جوزيف عون رئيسا : لبنان ما بعد الأعاصير!

زلازل سياسة في المنطقة وتغيّر موازين القوى الداخلية والإقليمية

9 كانون الثاني (يناير) 2025، انتخب مجلس النواب اللبناني، قائد الجيش العماد جوزيف عون، الرئيس الرابع عشر للجمهورية. كان شغور في هذا المنصب، دام لأكثر من عامين ونصف، أفقد البلاد توازنا دستوريا وسياسيا موجعا. جرت مياه كثيرة دراماتيكية في الشرق الأوسط خلال هذه المرحلة، ابتداء من عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين (أكتوبر) 2023، انتهاء بسقوط نظام بشّار الأسد في سوريا في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024. قبل عملية الانتخاب شهد لبنان

تقاطع لبناني عربي دول: جوزيف عون رئيسا

حربا إسرائيلية كارثية زادت من أزمة البلد، وغيّرت من توازنات لبنان السياسية الداخية المتأثرة بتغير بتوازنات قوى الحلّ والعقد في المنطقة والعالم. بدا أن لبنان احتاج إلى هذه الأعاصير الكارثية، وإلى تدخل العواصم بشكل مباشر ووازن من أجل إعادة نصاب الأمور واستعادة منصب الرئاسة في البلد حيويته وصلاحيته ودوره الأول.

الرئاسة في ظل الوصايات

لطالما اشتكت بعض المنابر المسيحية في لبنان من ظلم أصاب موقع الرئاسة في لبنان بعد اتفاق الطائف. بنى “التيار العوني” سردياته على هذه المظلومية على قاعدة أن اتفاق عام 1989 سلب من الموقع المسيحي الأول صلاحيات كان يتمتع بها منذ قيام الجمهورية. وفيما منح الأمر حجّة للرئيس مذاك بالتعذّر بالقدَر لتبرير قلّة الحيلة، على طريقه “ما خلونا”، فإن للتاريخ أدلّة عن احتفاظ الموقع بالأهمية السامية التي تفسّر الأزمات الكبرى التي شهدها البلد كلما اقترب استحقاق انتخاب رئيس جديد

لا تتغير هذه القاعدة عن ظروف انتخاب الرئيس الجديد للبنان. وعلى أساس هوية هذا الرئيس تتحدد سمات الهوية السياسية المقبلة للبلد. ولو كان منصب الرئاسة صوريا، لما احتاج البلد إلى نزف دموي حين قررت وصاية دمشق التمديد لحليفها إميل لحود، ولما ذهب السلاح إلى وقاحته الكبرى في 7 أيار (مايو) 2008 لعقد صفقة انتخاب ميشال سليمان ولا أوصدت أبواب البرلمان لفرض انتخاب ميشال عون عام 2016.

جرت أعراف انتخاب رئيس الجمهورية منذ “الطائف” تحت قواعد وصايتين. واحدة تعلّب الاستحقاق في دمشق حتى عام 2005، عام خروج القوات السورية من لبنان. وواحدة تُفرض من طهران من خلال جلافة قوة يفرضها حزبها في البلد. وبدت تلك المواعيد منتجة لوجوه رئاسية تتّسق مع تلك المرحل وموازين قواها الإقليمية والدولية. والأمر لم يكن جديدا على حكايات الانتخابات الرئاسية منذ الاستقلال، وندر أن كانت صناعة الحدث محلية القرار متحرّرة من أجندات الخارج.

لا شيء جعل من الانتخابات الرئاسية الأخيرة خارج هذه التقاليد وهذا المألوف. فلا يملك البلد أساسا مقومات معاندة “لعبة الأمم” وحراك بيادقها. وإذا ما كان مطلوبا من الرئيس اللبناني أن يكون ثمرة الموازين الخارجية قبل الداخلية، فقد خرجت من صناديق الاقتراع في مجلس النواب اللبناني، واجهة تتّسق مع ما أنتجته الزلازل الإقليمية منذ “طوفان الأقصى” في غزّة، مرورا بالحرب الأخيرة في لبنان انتهاء بسقوط نظام بشّار الأسد في سوريا مطلع الشهر الماضي.

تغيرت جدا موازين القوى ولا يملك لبنان، رغم عناد بعض تياراته ومكابرتهم، أن لا يأخذ ذلك بعين الاعتبار. فقدت طهران بعد دمشق جدارة الإملاء على برلمان البلد ومشهده السياسي، كما فقدت العاصمتان وجاهة أن يأتي رئيس لبنان متّسقا مع أجنداتهما. وإذا ما أظهر “الثنائي الشيعي” معاندة، فإنها تبدو شكلية، تشتري الوقت، وربما الوهم، لاجترار زمن ولى. ولئن تنكفئ طهران وترتبك بانتظار ما تحمله الإدارة الجديدة في واشنطن، فإن دمشق تعلن في حدثها الكبير واقعا جديدا، على بيروت أن تتأمله بعناية وتستخلص دروسه وتداعياته على لبنان.

وجب على الرئيس الجديد للبنان أن يدرك أن الحدث السوري هو تحوّل إقليمي دولي جامح لا يبقى للبلد إلا الالتحاق به. تكفي مراقبة الاحتضان، في نسختيه، العاجلة والمتدرّجة، من قبل تركيا والعالم العربي وعواصم القرار الدولي، لاستنتاج أن العالم يتموضع من جديد على توقيت دمشق. تفقد طهران وموسكو، بنسب مختلفة، نفوذا في الشرق الأوسط وإطلالة محتملة على البحر المتوسط. يتقدم العالم العربي لاحتلال حيّز واسع مما كان قبل أسابيع فقط داخل نفوذ إيران منذ عقود. تدق أوروبا والولايات المتحدة أبواب العاصمة السورية راسمة من هناك خرائط جديدة، وربما طويلة الأجل، لتوازنات الكوكب.

أمام لبنان فرصة تاريخية، وربما مجانية، لاستعادة وجهة فقدها في عهود الوصايات القهرية المباشرة. فرصة لا تحتمل الانزلاق مجددا إلى ارتكاب خطيئة الجزع من ركوب التحوّلات الكبرى عبر الخضوع لصفقات لا تقرأ التاريخ، على منوال تخريجة “الاتفاق الرباعي” عام 2005. فكان لا بد أن لا يرأس لبنان وجها مستفزّا للعالم العربي مستهترا بتبدل الأوزان في هذا العالم. وكان لا بد أولا وأخيرا أن لا يأتي رئيس يعاكس رياح سوريا الجديدة ولا يكترث بتغير البوصلة هناك، بما في ذلك وعد قائد الإدارة الجديدة هناك، أحمد الشرع، “بأن “سوريا لن تكون حالة تدخل سلبي في لبنان على الإطلاق وستحترم سيادته ووحدة أراضيه واستقلال قراره واستقراره الأمني”.

أجواء من قبل الجلسة

سلط المراقبون مجهرا على تداعيات سقوط النظام السوري على آليات العملية السياسية، لا سيما في مسألة انتخاب رئيس للجمهورية. أتى الأمر معطوفاً على ضعف قبضة إيران من خلال حزب الله على لبنان، ما حرر البلد من الوصايات

مداولات الساعات الأخيرة أنتجت رئيسا في لبنان

التي عرفها منذ انتهاء الحرب الأهلية وإبرام اتفاق الطائف. فما هي المعطيّات المتوفرّة واحتمالات هوية الرئيس المقبل كمفتاح لإعادة تشكيل السلطة في لبنان؟

في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، أي بعد يوم واحد من بدء سريان وقف إطلاق النار في لبنان، حدد رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، تاريخ 9 كانون الثاني (يناير) 2025 موعدا لانتخاب رئيس للجمهورية، على أمل أن ينهي ذلك فراغا في سدّة الرئاسة بدأ منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق، ميشال عون، في 30 تشرين الأول (اكتوبر) 2022. كان آموس هوكستاين، مستشار الرئيس الأميركي، الذي توسّط للوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، قال إن مهمته تشمل تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية، ما يعني أن إنهاء الشغور الرئاسي بات ملفاً ضروريا مكمّلا للتدابير المتعلقة بتنفيذ القرار الأممي رقم 1701. أنعش تعيين موعد للانتخابات الرئاسية الآمال بانتخاب رئيس يكون خارج سلطة الوصاية الخارجية بعد الضعف السياسي والعسكري الذي أصيب حزب الله به إثر الحرب الأخيرة.

ومنذ تولي دمشق أمر لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990)، تمّ انتخاب رؤساء وفق إرادة هذه الوصاية. وبعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، تولّت إيران عبر حزبها فرض توازنات لاختيار اسم الرئيس. ويمثل سقوط نظام بشّار الأسد وزوال النفوذ الإيراني في سوريا وضعفه في لبنان، مرحلة جديدة غيّرت من شكل الاصطفافات السياسية، بحيث خرجت كثير من الكتل البرلمانية غير الشيعية من عباءة تحالف حزب الله وحركة أمل (الثنائي الشيعي)، ما يعني تبدّلا كبيرا في الخيارات على حساب مرشح الثنائي لمنصب الرئاسة.

على رغم من الضعف الذي أصاب “الثنائي” بعد الحرب الأخيرة، غير أن “حزب الله” و “حركة أمل” استمرا في دعم سليماني فرنجية مرشحا وحيدا لهما. وإضافة إلى أن فرنجية هو حليف “الثنائي”، غير أنه كان يقدم نفسه دائما بصفته “الصديق الشخصي للرئيس بشّار الأسد”. وقد أطاح سقوط النظام السوري بحظوظه نهائيا.

لم يُسقط الثنائي رسميا ترشيح فرنجية، لكن المعلومات كانت تقول إن المرشّح سيعلن سحب ترشّحه بنفسه وأن

الموفد الفرنسي جان إيف لو دريان: هكذا قررنا

“الثنائي”، بشخص بري، يسعى للتواصل مع بقية الكتل البرلمانية للتوافق على اسم بديل يمثّل توافقا بين كل التيارات السياسية. وقد جرى تداول أسماء يمكن الاختيار منها، من أمثال جوزيف عون والياس البيسري وزياد بارود وجورج خوري وفريد الخازن. وكانت المعلومات تقول إن أجواء “الثنائي” توحي بدعم ترشيح المدير العامّ للأمن العامّ بالوكالة الياس البيسري، وهو ترشّح يدعمه جبران باسيل (رئيس التيار الوطني الحر) ويرفضه سمير جعجع (رئيس حزب القوات اللبنانية).

تقدم اسم جوزيف عون، قائد الجيش اللبناني، بصفته المرشح الأبرز الذي قد ينال موافقة أغلب الكتل البرلمانية، خصوصا أنه يتمتع بدعم غير معلن من قبل الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية. ورغم ظهور أعراض عداء لهذا الخيار من قبل حزب الله، غير أن موقف “الثنائي” أكد أنه، على الأقل، لن يضع “فيتو” على انتخابه. وعلى الرغم من تأكيد مراجع سياسية لبنانية على ضرورة انتخاب رئيس توافقي، كان سيمر جعجع، رئيس “حزب القوات اللبنانية” يلوّح باحتمال الترشّح “إذا ما حظي بالقبول”. وكان صدَرَ موقف عن نائب رئيس “القوات” يلمّح إلى عدم حماسة حزبه لانتخاب الرئيس في موعد الجلسة المعلن.

وكان مسعد بولس (الذي عينه الرئيس دونالد ترامب مستشارا للشؤون العربية وشؤون الشرق الأوسط)،تحدث في 1 كانون الأول (ديسمبر) 2024 قد تحدث بشأن الملف الرئاسي، وقال إنه “موضوع شائك ومهم ويجب العمل عليه بدقة من دون تسرّع بشكل غير مدروس بحكم الحرب، فمرحلة وقف إطلاق النار تجريبية والانتخابات ليست من مسؤوليتنا بل من مسؤولية البرلمان”. وأضاف: “من صبر أكثر من سنتين على الفراغ، يمكن أن يصبر شهرين أو ثلاثة ويعمل على الأمر بشكل متكامل ودقيق بعيداً عن التسرع”.

وقد أوحت رسالة بولس إلى لبنان حينها بعدم الاستعجال، ما أثار أسئلة بشأن نهائية موعد الجلسة التي حددها بري.

الحرب الأخيرة خلقت أجواء ضاغطة لانتخاب عون

ورأى مراقبون حينها أن تلميح “القوات” بعدم الحماسة لتلك الجلسة، قد يكون تأثّرا بهذه الأجواء وربما بأجواء إقليمية تدعو إلى التريث بانتظار وضوح الوضع السوري وما سيغيره من موازين قوى جديدة إقليمية ودولية ستتداعى حكما على الداخل اللبناني. ومع ذلك جرت الانتخابات الرئاسية في موعدها وفق مشهد جديد لموازين القوى.

رياح ضد قائد الجيش

كان مجلس النواب قد فشل في انتخاب رئيس جديد في الجلسات التي حددت سابقا، بسبب تشظي الكتل البرلمانية، وتمسّك كافة الأطراف بمرشحيهم، وعدم التوافق الداخلي على مرشح تسوية، وعدم التوافق الخارجي على اسم مشترك. وكان معروفا أن ترشّح قائد الجيش يعاني من إشكالية دستورية.  فالدستور اللبناني يمنع أي موظف في الدولة من الترشّح إلا بعد مرور 6 أشهر على مغادرته منصبه. ووفق هذا الشرط، كان يحتاح عون إلى تمرير تعديل دستوري، لمرة واحدة، في مجلس التواب. ويحتاج هذا التعديل إلى موافقة ثلثي المجلس، أي 86 نائبا، وهو عدد غير متوفّر إذا لم يجر توافق سياسي مسبق.

رشحت معلومات قبل أيام من جلسة الانتخاب عن دعم قطر عون أيضا، لكنها في حال تعذّر انتخابه، تدعم انتخاب الياس البيسري، مدير عام الأمن العام بالوكالة. والبيسري مقبول من قبل الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) في حال تخلى عن مرشحه الأساسي، سليمان فرنجية.

ضعفت حظوظ فرنجية بسبب التصدّع الذي أصاب “الثنائي” بعد الحرب الأخيرة، وانعدمت هذه الحظوظ خصوصا بسبب سقوط النظام السوري. وكان فرنجية يقدم نفسه بصفته صديقا شخصيا للرئيس السابق بشّار الأسد. كان بري قد كشف عن عدم رغبته في دعم جوزيف عون، ويشاطره في ذلك رئيس التيار الوطني الحر (العوني)، جبران باسيل. غير أن حزب الله أعلن في 5 يناير، على نحو مفاجئ، وعلى الرغم من أجواء عدائية سابقة، عن عدم ممانعته انتخاب عون، مقابل ممانعته انتخاب سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية. ورأى مراقبون أن موقف الحزب أُرفق بأجواء أخرى تقول إنه متمسّك بوحدة الموقف مع بري، وأنه إذا استمر بري بمعارضة انتخاب عون، فإن الحزب لن يعاكس رغبته. واعتبر هؤلاء المراقبين أن موقف الحزب تجاه عون هو مجرد مناورة.

لم يحظَ عون بدعم باسيل، لأن “التيار العوني” أخذ على قائد الجيش رفضه لتوجهات الرئيس ميشال عون بزجّ الجيش لقمع التظاهرات التي اندلعت ضد النظام السياسي اللبناني ابتداء من 17 تشرين الأول 2019. ولم يكن يحظى عون

زلزال “طوفان الأقصى: ارتدادات أصابت لبنان

بدعم “الثنائي” عامة، على الرغم من موقف الحزب الأخير، بسبب الدور الذي سيلعبه الجيش بديلا لسلاح حزب الله وفق اتفاق وقف إطلاق النار، وبسبب دعم الولايات المتحدة لترشحه.

وكانت الولايات المتحدة وفرنسا تدعمان جوزيف عون، لكن فرنسا روّجت أيضا للمصرفي اللبناني سمير عساف بديلا. فيما راج أن السعودية والولايات المتحدة تدعمان (بديلا عن عون) الوزير السابق، أحد مدراء صندوق النقد الدولي الكبار، جهاد أزعور.

عشية وصول الموفد الرئاسي الأميركي، آموس هوكستاين إلى بيروت في 6 كانون الثاني (يناير) أي قبل 3 أيام من موعد جلسة الانتخاب، التقى بوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، في الرياض، ما فُسّر بأنه تشاور وتنسيق بين واشنطن والرياض بشأن الاستحقاق الرئاسي في لبنان. وتحدث بعض المعلومات حينها عن أن السعودية سترسل وفدا ثانيا إلى بيروت ما كشف عن اهتمام الرياض بالانتخابات الرئاسية ورغبتها في لعب دور مقرر في هذا الصدد وأكثر حيوية، لا سيما بعد ضعف النفوذ الإيراتي في أعقاب سقوط النظام السابق في سوريا.

نزال خارجي لانتخاب رئيس

بعد أكثر من عامين ونصف من الشغور الرئاسي في لبنان، وقبل ساعات من جلسة الانتخاب، نجح توافق داخلي بضغوط خارجية استثنائية في ذهاب أغلبية كبرى من أعضاء البرلمان إلى انتخاب قائد الجيش اللبناني، جوزيف عون، رئيسا للجمهورية في 9 يناير 2025 بأغلبية 99 صوتا من أصل 128 نائبا. فما هي المعطيّات التي أدت إلى تسجيل هذا الخرق، على الرغم من فشل وساطات عربية ودولية حثيثة سابقة في تحقيق ذلك؟

ليست المرة الأولى التي ينُتخب فيها قائدا للجيش رئيسا. سبق لقادة الجيش، فؤاد شهاب، وإميل لحود، وميشال سليمان، وميشال عون أن تبوؤا منصب الرئاسة في مراحل زمنية متعددة في تاريخ لبنان الحديث. وعلى الرغم من اجتهادات دستورية، فإن عملية انتخاب جوزيف عون تُعدُّ خرقا للدستور الذي ينصّ على عدم جواز انتخاب موظف في الدولة إلا بعد مرور 6 أشهر على مغادرته منصبه، وأن غير ذلك يحتاج إلى تعديل دستوري يصادق عليه ثلثي مجلس النواب على الأقل. لكن بعض المراجع اعتبرت أن حصول جوزيف عون على تصويت لانتخابه رئيسا بأغلبية تتجاوز ثلثي مجلس النواب (86 نائبا)، يُعد بحدّ ذاته تصويتا غير مباشر على تعديل الدستور (لمرة واحدة) لصالح شرعنة ترشّح عون وانتخابه.

وحتى الساعات الأخيرة ما قبل جلسة الاقتراع، كانت الأجواء توحي بصعوبة توفير أغلبية كافية لانتخاب قائد الجيش بسبب رفضه من قبل بري، ممثلا للثنائي الشيعي، وجبران باسيل، ممثلا للتيار العوني (المسيحي)، وبسبب تردد بعض الكتل المعارضة لأسباب مختلفة. وارتفعت مقابل ذلك حظوظ جهاد أزعور. ولم يجر هذا “الانقلاب” في اللحظة الأخيرة لصالح عون، إلا بعد تدخل خارجي مباشر غير مسبوق في لهجته.

قالت المعلومات في ذلك الوقت إن السفير السعودي في لبنان، وليد البخاري، أجرى خلال الأسابيع الأخيرة التي سبقت جلسة الانتخاب اتصالات مكثّفة مع كافة النواب السنّة، لا سيما القريبين من الثنائي الشيعي، وحصل على التزامهم بالتوجهات السعودية في مسألة انتخاب الرئيس. وكشفت معلومات أخرى أن السعودية أرسلت قبل أيام من تلك الجلسة وفدا، برئاسة الأمير يزيد بن محمد بن فهد الفرحان، جال على القوى الرئيسية في البلد ملمّحا بشكل غير مباشر وموارب إلى انتخاب عون رئيسا.

من جهته سلك الموفد الرئاسي الأميركي، آموس هوكستاين، السلوك السعودي في الإيحاء برغبة واشنطن في أن يكون عون رئيسا، مقرنا هذا الموقف بعدم ممانعة وجود بدائل أخرى. وبدا أن اللجنة الخماسية المؤلفة من الولايات المتحدة، فرنسا، السعودية، قطر، مصر، كلفت الموفد الفرنسي بالإفراج الصريح عن الموقف العربي الدولي بجلاء وفجاجة ووضوح.

وقد كشف مصدر نيابي أن الموفد الرئاسي الفرنسي، جان إيف لودريان، قاطعهم بحدّة بشأن إمكانية البحث عن بديل عن عون، وأعلن بشكل حازم أن الخيار الأول والثاني والثالث.. هو جوزيف عون، “ولن نقبل أي بديل”. وتقول معلومات أخرى إن نوابا احتجوا لدى لودريان على هذه “الإملاءات”، وأن الموفد الفرنسي أجاب أنه بعد فشل القوى اللبنانية في انتخاب رئيس، اختارت اللجنة الخماسية، “وهذا هو قرارنا”.

بعد تصريح لأحد مسؤولي حزب الله (وفيق صفا)، في 5 كانون الثاني (يناير) 2025،  بإن الحزب لا يعترض على ترشيح قائد الجيش لرئاسة الجمهورية، لكن الاعتراض الوحيد هو على رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، زار لودريان رئيس كتلة الحزب البرلمانية، محمد رعد، في مقره في الضاحية. ونقل عن رعد قوله إنّ “الحزب لن يقف عائقاً أمام إجماع اللبنانيين على اسم رئيس للجمهورية”. وبعد زيارة لودريان لمقر جعجع لاحقا، تنادى نواب المعارضة، في 8 يناير، إلى اجتماع في نفس المقر، وأصدروا بيانا يدعم فيه التصويت لقائد الجيش، ما يعني تخلي جعجع عن احتمالات كانت ظهرت لترشّحه. وقبل الجلسة، ظهر تحوّل الثنائي الشيعي جليا في إعلان مرشح الثنائي للرئاسة، سليمان فرنجية انسحابه من السباق ودعمه لقائد الجيش.

وجب الإشارة إلى أن عملية انتخاب رئيس في لبنان جرت هذه المرة بعد زوال نظام حزب البعث في سوريا الذي حكم البلاد منذ عام 1963، مرورا بمرحلة الأسد، الأب والابن، التي انتقلت من الوزن الإقليمي إلى إملاء وفرض اسم الرئيس في لبنان. كما جرت عملية الاقتراع بعد حرب مدمّرة إسرائيلية شهدها لبنان، أضعفت بشكل كبير البنى العسكرية لحزب الله، كما أضعفت زخمه السياسي، بسبب الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي سببتها الحرب داخل البيئة الشيعية، بحيث اضطر الحزب إلى الخضوع للضغوط الداخلية والخارجية.

جرت هذه الانتخابات أيضا في ظل ضعف سطوة النفوذ الإيراني في لبنان بعد ان فقدت طهران نفوذها بشكل كامل في سوريا. ويُعتقد أن طهران لم تمنع حزبها في لبنان، لدواعي إيرانية، من الاستجابة للضغوط الدولية، الأميركية الفرنسية السعودية. فيما أظهرت آراء مختلفة من المجتمع اللبناني قبولا كاملا بالتدخل الدولي لانتخاب رئيس للبنان، وعدم ثقتهم بقدرة الطبقة السياسية اللبنانية على تحقيق ذلك.

لا شيء جعل من الانتخابات الرئاسية الأخيرة خارج هذه التقاليد وهذا المألوف. فلا يملك البلد أساسا مقومات معاندة “لعبة الأمم” وحراك بيادقها. وإذا ما كان مطلوبا من الرئيس اللبناني أن يكون ثمرة الموازين الخارجية قبل الداخلية، فقد خرجت من صناديق الاقتراع في مجلس النواب اللبناني، واجهة تتّسق مع ما أنتجته الزلازل الإقليمية منذ “طوفان الأقصى” في غزّة، مرورا بالحرب الأخيرة في لبنان انتهاء بسقوط نظام بشّار الأسد في سوريا مطلع الشهر الماضي.

تغيرت جدا موازين القوى ولا يملك لبنان، رغم عناد بعض تياراته ومكابرتهم، أن لا يأخذ ذلك بعين الاعتبار. فقدت طهران بعد دمشق جدارة الإملاء على برلمان البلد ومشهده السياسي، كما فقدت العاصمتان وجاهة أن يأتي رئيس لبنان متّسقا مع أجنداتهما. وإذا ما أظهر “الثنائي الشيعي” معاندة، فإنها تبدو شكلية، تشتري الوقت، وربما الوهم، لاجترار زمن ولى. ولئن تنكفئ طهران وترتبك بانتظار ما تحمله الإدارة الجديدة في واشنطن، فإن دمشق تعلن في حدثها الكبير واقعا جديدا، على بيروت أن تتأمله بعناية وتستخلص دروسه وتداعياته على لبنان.

منذ تولي دمشق أمر لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990)، تمّ انتخاب رؤساء وفق إرادة هذه الوصاية. وبعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، تولّت إيران عبر حزبها فرض توازنات لاختيار اسم الرئيس. ويمثل سقوط نظام بشّار الأسد وزوال النفوذ الإيراني في سوريا وضعفه في لبنان،  مرحلة جديدة غيّرت من شكل الاصطفافات السياسية، بحيث خرجت كثير من الكتل البرلمانية غير الشيعية من عباءة تحالف حزب الله وحركة أمل (الثنائي الشيعي)، ما يعني تبدّلا كبيرا في الخيارات على حساب مرشح الثنائي لمنصب الرئاسة.

بدا أن اللجنة الخماسية كلفت الموفد الفرنسي بالإفراج الصريح عن الموقف العربي الدولي بجلاء وفجاجة ووضوح. كشف مصدر نيابي أن الموفد الرئاسي الفرنسي، جان إيف لودريان، قاطعهم بحدّة بشأن إمكانية البحث عن بديل عن عون، وأعلن بشكل حازم أن الخيار الأول والثاني والثالث.. هو جوزيف عون، “ولن نقبل أي بديل”. وتقول معلومات أخرى إن نوابا احتجوا لدى لودريان على هذه “الإملاءات”، وأن الموفد الفرنسي أجاب أنه بعد فشل القوى اللبنانية في انتخاب رئيس، اختارت اللجنة الخماسية، “وهذا هو قرارنا”.