جوانب مخفيّة عن أبي نؤاس

من بديه القول إن سيادة العقل الأسطوري وانتشار الأفكار اللامنطقية الخالية من الأدوات والضوابط المعرفية الحديثة، ساهما بشكل فعال بإنتاج نمطية العقل الجمعي في تكوين النهج الميثولوجي القائم على ميثولوجيا الأخبار وانتشارها في المجتمع والتصاقها بأحداثه وأفراده ومتغيراته.

فلو ان فكرة من الأفكار لا وجود لبرهان لها أصلا تلامس مجتمع العقل الجمعي القائم على الأفكار الميثولوجية، فلا غرابة أن نجدها تشيع بينه بسرعة؛ بل وتلتصق به الى حد الصفة الملازمة.

ومن هنا فإننا لا نتفاجأ لو أن صفة من الصفات العديدة التي يتسم بها أحد الأفراد شاعت بين هذا المجتمع دون أن تشيع صفاته الأخرى لوجدنا هذه الصفة تلتصق به التصاقا فريدا يغطي على بقية صفاته الأخرى حتى لو كانت صفاته مناقضة لها وحتى لو

أن أسبابها كانت واهية من حيث النقل والمنطق والعقل.

ومن هنا فان التصاق صفة ما بفرد من الأفراد يجب أن يكون متوافقا مع العقل أولا شرط أن يكون النقل نقلا لا يتصل بالعقل الجمعي العام.

من أجل ذلك يذهب الكثير من العلماء الى تحرّي الضوابط التي يمكن أن تظهر حقائق التفكير المجتمعي والفردي. وهذا ما نجده في القرآن الكريم؛ الذي يدعو الى التحرّي ونبذ العقل الجمعي الأسطوري الواهي، فيقول في بعض آياته (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا). وقال أيضا (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ).

وهو حثّ صريح من الله تعالى للناس على اتخاذ العقل الفردي المدجج بالحجج والبراهن المنطقية التي تتماشى مع الواقع وجعله  وسيلة فعالة في كل الأمور.

وعلى هذا فنرى ان الشائعات عندما يبثها البعض في المجتمع تتمتع بقدرات ذاتية قوية وفق ما يذهب الفيلسوف بلانشو قائلا (لشدة قوة الشائعة وما تحدثه من بلبلة، جعل اليونان منها إلهة من الآلهة. وبالفعل، فإن الشائعة تتمتع بقوة خارقة، وقوتها لا تكمن في ما تنقله وعمّن تنقله) كونها تتماشى مع العقل الجمعي الأسطوري.

ونحن أذا أردنا قراءة الشاعر العباسي أبي نؤاس وسيرته لزمنا أولا أن نتجرّد من العقل الجمعي الأسطوري وأن لا نغفل كل النقولات والصفات التي تناقلها المؤرخون عنه.

وإذا تتبعنا أقوال العلماء فيه فسنجد العجب العجاب؛ الأمر الذي يتنافى مع تلازم وصفه بالخمرة والمجون والخلاعة مطلقا.

فقد نٌقل عنه أنه كان متميزا في عدة علوم، لكن الشعر غلب عليها وغطاها. إذ ان شعر المجون الذي نقل عنه رغم سعة علمه أسقط منزلته بين الناس. فها هو إسماعيل بن نوبخت يقول فيه (ما رأيت قط أوسع علما من أبي نؤاس).

فقد كان أبو نؤاس شاعرا مقدما اتفق الكل على تقديمه. فاعترف له سفيان الثوري بالتقدم على من بعده.

وقال ابن منظور عن أبي ذكوان كنا عند الثوري فذكرت عنده أبا نؤاس فوضع منه بعض الحاضرين فقال له الثوري أتقول هذا لرجل يقول:

يخافه الناس ويرجونه

كأنه الجنة والنار

ويقول:

فما فاته جود ولا حلّ دونه

ولكن يصير الجود حيث يصير

 ويقول:

فتمشّت في مفاصلهم

كتمشّي البرء في السقم

إلى ما سوى ذلك. والله لقد لحق من قبله وفات من بعده.

ومنهم من جعله أشعر الناس كالجاحظ وأبي العتاهية وأبي تمام والبحتري وابن الاعرابي والأصفهاني جامع ديوانه وأبي المنذر. وورد أن ابا حاتم السجستاني قال فيه (كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نؤاس ولولا أن العامة استبذلت هذين البيتين لكتبتهما بماء الذهب وهما لأبي نواس:

ولو أني استزدتك فوق ما بي

 من البلوى لأعوزك المزيد

ولو عرضت على الموتى حياة

بعيش مثل عيشي لم يريدوا).

والأكثر من هذا قول ابن دريد فيه (إن جدّ حسن وان هزل ظرف وان وصف بالغ يلقي الكلام على عواهنه لا يبالي من حيث).

وإردافا لما تقدم الحديث عنه فهناك جوانب مخفية في سيرة وأشعار أبي نؤاس بسبب ما ذكرناه.

فقد نقل أبو العتاهية أنه قال: قلت عشرين ألف بيت في الزهد وودت ان لي مكانها الأبيات الثلاثة التي قالها أبو نواس:

يا نواسيّ توفر 

وتعزّى وتصبّر

ان يكن ساءك دهر

ان ما سرّك أكثر

يا كبير الذنب

عفو  الله من ذنبك أكبر

وهو القائل بعد:

يا ربّ إن عظمـت ذنوبي كثرةً

فلقـد علمتُ بأن عفوك أعظمُ

إن كان لا يرجوك الا مؤمنٌ

 فبمن يـلوذ ويستجيـر المجرمُ

أدعـوك رب كما أمرتَ تضرعاً

 فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ

مالي إليك وسيلةٌ إلا الرجا

 وجميل عفوك ثم إني مسلمُ

كما ينسب له الأبيات المشهورة:

وما الناس الا هالك وابن هالك

وذو نسب في الهالكين عريق

 إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت

له عن عدو في ثياب صديق

وشهد له الجاحظ أيضا بأنه أعلم الناس باللغة وأفصحهم لهجة وأحلاهم عبارة وأبعدهم عن الاستكراه في الألفاظ.

ويرجع ابن منظر يخبرنا أنه سأله والبة ان يخرج إلى البادية مع وفد بني أسد ليتعلم العربية والغريب فأخرجه مع قوم فأقام بالبادية سنة ثم قدم ففارق والبة ورجع.

وهذا صاحب (تاريخ بغداد) ينقل انه اختلف الى أبي زيد النحوي فكتب عنه الغريب والألفاظ وحفظ عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أيام الناس ونظر في نحو سيبويه وانتقل إلى بغداد فسكنها حتى وفاته.

كما ينقل ابن خلكان عن إسماعيل بن نوبخت قوله (ما رأيت قط أوسع علما من أبي نواس ولا أحفظ منه مع قلة كتبه. ولقد فتشنا منزله بعد موته فما وجدنا له الا قمطرا فيه جزاز مشتمل على غريب ونحو لا غير).

أما علم الكلام فهو به خبير وفق ابن منظور؛ الذي يؤكد أنه ذو معرفة بالكلام وهو ما يدل عليه نبذ من شعره منها أبياته الأربعة المشهورة:

يا عاقد القلب عنّي

 هلا تذكرت حلّا

تركت مني قليلا

 من القليل أقلّا

يكاد لا يتجزّى

أقلّ في اللفظ من لا

ولا يقتصر الأمر على هذا فحسب؛ لأن أبا نؤاس تعداه لغيره من العلوم والفنون ومنها علوم القرآن وتفسيره فكان قارئا للقرآن مجيدا حتى شهد له شيخه يعقوب الحضرمي أنه (اقرأ أهل البصرة)؛ ولا عجب؛ لأنه نشأ فيها وقرأ القرآن عليه؛ فلما حذق القرآن رمى اليه يعقوب بخاتمه وقال له (اذهب فأنت أقرأ أهل البصرة).

ولمّا يبلغ أبو نؤاس الثلاثين حتى امتلك ناصية العلم والأدب والنحو واللغة والفلسفة وعلوم القرآن والكلام؛ فكان ذا معرفة بأحكام القرآن وذا بصيرة بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه قبل أن يروم السفر الى بغداد حيث تسلح بكل هذه المعرفة ليطاول علماءها وشعراءها القابعين في البلاط العباسي.

وأن أشهر ما اتفق عليه العلماء هو معرفته بعلم الحديث، فقد كان راويا للحديث؛ رواه عن عدة من المشايخ؛ فذكره النجاشي في ترجمته. وقد أورد أن فارس بن سليمان الأرجاني صنّف كتابا بعنوان (مسند أبي نواس). وروى عنه الحديث وغيره جماعة؛ ومنه أن حماد بن سلمة رفع عنه إلى أنس بن مالك حديثين مسندين إلى النبي صلى الله عليه وآله أحدهما (لا يموتنّ أحدكم حتى يحسن ظنه بالله فان حسن الظن بالله ثمن الجنة)؛ رواه ابن عساكر من طرق متعددة. وثانيهما ( لكل نبي شفاعة واني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة).

ومن طريف القول في الدلالة على طغيان الشعر على بقية علوم وفنون أبي نؤاس، قوله الحديث على شكل شعر مثل ما يروي ابن عساكر في (تاريخ دمشق):

ولقد كنا روينا  عن سعيد عن قتاده

عن سعيد بن المسيب  ثم سعد بن عباده

 وعن الشعبي والشعبي  شيخ ذو جلاده

وعن الأخيار يحكيه  وعن أهل الوفاده

ان من مات محبّا  فله أجر الشهاده

وربما يكون سبب ما اقتصر وصف أبي نؤاس عليه بالمجون وإلصاق ذلك به هو حسد الشعراء له؛ إذ ينقل عن محمد بن عمر قوله (لم يكن شاعر في عصر أبي نواس الا وهو يحسده لميل الناس اليه وشهوتهم لمعاشرته وبعد صيته وظرف لسانه) وهو دليل على تقدمه عليهم. بالاضافة الى ذلك (تشيّعه)، وفق ما ينقل ابن شهر آشوب في (المعالم) قوله :(كان يميل مع أهل البيت سرا لا يجسر على المجاهرة به وقد قيل له في إعراضه عن مدحهم لقد ذكرت كل معنى في شعرك وهذا علي بن موسى الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئا. فقال: والله ما تركت ذلك إلّا اعظاما له وليس قدر مثلي ان يقول في مثله وأنشد:

قيل لي أنت أحسن الناس طرا

في فنون من الكلام النبيه

لك من جيّد القريض مديح

يثمر الدرّ في يدي مجتنيه

فعلى ما تركت مدح ابن موسى

والخصال التي تجمّعهن فيه

قلت لا أستطيع مدح امام

كان جبريل خادما لأبيه

وورد في أشعاره ما يدل عل كونه فيلسوفا وله باع في هذا الفن لما احتوته من ألفاظ وعبارات ومصطلحات فلسفية خاصة بالمتضلعين بالفلسفة وأهل الحكمة وأصحاب الطبائع منها قوله:

حتى بدت حركاتي  مخلوقة من سكون

وفي هذا ينقل ابن منظور عن النظام قوله (لما سمعت هذه الأبيات نبهتني لشيء كنت غافلا عنه حتى وضعت كتابا في الحركة والسكون). كما يوافق الجاحظ ذلك أيضا.

وغير بعيد أن يكون شعر أبي نؤاس متصلا بالتصوّف كونه صاحب نظر بعلم الكلام والفلسفة وقد درس القرآن والتفسير والحديث كما رأينا، ولعل ما ينقله البهائي في كشكوله إشارة لهذا المعنى؛ إذ حكي انه ذكر للرشيد قول أبي نواس:

فاسقني البكر التي اعتجرت

بخمار الشيب في الرحم

فقال لمن حضره ما معناه؛ فقال أحدهم ان الخمرة إذا كانت في دنّها كان عليها شيء مثل الزبد وهو الذي أراده. وكان الأصمعي حاضرا فقال يا أمير المؤمنين إن أبا علي (أبا نواس) رجل خطر وان معانيه لخفية فاسألوه عن ذلك فأحضروه وسئل؛ فقال: إن الكرم يكون عليه شبيه بالقطن. فقال الأصمعي ألم أقل لكم ان أبا نواس أدقّ نظرا مما ذكرتم.

فلا عجب إذا قلنا إن بعض أشعار أبي نؤاس إن لم تكن كلها هي إشارت مجازية صوفيه رمزية لا تمت بلفظه الظاهري الى الواقع.

وفي الختام من الضروري أن نقول إن إلصاق صفة من الصفات بأي فرد يتصف بصفات أخرى قد تكون مغايرة لها إضافة لرمزية هذه الصفة وإمكانية ترجمتها لمعاني أخرى مختلفة، لهو ضرب من الظلم والإيغال.