استطاعت الروائيّة لونا قصير الخروج عن المألوف في كتاباتها، شقَت طريق الكتابة وحدها على وعورته، تناولت موضوعات اجتماعية متنوّعة وبأسلوب سرديّ ليَن ومتمكّن، لم تحدّها آفاق الثقافة وهي المولودة من أبّ لبنانيّ وأمّ فرنسيّة، ولم يُفقدها تنقلها بين البلاد لغتها وثقافتها العربيّة، استفادت من عملها في مجال الإدارة والترجمة في فهم أسُس العلاقات الاجتماعية، هي ابنة التجارب، خاضت غمار الواقع ململمة قصصًا وحكايات وشخصيات كثيرة أسكنتها الورق، وحاكت حولها تفاصيلًا متشابكة في قالب سردي طيِّع.
كان للحصاد حوار مع الكاتبة للحديث عن تجربتها ورؤيتها الأدبيّة.
لونا قصير، الهويّة والكاتبة
وُلدت في شمال لبنان منطقة طرابلس، من أبٍ لبنانيّ وأمّ فرنسية، ومع عدم اتّزان الأوضاع السياسيّة في البلد، غادرت لبنان إلى فرنسا في مقتبل العمر، واستمدت من هناك فكرًا مختلفًا من دون التخلي عن المبادئ الشرقيّة التي نشأت عليها، ولكن هذا لم يمنعها من لمس الفروقات، ” خاصةً من الناحية الاجتماعية، فما هو مسموح به هناك لا يجوز في مجتمعنا، ومن هنا بدأتُ أتساءل وأقارن بين تلك الفروقات الاجتماعية”.
تذكر قصير أنها بدأت الكتابة منذ الصغر: ” فمنذ نعومة أظفاري لم أتوان عن كتابة يومياتي الشخصية وكل ما يدور من حولي من حزن أو موت أو أي حدث يترك أثرًا في قلبي، لكن بسبب انشغالي في العمل والعائلة لم يتسن لي وقتًا للكتابة، مع ما تحتاج إليه من صفاء ذهني ووقت وهدوء وتأمل.”
مشوار الكتابة لم يكن سهلًا، فهي عملت في مجالات بعيدة عن عالم الكتابة والعلوم الاجتماعيّة، ولكنها تمكّنت بدهاء الكاتبة الساكنة فيها من الاستفادة وتطويع التجربة لتكون بذرة إلهام في قصصها وحكاياتها؛ تقول: ” استفدت كثيرًا من تجربتي كمترجمة في الشركة التي عملت بها، لم أكن أجيد الطباعة بالعربيّة حينها، وكأنّ مشواري مع كل الشركات التي عملت معها هو تحضير لمشروع الكتابة. فلكلّ بلد قصة ولكل عملٍ في شركة تجربة جديدة ومختلفة وأشخاص من جنسيات مختلفة. فقد تنقلت بين بلدان عدّة وتعلمت من كل بلد ثقافته الاجتماعيّة، ولكن فرنسا هي الأساس، فقد طبعت في ذهني مفارقات، خاصة أن والدتي فرنسيّة وعائلتها تعيش خارج لبنان”.
تعقّب: “أما بالنسبة إلى البلدان الأخرى التي عشت فيها بحكم عملي لا شك أن تأثيرها مهم، وأشير إلى أن لمسقط\ عمان، عاطفة خاصة، لأنني من هناك بدأت الكتابة وجمال طبيعتها سحرني، وربما أعطاني هذا الإلهام، لا أدري!” وتضيف: “كل تلك التجارب ساهمت في إغناء رواياتي الاجتماعيَة، على أمل ان أكون دائمًا متجددة وأوصل الأفكار والعبر من خلالها.”
الرواية بين الإلهام والتنفيذ
يمكنك أن تشاهد الرواية وأنت غارق في قراءتها، تتقاطع المشاهد أمامك بسرعة من دون أن تترك خلفها فجوة في ترابط الأحداث وفهم مكنونات الشخصيّة ودوافعها، فخبرتها في مجال العلاقات الاجتماعيّة مكّنها من فهم طبيعة النفس البشريّة أفعالها وردود أفعالها.
تفيد قصير: ” في البداية لم أخطّط لكتابة رواية، باكورة أعمالي هو “القميص الزهري” العام 2014 (وجدانيات وخواطر وقصص قصيرة) ولم يكن في نيتي أي مشروع روائي؛ أصدرته للذكرى فقط، وإذا بي أجد نفسي منغمسة في هذا على الرغم من صعوبته، لكنني شعرت بحرية وأمان، فأنا سيدة نفسي وأكتب من خلال تجارب عشتها وعايشتها، مع عملي في شركات عدّة ومع أشخاص من جنسيات مختلفة -كما أشرت سابقًا-، إضافة إلى حبي للسفر والتعرف على ثقافات أخرى، كل تلك العوامل ساهمت في توجهي نحو كتابة الرواية.”
تضيف:” ربما تأخري في الكتابة جاء لصالحي لأنها تحتاج إلى نضج فكري وتحليل ورؤية واضحة ومحايدة. ” وهكذا ولدت رواياتي ( بلاد القبلات: العام 2015، فراشة التوت: 2016، مرآة الروح: 2018، غرفة مغلقة: 2020، خطيئة وخطايا: 2023) لكلّ من هذه الروايات عالمها الخاص، وتضيف: ” رواياتي اجتماعيّة انسانيّة حقيقية من واقع الحياة، تحاكي القضايا الاجتماعية، عالجت من خلالها موضوعات مختلفة ومتعددة ومعاصرة ضمن قالب روائي درامي؛ منها: الحريات والتقاليد والعادات بين الغرب والشرق، العلاقات الافتراضية، الزواج المختلط، صراعات النفس الإنسانية بين التخيير والتسيير، الإنسان كقيمة ذاتية وفوارق الجنس والعرق والدين، وغيرها من الموضوعات والقضايا الإنسانية والمجتمعيّة.”
عن شخصيات رواياتها، تفيد: ” شخوص رواياتي حقيقيّة، وهي موجودة في حياة كل شخص منا، لم أعايشهم شخصيًا خلال الإنتاج، كنت بعيدة جدًا ومنفصلة عن العالم الحقيقي، وهذا الأمر أعطاني زخمًا وصفاء لأرى بوضوح كل شخصيّة، وإن كان صور بعضها ضبابيّة. لا يجب أن ننسى عامل الخيال أيضًا فهو مهم جدًا لأننا نستطيع أن نحرّك هذه الشخصيات كما نريد، لكن الشخصيات بتنوعها هي حقيقيّة وموجودة.”
وعن روايتها الأخيرة خطيئة وخطايا، تقول: ” الخطيئةُ هي إصرارٌ على الإثمِ، ولا تحتاجُ إلى أدلّةٍ لتخفيفِ الحُكمِ عليها، لأنها تَقضي على الجسدِ والروح، لكن الأولى، أخطاء، لا تبرّرُ الثانية، خطايا، والعكسُ صحيح، إذ عندما يتجاوزُ الخطأ حدوده، ويتكرّرُ، يتحوَلُ إلى خطايا لا تُغتفرْ، ولا يُمكنُ إصلاحُها. “
تصرّح قصير: “الإلهام هو مصدر كتاباتي الأساس، لكن عندما أصل إلى موضوع حساس، أتعمّق في دراسته كي لا أقع في فخ المغالطات، كمثال موضوع وهب الأعضاء في “غرفة مغلقة”، قرأت حول هذه القضية وأجريت أبحاثًا ومن ثم أكملت الرواية. أي موضوع حساس من الممكن أن يخالف المجتمع الشرقي أتأكد منه ومن ثم أتابع.. “
معاناة الكاتب بين النشر والتسويق لأعماله
يعاني سوق النشر في لبنان والدول العربية من فوضى الإصدارات إذا صحّ التعبير من دون رقيب، فكلّ ناشر على مطبعته صدّاح، والكاتب إذا لم يكن محاطًا بمجتمع داعم له ولإنتاجه فسيكون عرضة للمعاناة ولكساد كتبه من دون أن تجد طريقها للتصريف، إضافة إلى تحمّله وحده كلفة الطباعة على ارتفاعها، إلّا ثلّة قليلة من الناشرين الذين يدعمون الكتاب والكاتب إذا كان معروفًا ويحملون عنه كلفة الإنتاج والنشر؛ وفي هذا تشير قصير: ” لم أفكر في الكتابة كتجارة، شعرت بحرية وسعادة، وعندما انتهيت من كتابة روايتي الأولى أرسلتها إلى أكثر من دار نشر، وبصراحة خفت من عدم قبولها، وعندما جاءت الموافقة ازدادت فرحتي، لكن الخطوات التالية بالنسبة إلي هي الأصعب: كيف الوصول إلى القراء؟ فالرواية لا قيمة لها إن لم يكتب عنها. لكن عندما طبعت باكورة أعمالي كانت نوعًا من التهيئة، من دون أن أدري، خاصة أنها وصلت إلى شريحة واسعة من أهلي في طرابلس. وبالنسبة إلى المجتمع الثقافي، أنا غريبة عنه، فبالمجمل الذين يكتبون وينشرون ينتمون إلى عالم الثقافة وهم منخرطين فيه من خلال النوادي الثقافية والجامعات، وأنا لا أعرف أحدًا منهم، القلائل الذين تواصلت معهم، وهم أصحاب فكر وعلم ومخضرمون في هذا المجال شجعوني على إكمال المسيرة، فضلًا عن محبة الناس من خلال شبكة التواصل الاجتماعي، فمنذ تسع سنوات أنشر على صفحتي على فيسبوك من دون كلل أو ملل”
وعن مشاركاتها في معارض الكتاب، توضّح أنها شاركت في حضور العديد من المعارض والتوقيعات، ولكن بسبب عدم وجودها في لبنان لم تشارك في حفل توقيع روايتها “أخطاء وخطايا” الصادرة حديثًا. وتُفيد: “أحاول أن أوصل رواياتي بالطريقة المناسبة خاصة أن دور النشر لا تنشر إلّا في حال كان اسم الدار على الرواية، لكن هناك أيادٍ بيضاء تحب الثقافة ولا يهمها إن كان اسمها موجودًا أم لا.. ” رواية “أخطاء وخطايا”، صدرت حديثًا لكنّها لم توزّع كما يجب لظروف استثنائيّة خاصة، سأعيد طباعتها قريبًا إن شاء الله، ولدي مجموعة قصصيّة قيد التحضير ومستلهمة من حياتنا اليومية (حوار بين العقل والقلب).
إلّا أن جهود قصير الأدبيّة لا تنحصر في الرواية فقط، بل إنها عملت على كتابة نص جدير بالأهمية ومُثّل فيلمًا قصيرًا بعنوان “أنقذوا الأرض”. وحاليًا أتمّت كتابة ومعالجة تفصيليّة لمسلسل بعنوان: “حارة المليون طفل”، وتأمل أن تتبنى شركة إنتاج مناسبة هذا العمل.
مواقف الكتّاب بين الصمتِ والعقاب
“نخجل من أعمارنا، أمام مشاهد المجازر المُروِّعة التي تطال الأطفال الأبرياء في غزّة..”
في الأحداث الجلل تظهر المعادن على حقيقتها، فما حصل ولا يزال يحصل في فلسطين وغزّة تحديدًا كان شاهدًا على كثير من الصدأ الذي ملأ مواقف العديد من الكٌتّاب والمشاهير، وبادّعاء الحياد والمواقف الهزيلة برز سؤال: هل يزنُ الحبر دمًا أم ذهبًا في ميزان الإنسانيّة والأدب؟!
من هنا تصرّح قصير: ” ما نشهده اليوم معيب وعار في تاريخ يتباهى فيه العالم بحقوق الإنسان، المرحلة صعبة جدًا، فأنا أتابع يوميًّا ولساعات الأحداث والأخبار، ما ذنب الأطفال ليقتلوا بهذه الطريقة الوحشية؟ نخجل من أعمارنا، أمام مشاهد المجازر المُروِّعة التي تطال الأطفال الأبرياء.
أين حقوق الإنسان؟ لست ضليعة في تحليل سياسات العالم، لكن هذا لا يمنع أنّ لي رأيًا في هذا الموضوع، أؤمن بالحق والعدل، فأين العالم منه؟ المظلوم لا يأبه للموت، فالبؤس ينام في فراشه…
يجب الاعتراف بدولة فلسطين المحتلة، وحلّ الدولتين اليوم وليس غدًا. لكن نحن نعيش حقبة تطغى عليها المصالح والجشع وحكم القوي، نعيش في غابة لا بل الغابة أفضل فهي لها قوانينها. لم يعد للإنسان قيمة، بل أصبحنا أرقامًا لا قيمة لها، فعن أي حقوق يتكلمون؟ “
وعن مواقف الكتّاب، تشير: ” الكتّاب الكبار المخضرمون في السياسة لم يتوانوا عن دعمهم للقضية الفلسطينيّة المحقة، والشعوب تنتفض في أرجاء الكرة الأرضية من أجل إيقاف الإبادة التي تحصل، لكن من يسمع؟ نحن على وشك الدخول في حرب عالمية ثالثة، إن لم يستدرك الحكّام خطورة الوضع، لن أقول هناك حرب عالمية رابعة لأن الثالثة ستقضي على البشرية، مع وجود النووي ستباد البشرية. ماذا يتوقع العالم من هذه الأجيال التي تشاهد الأشلاء وتُقصف يوميًا، وتفقد عائلاتها وأصدقائها، هذه المشاهد ستترك تروما في نفوسهم وقلوبهم لن يشفيها الزمن. لا أعلم إلى أين يتجه العالم؟”.
وعن الوضع في لبنان، تضيف: ” في لبنان، شهدنا وقفات احتجاجيّة لمناصرة القضية الفلسطينية، فالجميع ينتابه الحزن على ما يحدث، لكن لبنان وطن مثقل بالهموم والمشاكل، ولا يتحمّل حربًا، ففي العام 2006، دمّر العدو الإسرائيلي الجسور وقصف أماكن عديدة، فكيف الحال الآن؟ ألا نشاهد ما يحدث في غزة؟ “
وتختم: ” القضية الفلسطينية حق مشروع ومحق.. “