عند كل منعطف له خيمة . الآن عنده مقبرة، عنده كهف يرمي الآخرين بالورد من داخله . هذا حسام الصباح . دمعة تخرج من بهوها. لم تخرج الدمعة إلى لهوها . هذا دمع أولاد الجنوب .دمعة ، حصاة من ماء.ملاكٌ يمحو نفسه كلما سبح على الهواء و امتد.كلما امتدت الدمعة شَفَّت واختفت . كلما امتدت ضاقت غاباتها. معادلة لا ريب فيها .حسام كالدمعة، على الرغم من تشكك ملامحه بين الولادة والحفر . مولودٌ، محفور الملامح منذ الولادة . حفرٌ لا يخفي أن الجلد خفاء وأن
النبض لا يحدث تحت الثلج وحده .وجهٌ قديم ، عقلٌ حديث يمس الريح كلما تفكر صاحبه بقصة ، بقضية تساقط نثرها من جنوى أو بلاد ما بين النهرين. لا علاقة لعقله بكل أنواع وأصناف الخبل ، على الرغم من أنه لا يحدث صوتاً من وزنه ، ومن ما يزنه من وزنه حين يزن الأشياء والأدوات والخيل والنجم والنصائح من الأفواه البكماء . وجه متماسك . وجه لا يدور ، كالوجوه الدوارة . وجهٌ واضح بذقن محلوقة ، راحت المدينة تخفيه بذقن طارئة ، كثيفة ، تغري بالتماوت ، كلما أقام بالمدينة أكثر . لا يمتلك وجهاً دواراً ، لأنه لا يخرج مواقفه واعماله من بيض الديك . لا روايات فاسدة بحياة هذا الرجل . لا روايات ينتابها الدوار ، لأن رواياته كوجهه ، وجهها لا دوار . وجه داخل الليل في الليل من كثرة الأسرار ، من كثرة الإشارات ، من الأفعال الطارئة المتسللة من تحت أبواب العيون . لم يحدث أن ألقى بالتبعات على أحد وهو يكبو إذا كبا. عنده الكلمات حسبان الكلمات ، لا إطلاقها بأجسادها الطويلة . هكذا مر إلى معهد الفنون ، مر بقوة العقل ، من وجد سنابله بالكتب . هذا الرجل يقرأ بعنين خضراوين وهو يقف على دولاب من ورق . لم يحدق بأحد كما حدق بماء البحر من شرفة الصف بمنطقة الروشة ، حين وجد طلاب الفنون هناك ، تحت شمس الحرب الاهلية. لقاء أول بكلية التربية بمنطقة الأونيسكو ، حيث توجب على طلاب معهد الفنون أن يتواجدوا هناك ، لأنهم لم يمتلكوا مبناهم الخاص إلابعد أشهر . ضحكة واحدة ، عميقة كقبره ، ضحكة واحدة كفت ليصبح الزملاء أصدقاء، ثم رفاق . رفاق ، ما حاولوا سوى الذهاب إلى الغد . لا أي غد . غد يصنع بالإنشغالات الفكرية ، حين سقط الجميع بلوائح الأحزاب اليسارية ، لا بطيور الهلاك ولا بسواري النزق الطائفي . وجدحسام الصباح على كبد منظمة العمل الشيوعي . وجد على حطام البلاد ،وهويلملم كسور البلاد، من فوق الرؤوس . لم يمت الرجل منذ أيام ، مات منذ سنوات ، حين ومضت تلك الرصاصات الحارقة الخارقة المتفجرة في جسده . أطلق الرصاص رجال من تنظيم أراد امتلاك رأس البحر في بلاد الأبيض المتوسط بقوة السلاح والسياسات ذات الأفق الضيق . وحين أصابه الرصاص ، ظن هؤلاء أن الرجل بالطريق إلى النوم على الريح . انثقب جسده كما يثقب الدود تفاحة ، غير أنه اختفى خلف النعاس لكي لا ينام . مذاك لم يبق في رأسه سوى فكرة ، عنده الأفكار كالبشر تولد وتموت ، فكرة إخراج الأفكار من السلال ضد أطياف الرصاص المنطلق من الفوهات الساخنة إلى جسده الساخن النحيل ، بالطريق إلى الإنغراز العميق بلحمه الفتي . اندلق جسده كما يندلق الرمل بالساعة الرملية . لم يستمسك بروائح العثرة فيه .حين وجد بالجسد نجمة قطبية لاتبتعد إلا لتقترب ، إذا امتلكت هديل الروح . لم يخيم الثلج على روحه ، لا لأنها نضجت ، لأنها روح ضد العواء ، ضد الظلام . لم يروِ ما حدث أمام أحد . روى رفاق ما اختفى وراء أكمة هذا الرجل النحيل ، الصامت ، ذي الرأس الأعلى من ياقة قميصه . كأنه لم يحفل بما حدث ، لأنه لم يرد أن ينبري إلى الرواية سدى . ذلك أن الرواية عنده شروق متجدد ، ألف ذراع ترفع خيمة الحرب على رواية الحرب ضد الأشكال السائدة والألوان البائدة ، حرب على شيوخ البلاد ونوقها وجروفها وحروفها. سقط الرفاق على الرفاق بدون موعد وبدون حجز . سقطوا بدون اهتداء ، لأن ما قادهم إلى بعضهم تلألأ العقد الناري للماركسية اللبنانية . هكذا ، وجدنا كرفيقين بعيداً من الحلقات وهيئات القطاع . وجدا بالغريزة ، على الغريزة الطويلة، على جبهة البلاد العريضة . لم يحط أحدُ على البلاد كما يحط حمار على حقل حنطة. هو بالجنوب والآخر ببيروت.كل يشاكس على طريقته. ولا يلتقيان سوى على رقص تانغو الحرية بعد أن انسد الهواء بالترنح إذ تكرر بدون تكرير بذوره الحديدية ، ما لم ينضج إلا في مناقير غربان سلطة الطوائف، الخافقة بالكاد كحفارة تُصلِّع جبلاً يموت قلبه كلما خفق قلب الحفارة . ضحكة واحدة، ضحكة ضيقة ، عميقة، جمعت ما ضاع من نهارات وليالي على أسمنت الحرب الأهلية، بعد أن لوحظ وهو يقدم أوراق اعتماده بالمعهد، وهو يقود نفسه بخيطه الرفيع إلى الأصوات العالية في ما واره المبنى خلف الأبواب ، باحتراف سبق الإحتراف . لعله الأكثر تواضعاً بين رفاق الصف. لأنه كبيرهم . حسام الأكبر بالسنة التحضيرية بمعهد الفنون / الفرع الأول. عشر سنوات بين الرفيقين ، لأنه تأخر على الطريق وهو قادم من اقاصي سماء الجنوب . جاء إلى بيروت بمنتصف سبعينيات القرن العشرين كقروي لا صلة له بحقول الدخان . فتيٌ قشر هشاشته بالمنظمة ، حيث حجز له الموت مطرحاً بعد أن خانه بواقعة الموت الأول . لم يمت وهو بالعشرينات من عمره ، بعد أن صحا دمه على غفوته ، أو موته ما أوتي به ليرفرف وحسام بالأعالي، قبل أن يصاب بالذهول حين لم يجد ملاذاً بروح من بقي ينتظر الشوك لاستقباله ، كما ينتظر الزجاج جماجم ضحاياه . مات حسام في الثالثة والسبعين ، بعد أن بدا الاكثر بعداً من الموت . لم يحسب أحد لموته . هو نفسه ، لم يحسب لموته . جاءه الموت وهو يكتب ما تذكره على مدى السنوات الماضية بلحظة . موته أول اليقظة . لأنه حين أدرك أن السيارة تسبح بالهواء ، وضع نظارتيه الشمسيتين على عينيه لكي يرى يقظة الروح ، أول اليقظة عند آخر الغياب . لا كسائح يهوى الشمس وتهواه ، بوضع النظارة الشمسية كعلامة على الهوى هذا . جلادُ نفس ، يلقي الذخيرة الحية ، يراقصها بين أصابعه ، ثم يتركها تتراكض في كل صوب . هكذا ، ظلت قامته تتراقص بالفجاج كما لو أنه يقرع الصنوج ، لا كما لو أنه يطارد أرنباً. طارد الجميع الأرانب . وحين لم يجد أرنبه لم يسأل لم لا يجد أرنباً يطارده ولم يسأل ماالعمل . لأن سؤالاً من هذا النوع جرى طرحه على قامته ، مذ وجد جرح الجنوب غائراً بفضاء العالم . ومنذ وجد أن الرصاص لا يطلق من أجل فلسطين ، بل على أفق البلاد لتحول إلى مقبرة أو صحراء وهي تشيع شهداء الحروب الاهلية الصغرى بالحرب الأهلية الكبرى . أو يرشق كما ترشق الخواطر بعد الإحتفال بزيارة زعيم غرفة سنترال ، تم رفعها على وتد لا على فكرة . عصي على السهولة في معهد الفنون ، عصي على السهولة في تجارب راقصها كما تراقص الفواكه الأغصان . لا هدنة على أرض الفنون الحمراء . ثمة حكمة لم يعزها سواه وهو يداخل على الصعيدين النظري والعملي في تجارب، حين وجد فيها انوجدت. وحين اختفى منها اختفت ، كما لو أنها قارورة راحت الأمواج تتقاذفها شرقاً وغرباً ، على أمل أن تصل بعد ألف عام إلى واحد من شواطئ النجاة على شواطئ العالم . لم يجزم إلا حين تطلب الأمر الجزم ، لم يحزم ، لم يتهيأ، لم يقم ، لم يرحل ، لم يخرج من رحم نار هذه التجربة أو تلك ، إلا كما يخرج المحيط إلى المحيط .هكذا ، لم يتهافت على الإنضمام إلى كتيبة الجن في فرقة الحكواتي اللبنانية . توفر الأمر له ، إلا أنه لم يمد يداً إليها من وفرة الأيدي . وحين التقطت الفرقة مسرحياتها من ” بالعبر والإبر ” إلى ” من حكايات ٣٦” و” أيام الخيام ” بقي روجيه عساف يلتقطه من جنبات التجارب الأخرى وهو يراه لا على اهبة الدخول في الحكواتي ، على أهبة الدخول في نقاشات الفرقة وأحوالها وأعمالها كلسان حلزون طويل ، سريع ، ينزلق كما ينزلق الرمح بالهواء . لأنه وجد في قِدمِه، في التقاطاته، في خبرته ، في سلوكه الأصم عن سماع الآخرين، حكيم حكماء شخصيات جلال الدين العطار في “منطق الطير “. هذا من عمق هذا الرجل من امتلك العقل والعين والأذن ، من دولاب الحياة الدوارة فوق الخراب ، في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين .
إنه رجل التباشير عند الجميع . لا يقرع ولا يدخل . وإذا استدعي تردد . ثم يحضر كما لو أنه يسير بجواربه لا بحذائه ، لكي لا يطير الحذاء به.خفيف ، متواضع ، لم تسقط تباشيره من جيوبه ولا من لوائحه ، إذ تركها كالسنابل على صفحات التجارب ، كما لو أنه يشعل سيجارة محلية بعود ثقاب ، معدني الصوت . لم يشتغل بالحكواتي، ليظهر كأحد أسباب اخضرارها . هكذا ، اخرجه روجيه عساف من ماء الآخرين بملعقته الفاضلة ، حين وضعه على حواجزه مردداً مطالع أجمل الأغنيات على أطروحة تخرجه. تسلق حسام شكسبير ، حين تسلق رجال الحكواتي ونساؤها ما احتسته التجربة من حكايات وما اخرجته من وراء أبواب المناهج ، كما لو أنه سمك عابس وجب إلصاق الضحكات في فمه . تركه عساف على صخور الطيقان ، وهو يتسلى بمتونه ومنونه ، حين راح الحكواتيون يهدون الهياكل على شكسبير وبريشت وبيرانديللو وبيكت وكل فلاسفة المسرح الآخرين . تم تكسير صخورهم ، لكي تشع عين الجنرال روجيه عساف بفتكها المألوف للأشكال القديمة والأشكال المتربعة على عروش ظلالها . تمت إعادة بريشت إلى لحده ، بعد أن جرى محو تغريبه بصالح تدثر السهرة الشعبية . وبعد أن جرى محو راويه بصالح راوي السهرات الشعبية ، من يخرج من بَّلورة السهرة بنفسه وبالتفاف الساهرين حول الراوي ، المؤدي والمنشد والراقص والمعلق والمسامر ( ما أوجده رفيق علي أحمد في مونودراماته)وهو يمسك بنواحي السهرة ليقودها إلى اكتمال لوحتها في تضافر واندغام الراوي والجمهور والجدران والغبار ووقدة الشتاء أو نفحة هواء الصيف والرواية ، وهم يهتدون إلى بعضهم بالنوايا والرغبات والعواطف المحجورة ، حيث يقف الجميع على مركب واحد، يومئون بشطحات المجاذيف . لا ضلال بعد الآن . لا ضلال ، لأن العلاقة النشوانة بين الرواي والجمهور ، هي العلم الأول على منصة المسرحية ، الحرة لا المؤلمة . ذلك أن ” الحكواتي ” قفز من ألم المسرح إلى حريته بالأرواح العائدة للتو من الخفقان المستمر إثر تقديم العرض لا انتهائه برمي القبعات بالهواء . جبهة واحدة لا جبهات . لم يساهم الصباح في هذه التجربة المتلالئة . وجد، على الرغم من ذلك ، في حسابات امبراطورها وأركانه ومن بالكاد تبين له أو لاحظ أن لا عودة إلى الوراء مع الحكواتي. لا شيء سوى إسكات عواء الحناجر القديمة بالزمن الحديث ، حيث راحت بيروت تقترب من اكتمالها كمدينة استثنائية ، لكي تنفجر وتعيد بناء نفسها من خرابها. لأنها اعتادت الأمر. لا تكتمل إلا لتنفجر .
بقي حسام الصباح في عين الذئب، العين عيون والذئب ذئاب. كما بقي بعين المدينة، العين عيون والمدينة واحدة . كل يريد اصطياده ، وهو لا يريد السقوط من شجرته ، عن شجرته ، ليقع فيما حرمه على نفسه ، حين طار في أجواء النبطية متولعاً بالفنون لا متفرجاً عليها، ليفرح برؤاه ، لا ليمضغ أكتاف الأعمال المسرحية ذات السمات الطالعة من ركب الأجداد . يكفي أن يحضر بالفكرة ، بفكرة ، لكي ترقص المواسم كما ترقص النساء مع رجالها العاشقين . كأنه لم ينبهر بشيء ، حين راحت التجارب تغرسه في رؤوسها . لا علاقة للأفلام البوليسية بما جرى للصباح ، سوى حين مرغه الرصاص بالموت الأول ، ليصعد على صدره ، محيراً حكاياته ، حاجزاً تذكرة النجاة على قطار الحياة . الأخيرة ليست رخيصة كريشة متروكة على منصات الإستعراض . بالحكواتي إذن حين سحبه أفقها من كم قميصه بحيث بقي بعيداً من فرنها السخي ، بعد أن والت حكاياتها بغبطة لا تروى ، لأن أحداً لم يقدر على روايتها بعد . لم يحضر بالمسرحيات الثلاث. كل مسرحية بلسعة خاصة . بعدها ، رسمت المسرحيات مسارها ، بعدها رسمت المسرحيات مساراً نقله الآخرون وهم في عز الخوف منه. لأنه أدان مقر إقامات المسرح القديمة بشراسة جمالية،وجدت تجلياتها في “أيام الخيام ” ، مسرحية ما أن تذهب حتى تعود بحياتها المجبولة بالماء والهواء. ماء بعمق ماء البحر وعذوبة ماء الأنهر وشفافية ماء الجداول . أحب الناس عودتها لأنها هزت رياحهم، بعد أن هزت رياح الأرض حين “خانت “البياض القديم والدكنة القديمة وسجادات النرد المفروشة على منصات المشرق والمغرب العربيين .
بعد الحكواتي، جاء يعقوب الشدراوي ، واحد من أيقونات المسرح . راح الأخير يصنع ملحمته بطهو البط الملكي . وإذ بحث عن ريشه الذهبي ، وجد ريشة من الريش المفقودة لحسام الصباح . ذلك أن عصافيره من غابة الجامعة اللبنانية / معهد الفنون ، من لحمها وشحمها وشحنها تجاربه والتجارب الأخرى بالهبوب الدائم . لم يتردد حين تشبث ببعض الأسماء . حسام الصباح أحدها . لا ضرورة للتذكير بأنها الحرب الأهلية وملوك الحرب وعادات الحرب وعين الحرب الحمراء وقنوات الحرب ، حيث حفرت الحرب قنواتها من انسكاب حياتها الجديدة بكل الأركان . “نعيمة” واحدة من أصخب مسرحيات الشدراوي . عشرات الممثلين في طريقه الجديد بعد “سمكة السلور “و”أعرب ما يلي”. امتدت المسرحية بين طلاب المعهد كرقبة زرافة لم يفهم امتدادها سوى من لم يريدوا أن تجف أنساغهم إلا برمال المسرح .هكذا ، راح العاملون فيها يعبرون إلى تمارينها بالمرور على الكائنات البرية عند أسفل جسر فؤاد شهاب ، حيث يتابع القناص كائناته الحضرية بعين بندقيته السحرية فوق الجسر . لا بشر سوى ثلاثة لا يشعرون بالأمان سوى بالمسرح ،وسط الخوف والموت والخراب وقطرات الدم المجمدة على الطرقات . هناك حن الهواء كلما حنوا عليه بوحدته الهادرة ، الثقيلة . بلا خوف من الشوارع، بلا خوف من البشر . حسام ورفيق علي أحمد وعبيدو ، اختاروا أن ينافسوا أنفسهم حتى النهاية ، كعادتهم بعتمات الهواء والحروف . لم يقولوا عم صباحاً أيها القرار أو عم مساء أيها القرار وهم يزركون هوياتهم أو يزرعونها بحجارة أعمدة الرينغ. الهويات أسفل الجسر ، خفيفة بالهواء الثقيل وبأصوات القنص الكفيفة من بنادق تجيد الهدم والصيد. تمنح كما تمنح القبل ، ليصبح أصحابها غامضي الرحلات والعناوين والإنتماءات . نظرة أخيرة عليها ، نظرة أخيرة على بطاقات نقابة ممثلي المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون، قبل أن ندخل كالصوت في مجالات المنطقة الأخرى . ثم نعود إليها ، بعد أن نعوزها برحلة العودة ، لكي لا يصاب المسلحون على الحواجز بالغفلة إذا ما وجدونا وقد طوينا صفحاتها خارج خيامنا بلا عودة . دوران حول قرن الثور ، ثم عودة إلى طي صفحة الحذر بفتح الحقائب القديمة من جديد . عودة كعودة البحارة من فجر أحمر . اذا وجدت الفجر أحمر ، لا بد من الحذر . لأن العاصفة الهوجاء القريبة لن تعود خالية الوفاض . البحارة لا يعرفون الرعب إلا بأقل حدوده .لم نعرف لم استلقينا على ظهر الحوت كجن يترك دمه تحت المجهر . باللب ، لم نستمتع بالتمارين على “نعيمة” ، من وجود مركز للنمور الأحرار في مواجهة دار اجتمع فيها الممثلون والممثلات في مجازات الليالي لكي يدوزنوا العرض الباهر . لم أعد أذكر ، مؤسسة أو دير أو مركز حركة اجتماعية . لم نطل قبلة الوداع . بقي رفيق وحده هناك ، بعد أن عدت وحسام ذات ليلة ، بلا دليل، وسط الدخان وما أدركه لهيب الحرائق . لم أعد إلى الشدراوي إلا في ” نزهة ريفية غير مرخص بها ” حين عاد حسام إلى ” جبران والقاعدة “. مذاك ، اعتبره الشدراوي من رشفات نبيذه. بحيث ما ضيع حسام علامة من علاماته مع المعلم ، وهو يظهر كالشهقات في المسرحيات المتتالية للشدراوي . مسرحية وراء مسرحية . غير أن حسام لا يحضر في عمل ، في تجربة ، في مشغل ، إلا كإنسان بين الحياة والموت . يحضر بالقليل من التملك ، يحضر خفيفاً كدوخة النبيذ ، لا نبيذ الشدراوي وحده . وجد الرجل في ” نزهة ريفية ” و” بلا لعب يا ولاد و” يا اسكندرية بحرك عجايب ” ومتسع مسرحيات الشدراوي الأخرى، كحجل كلما رقص غنى . يقدم ، يقترح ، يؤول ، يفرش الموائد ، يقرأ بالمتاهات والأعماق . كما وجد في بقع رئيف كرم . محترف المنارة وطوافه المسرحي وفرقة السندباد( مقام الجدي، دشر قمرنا يا حوت ) . حضر الرجل بغموضه ، مؤطراً ومفكراً ورحالة لا تنفتح غرف عقله إلا حين تواجه التجربة صداعاً أو ظلاماً لا بالحسبان .كأنه أراد أن يمسك الاشياء بطرف لسانه . لا أن يخوض حروبها . أن يخوض عملياتها لا حروبها المكركبة. لم يلبث الصباح أن قاد كرم إلى النبطية بعد أن لفتته أجراس إنذاره بالعاصمة . منحه قوة أن يواجه عاشوراء على سطح المدينة الجنوبية على سريان كافيينها الأبدي بين البشر. حيادي ، إذا حاد ، سوى بالنبطية . سوى بعاشوراء ، العرض السنوي الحارق على الأرض الحارقة . هنا شجرته ذات الأبخرة اللاهثة صوب صرخات الحسين . هنا مرآته ، حيث يخرج الجسد من المرآة إلى أرض الواقع . هنا حمامه الساخن ، إذ ادرك أن الورد إذا لم يسقَ سوف يضحي ورداً ذابلاً بالأحياء المزدحمة، على الشرفات المزدحمة . لا يزال المفكر والمؤثر والمؤطر . هذا تاريخ الرجل المار من دوائر النار . لم يرد أن تتعرض عاشوراء للقتل من تكاثف لحمها على احداثها وعلى من يلعبون أدوارها ، ليغرس فيها جديدها ، بعد أن لعب فيها وصنع منها ما صنعه ، لمَّا وضع مصيره في مصيرها . لم يهذِ بأسماء خاف منها الكثيرون ، بعد أن جاء بها إلى أرض الفداء . جاء بها مباشرة . جاء برئيف كرم وجواد الأسدي ومشهور مصطفى ، من أجل إعلاء صرخاتها بعد أن أعلاها هو نفسه. وجد فيهم أدوية السعادة للدراما التاريخية . أصاب ولم يصب . ثم أنه أدخل إلى “دار الحُرم ” عديد من النجوم ليحكوا حكاية العائلة المقتولة على الطرقات الغائمة ، كعمار شلق وخالد السيد. نجوم التلفزيون في خدمة الملحمة ، بصلة كصلة الوتر بالكمنجة. نجوم التلفزيون بعاشوراء ، جديد الناسج والنسيج . لا سهولة بما فعله الصباح ، حين حدَّث الكاتلوغ القديم ، لكي يبعد مسرحية عاشوراء عن مشارف المتاحف القديمة .لم ينوجد على المنصة كل عام ، حين انوجد بين غبار سجائره ، يجذبها بأصابعه المثارة وهو يراقب الأبطال الخارجين من الكتب والروايات . هناك ، صنع عالمه الأسطوري من المشاعر السابقة المتوجة بالردات غير المتوقعة ، وسط تعقيدات الإحاطة بالأسرار الكبيرة للملحمة .
منتظراً دوماً بضحكة تحرس الأصدقاء، بدون أن تنسى سنوات تعب صاحبها . صاحب الملامح القاسية ناعم كأغاني الغرام في جلسات قصر الأونيسكو ، بجسده المسترخي على الكنبة العريضة ، لا ينتظر شيئاً على نواصيها إلا ابتسامات رفيق علي أحمد وكرم نعمة بدوي وزيارات زاهي وهبي ورضوان حمزة . جلسات وسط بواقي الطعام وغبار السجائر والكؤوس المرفوعة على شجر الصداقة . هذا رجل صديق ، لا بأس عنده من حراسة نوم الأصدقاء ، كبطل لا يزلق يده إلا لتنثر الصدق والصداقة والروائح والمشاعر الناسية سنينها على الضفاف المشعة بالحب والمحبة .
لم يضع حسام الصباح تاجه على رأسه ، هذه القطعة المثيرة ، وهو يلعب بعشرات الأفلام والدرامات والحلقات الإذاعية . أعرف أنها قطعته الناقصة كما يعرف الأصدقاء . هكذا ، بقي على جزيرته وهو يلعب للآخرين في “عشرين عشرين” و”تلة وردة “وما هو أكثر طراوة وأشد قساوة . يوقع حضوره بأول النهار وفي آخره، بالإخلاص من أجل الخلاص من نقصان الحياة . لم تشكل الأشغال هذه جزءاً من مزاجه . هكذا ، اشتغل كمدقق لغة في درامات معروفة من أجل أن لا تقوى عليه شمس الحاجة ولا قمرها . أعماله طبقات كريما على وجهه ، لن يلبث أن يزيلها عند أول الراحة من غواية الفن والثقافة والمال . حين يلمس وجهه يتذكر وجهه الأول ، يحن إليه كما حن إليه بأيامه الأخيرة بعد أن حلقت سيارته بهواء الجنوب ، مستلقية على أعلاها وعليه . لن يتابعه الجمهور من وراء النوافذ بعد ، بعد أن تسلل بغمازتيه المرتجفتين إلى اشتعاله الأخير ، حيث تنتظره سهام ناصر وعادل فاخوري على جسر من العلامات الجامعة .
ثلاث سنوات على الغياب ، ثلاث لطخات على جبين المسرح . لادرب له بعد ، لا أمنية . لم يخف الرجل وهو يمضي حيث يصادفه بحر حياة آخر ، حيث لا خوف ، لا موت . حيث لا موجات قلق ، لا موجات قلقة .