توازنات دقيقة وعون وسلام يُمسكا الثلث المعطّل
بقوة دفع أميركية، وُلِدت في لبنان حكومة نواف سلام، التي أطلق عليها رئيسها شعار “الإنقاذ والاصلاح”. و هي الحكومة الأولى التي تشكلت منذ عام 2008 من دون احتوائها على الثلث المعطل لمصلحة اي طرف سياسي، بل احتفظ به رئيسا الجمهورية جوزاف عون والحكومة نواف سلام، ليدخل البلد في مرحلة جديدة عنوانها الرئيسي الإصلاح الاقتصادي واستكمال تنفيذ اتفاق الطائف واستعادة العلاقات العربية والدولية للبنان، واستكمال تطبيق اتفاق وقف النار في الجنوب بكل بنوده ومندرجاته ومعالجة ازمة الحدود مع سوريا، وبدء ورشة الاصلاح الاداري والتعيينات .

ضمت الحكومة ممثلين عن القوات اللبنانية وثنائي امل وحزب الله وحزب الطاشناق الارمني، ولكن لم يتم تمثيل التيار الوطني الحر والكتل السنية التقليدية، ما وضع الحكومة امام احتمال عدم حجب هذه القوى للثقة النيابية عن الحكومة، حيث سرعان ماوضع رئيس التيار الوطتي الحر جبران باسيل نفسه في خانة “المعارضة الايجابية” كما قال، ووجه عدد من النواب السنة المستقلين انتقادات حادة للرئيس سلام لأنه احتكر التمثيل السني. بينما تردد ان تيار المردة برئاسة سليمان فرنجية تمثّل بوزيرة السياحة لورا الخازن لحود بالتوافق والتقاطع مع رئيس الجمهورية.
الحكومة التكنو – سياسية التي تضمّ 5 سيدات (بينهنّ لورا لحود، ابنة ميرنا البستاني أول سيدة دخلت البرلمان في تاريخ لبنان) وأسماء تتمتّع بالكفاية العلمية وتُلاقي معيار الاختصاصيين (غالبية الوزراء من خريجي الجامعة الأميركية في بيروت أو اليسوعية أو جامعات في الولايات المتحدة وفرنسا أو محاضرين اويعملون فيها). إلى جانب نخب سياسية مخضرمة مجربة كالوزراء في حكومات سابقة غسان سلامة وطارق متري وياسين جابر . لكن الرئيس عون تعمّد الاشارة بعد تشكيلها الى خلوها من أي شخص حزبي، إلّا أن الوقائع اللاحقة اظهرت الانتماء الحزبي غير المباشر لبعض الوزراء،عبر إعلان القوات اللبنانية عن “اجتماع لرئيسها سميرجعجع مع وزراء القوات في مقره في معراب” ما اعطاهم فورا الصبغة السياسية الحزبية، وخلق ردود فعل مستغربة سرعة إعلان الانتماء.
تركيبة الحكومة وتوازناتها
تشكلت الحكومة من دون ثلث معطل ومن دون حليف ل”الثنائي الشيعي” في خطة مدروسة ومحبوكة سحبت ورقة التعطيل والميثاقية من كل المكونات السياسية، فوحده الرئيس سلام يملك مع رئيس الجمهورية الأكثرية في حكومة

الاصلاح والانقاذ ( اكثرمن ثمانية وزراء)، وهذا يعني أن انطلاقة العهد قد بدأت بقوة، لكن مهمة الحكومة لن تكون سهلة، علماً أن البعض يعتبر أن هذه الحكومة هي حكومة انتخابات بلدية ونيابية بعد سنة وشهرين، وعمرها القصير نسبياً لا يسمح لها بتنفيذ كل تعهداتها خلال هذه الفترة، لكنها ستنكب على تعديل قانون الانتخاب، لا سيما أن الرئيس عون قال في خطاب القسم “عهدي أن أدفع مع الحكومة المقبلة لتطوير قوانين الانتخابات .”
أنها المرة الأولى ينال ثنائي حزب الله وحركة امل 4 حقائب من الحصة الشيعية (المال، الصحة، البيئة والعمل) من أصل خمسة مخصصة للمكوّن الشيعي، بالتوازي مع سابقة نزْع فتيل التعطيل الميثاقي من يد هذا المكوّن من خلال تسمية الرئيس سلام الوزير الشيعي الخامس هو الدكتور فادي مكي وإن كان تم ذلك بموافقة الرئيس نبيه بري، لأن مكي كان مديراً عاماً لوزارة الاقتصاد من حصة “امل” في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة. لكن هذه المرة مع “ضمان قاطع” كما قيل بعدم إمكان وزير المال ياسين جابر المحسوب على الرئيس بري أن يتحكم بتوقيعه لتعطيل أي قرارات يتخذها مجلس الوزراء. لذلك علمت “الحصاد” من مصادرعارضت توزيران توقيع وزير المال الشيعي لن يكون توقيعاً ميثاقياً بل توقيعاً شخصياً يتحمل الوزيرحصراً مسؤوليته بصفته الوزارية لا السياسية ولا الطائفية – الميثاقية.
وهي أول حكومة يشغل فيها حزب القوات اللبنانية حقيبة سيادية هي الخارجية، إلى جانب حقائب الطاقة والصناعة والمهجّرين (وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي الذي يَحضر للمرة الثانية في الحكومات بعد حكومة حسان

دياب). يليه “الثنائي الشيعي” الذي حصل مجتمعاً على 4 وزارات بينها الصحة والعمل لوزيرين وافق عليهما حزب الله، بينما حصل الحزب لتقدمي الاشتراكي على وزارتي الزراعة والأشغال، وحزب “الكتائب اللبنانية” على وزارة العدل.
شكلت الحكومة واقعياً تحالف الاختصاصيين والنخبويين مع السياسيين الذين لا يمكن تجاهل حضورهم القوي أيضاً في تكوينها . فأسلوب اختيار الوزراء بتزاوج المعايير الاختصاصية مع الواقع السياسي برز من خلال توزّع سياسي في اختيار الوزراء بالشراكة مع الرئيسين عون وسلام. هذه القوى هي الثنائي الشيعي و”القوات اللبنانية” والكتائب والحزب التقدمي الاشتراكي والطاشناق إلى جانب “قوة” ثنائية بارزة جديدة تتمثل برئيسي الجمهورية والحكومة نفسيهما.
وحظيت الحكومة الجديدة بترحيبٍ عربي ودولي كبير خارجي نسبة إلى حجم التوقعات التي وَضَعَها المجتمعان العربي والدولي عليها كمدَخل للإصلاح المطلوب لترجمة الدعم لورشة بناء لبنان الجديد، خصوصاً في بُعْدَيها الإصلاحي (مكافحة الفساد واستخدام سلّم الإصلاحات للصعود من الحفرة المالية السحيقة) والسيادي (المتمحور حول تطبيق اتفاق وقف النار مع إسرائيل والقرار 1701 وأخواته من القرارات الناظمة لسلاح حزب الله).
تدخل اميركي واضح
و يعتقد البعض ان ما ساهم بولادة الحكومة الموقف التصعيدي الذي أطلقته الموفدة الأميركية الى لبنان مورغان أورتاغوس من بيروت، ومن القصر الجمهوري تحديداً بعد لقاء الرئيس عون، حول رفض مشاركة حزب الله بالحكومة اوتسمية اي شخصية للتوزير، ولكن ماكُتِبْ كان قد كُتِبْ بحيث سبق زيارة اورتاغوس تفاهم كلي بين سلام وحزب الله على اسمي الوزيرين، وانتهت عاصفة اورتاغوس في اليوم التالي لا سيما بعد عاصفة مقابلة من ردود الفعل الرافضة لموقفها ولتدخل إدارتها الفجّ في شأن لبناني داخلي، وكان البارز في ردود الفعل بيان رئاسة الجمهورية ومفاده “ان موقف اورتاغوس يعبر عن وجهة نظرها والرئاسة غير معنية به”، وهكذا تشكلت حكومة بوزيرين غير حزبيين يمثلان عملياً حزب الله ويعملان في مستشفى الجامعة الأميركية.
لكن سبق ذلك حسب معلومات متداولة ان ادارة الجامعة الاميركية تبلغت من الاميركيين رسالة واضحة بأنه “ليس مسموحاً توزير العاملين في الجامعة ومستشفاها من المحسوبين على حزب الله او المقربين منه، لأن ذلك سيؤثر على عملهم بالجامعة”. وتردد ان ثلاثة من الاكاديميين في الجامعة اعتذرواعن قبول المنصب الوزاريبسبب التهديد الاميركي.
وبعد قليل من إعلان الحكومة، رحبت السفارة الأميركية في بيروت بتشكيل الحكومة وحثت على “صياغة بيان وزاري يساعد لبنان على تجاوز الأزمة ورسم مسار نحو تحقيق هذه الأهداف”.
البيان الوزاري والمقاومة
وبعد انتهاء تشكيل الحكومة، اتجهت الأنظار إلى صيغة البيان الوزاري للحكومة الذي تنال ثقة المجلس النيابي على اساسه، وتشكلت لجنة وزارية لوضع مسودة البيان من خمس وزراء برئاسة الرئيس سلام ضمت عمليا ممثلي القوى السياسية الخمس، وسط اعتراض سياسي داخلي وخارجي من خصوم حزب الله على ذكر مسألة المقاومة اوثلاثية “جيش وشعب ومقاومة”، بل اعتماد ما ورد في خطاب القسم وفي الدستور اللبناني لجهة الدفاع عن لبنان وحصره في الدولة وتضمينه عبارة “دولة وجيش وشعب). لكن بكل الصيغ راعت مسودة البيان ضمان حق لبنان بتحرير اراضيه المحتلة بكل الوسائل المشروعة والتي تنص عليها المواثيق الدولية.
وستكون الحكومة أمام موجة جديدة من الضغوط ترتبط بملفات كثيرة، أبرزها عسكرياً ترتيب الاوضاع في جنوبي نهر جنوب الليطاني واعادة إعمار قرى الجنوب الحدودية، وفي البقاع والشمال أيضاً، حيث دارت اشتباكات عنيفة استمرت نحو خمسة ايام، عند الحدود اللبنانية السورية، ورد الجيش اللبناني على مصادر نيران أطلقتها عناصرمسلحة تنتمي لـ “هيئة تحرير الشام” التي يقودها رئيس السلطة الجديدة احمد الشرع (ابومحمد الجولاني)، بحجة مكافحة تهريب السلاح والمخدرات بين البلدين، وسرعان ما تطورت الى اجتياح مسلحي الجولاني لثلاث قرى لبنانية عند الحدود وتهجير اهلها وهممن الشيعة ورفع مسلحوه الاذان السنّي في مسجد بلدة حاويك.
لكن ثمّة مؤشرات تقود إلى طرح أسئلة عن علاقة ما جرى ويمكن ان يستمر لاحقاً على الحدود في منطقة الهرمل تحديداً، وما يُخطط له بما خصّ الحدود اللبنانية – السورية ربطاً بالصراع مع إسرائيل، والمساعي الأميركية – الأوروبية لتوسيع نطاق عمل القوات الدولية في لبنان إلى الحدود مع سوريا.
هذا من دون إغفال الملفات السياسية أو القرارات الداخلية الأخرى، وجميعها ستكون عناصر ضاغطة على حزب الله لا سيما بملف إعادة الإعمار، وهو الملف الذي سيكون مرتبطاً بقرارات قاسية على مستوى المؤسسات والإدارة وحتى السلاح. لكنها عملياً حكومة بتوازنات جديدة ومعايير سياسية مختلفة أرادها رئيسها أن تخرج من كل السياقات السابقة، نحو مرحلة جديدة لا تخلو من التحديات والمخاطر.
كادر مع الموضوع
برنامج المائة يوم للحكم والحكومة
وضع رئيسا الجمهورية والحكومة ضمن برنامج عملهما اولويات للمعالجة السريعة خلال فترة السماح التي تمتد عادة مائة يوم وتتضمن:
- إقرار سلة تعيينات أمنية وعسكرية.
- تعيين مديرين عامين في الادارات والمؤسسات الرسمية لملء الشواغر الكبيرة فيها، تمهيدا لتطبيق المداورة في المديريات العامة للوزارات دون سواها، بحيث انها لن تشمل قادة الأجهزة الأمنية وحاكمية مصرف لبنان!
- تأليف لجنة وزارية لإقتراح مشروع قانون انتخاب، على أن تنطلق اللجنة من المبادرة التي حددها الدستور ( إصلاحات وثيقة الوفاق الوطني ذات الصلة). – الإعلان عن صندوق خاص للمسابقات في إعادة إعمار ما هدمه العدو الاسرائيلي، بحيث تصب مختلف المساعدات في الصندوق ويتم دفع التعويضات من خلال مؤسسات الدولة بمعاونة فرق الجيش اللبناني.
- متابعة تنفيذ القرار 1701 لإلزام العدو الاسرائيلي بالانسحاب الكامل من لبنان. وبموازاة ذلك سيدعو الرئيس عون إلى طاولة حوار وطني مخصصة للبحث في استراتيجية الدفاع الوطني كأساس للبحث في مبدأ حصر السلاح بيد المؤسسات الرسمية، بعد التأكد من انسحاب العدو ووقف الخروقات…
-
معالجة وضع الحدود مع سوريا.
– التشجيع على إقرار قانون السلطة القضائية المستقلة ومحاولة تحرير القانون من أدراج المجلس النيابي.
– تحرير أجزاء من الودائع المصرفية بالتنسيق من المصرف المركزي وجمعية المصارف، بما يعيد ثقة المودعين إلى القطاع المصرفي، مع بدء نقاش فعلي حيال سبل إعادة هيكلة المصارف ودمج بعضها ببعض بما يعزز الملاءة.
- القيام بجولات على الدول العربية والصديقة لجمع ما امكن من مساعدات لإعادة الاعمار وإطلاق عجلة الاقتصاد.
كادر ثاني
الحصة النسائية الحكومية
إذا كانت الحصة النسائية في حكومة نواف سلام أفضل بكثير مما كانت عليه في حكومة نجيب ميقاتي (وزيرة وحيدة هي وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية نجلا الرياشي عساكر)، فإن حكومة حسان دياب التي سبقتها ضمت في العام 2020 ست وزيرات، الأمر الذي خلف حينذاك صدمة إيجابية لدى المطالبين بتعزيز الحضور النسائي في مؤسسات الدولة اللبنانية.
ويقول مراقبون إن الوزيرتين ريما كرامي وحنين السيد، وهما من الطائفة السنية، مقربتان من الرئيس نواف سلام، فيما الوزيرة تمارا الزين وهي من الطائفة الشيعية، محسوبة على الرئيس نبيه بري، والوزيرة لورا الخازن لحود وهي من الطائفة المارونية محسوبة على الرئيس جوزف عون وضمنا على تيار المردة، والوزيرة الأرمنية نورا بيرقداريان هي حصة حزب الطاشناق الأرمني.