الذي يمارس من داخلها. هل يعني هذا أنّنا خرجنا من مرحلة، كانت فيها الصفحات الثقافيّة تشكّل فضاء للسجال وإبداع تصوّرات نقديّة كان لها صدى في الجامعات؟ أم أنّها تحوّلت بموجب العولمة، وخطاب التسليع إلى ممارسة ثقافيّة تسعى لأن تقدّم لقارئها نصوصًا بهدف تحقيق التواصل، وإنتاج قارئ مستهلك. ومن ثمّ يصبح التبادل الرمزيّ بينهما مرتبط بكلّ ما هو جديد من النصوص الأدبيّة، ولاسيّما ع ظهور فكرة الجائزة وضغط الميديا؛ حيث تسعى الصفحات الثقافيّة إلى تقديم قراءات تتّسم بالتسرّع وهيمنة الموضوع أو محاولة نسف العمل الأدبيّ بهدف تقويض الجائزة من الداخل ونزع شرعيّة التحكيم عن اللجان، أو بهدف كسب شهرة واسعة في ظلّ انتشار هذا النوع من المقالات التي تتصيّد بعض الهفوات، ويمكن التمثيل على ذلك اعتماد بعض الروائيّين على الويكبيديا من دون الإحالة على ذلك في النصّ، وما واكب هذا التوظيف من شكّ في روائيّة بعض الكتّاب والكاتبات، وكذا انبهاره بجنس أدبيّ معيّن، وبعوالم تخييليّة معيّنة قد ترتبط في كثيرًا من تصويرها التخييليّ بالآخر، من دون القدرة على الإبداع من المحليّ. يتابع الناقد عبد الدائم السلاميّ في هذا السياق: “هذه الخصوصيّات الثقافيّة للنصوص الأدبيّة أمرٌ يجب ألاّ يكون سببًا لتفضيل نصٍّ منها على آخر وَفْقَ ما شاع بين الناس من إعلاءٍ زائفٍ لثقافات بعينها على حساب ثقافات أخرى، وإنّما الحقيقة الممكنة في هذه المسألة هي أنّ بعضَ الثقافات قد تقترح في أوقات ازدهارها الحضاريّ على ثقافات أخرى بعضَ المفاهيم والرؤى الفكريّة التي تُفيد مسارات هذه الأخيرة الإبداعيّة، والعكس ممكن أيضًا. وما تلك الخصوصيّات من كلّ نصٍّ إلا سبيلُه إلى أن يكون لونًا من ألوان حديقة الإبداع الأدبيّ داخل دائرة مجتمعه الثقافيّ من جهة، وداخل مجتمع الثقافة الإنسانيّة من جهة ثانية. فالأدب محلّيٌّ بالضرورة، وبقدر ما يُخلِص لمَحَليّه يستطيع مخاطبةَ الإنسانيِّ في الإنسان، ويكون بذلك أدبًا عالميًّا، بمعنى أنّه يمثّل زهرة من باقة الأدب البشريّ”.