خطر التآكل يهدد ليبيا ..والليبيون مطالبون بدور مخلص لإنقاذ بلادهم

على المجتمع الدولي والأطراف الإقليمية مساعدة الشعب الليبي

“إن الإنقسامات المتواصلة بين القوى المختلفة في ليبيا تهدد بتآكل وحدة هذا  البلد العربي الإفريقي”..تصريح لوكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام روزماري ديكارلو. وهو يعكس حجم القلق الأممي على مستقبل ليبيا في ظل تدهور الأوضاع السياسية والخوف من تجدد القتال وعودة شبح الحرب التي دمرت كل شئ في البلاد على مدار أكثر من عقد من الزمان.

في ظل ما تشهده من أحداث ساخنة ومتلاحقة خلال الفترة الأخيرة، تمر ليبيا بمرحلة حرجة في تاريخها تجعل مستقبلها على المحك. بين انقسامات وصراعات بين فصائل عسكرية وخلافات حادة بين أطراف سياسية إلى حد الدعوة للثورة  كما نادى صلاح بادي بها ضد الحكومتين المتنازعتين على السلطة لاتهامهما بالفساد وصولا لمحاولات تصفية جسدية لشخصيات سياسية، تعيش ليبيا أزمات صعبة يعمق من تأثيرها بعض الظواهر الغريبة، المتواكبة مع هذه الأحداث السياسية، مثل حرائق البيوت الغامضة وهجمات أسراب الجراد على الجنوب الليبي بما يهدد الأمن الغذائي ويزيد من معاناة الشعب الليبي. وكان ذلك دافعا لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا لإصدار بيان أعربت فيه عن قلقها مما أسمته الإجراءات الأحادية من جانب أطراف ومؤسسات ليبية سياسية وفاعلة في شرق البلاد وغربها وجنوبها بشكل يؤدي لتصعيد التوتر وتقويض الثقة والإمعان في الانقسام المؤسسي والفرقة بينهم.

10 سنوات قتال و3 أعوام هدوء حذر بين حكومتين متصارعتين على السلطة

في السابع عشر من فبراير 2011 اندلعت أحداث الثورة في ليبيا وانتهت بسقوط نظام القذافي وسط أحلام تحقيق العدالة والديمقراطية في ظل نظام حكم مدني مأمول، لكن الفوضى عمت البلاد وانتشر القتال ووصلت حالة التشرذم إلى تعدد الجبهات المسلحة المتقاتلة وتعدد الولاءات وتدهورت الأوضاع إلى حالة كارثية تلاشت معها ملامح الدولة بعد انفراط عقدها وتفتتها بين المتصارعين على السلطة فيها، وما زاد من مأساوية المشهد دخول أطراف خارجية على الخط ما جعل ليبيا ساحة للصراع والتنافس المحموم بين قوى الشرق والغرب التي يبحث كل طرف منها عن مصالحه الخاصة ضاربا عرض الحائط بمصالح أبناء الشعب الليبي الذي لم يكن يتخيل أن ثمار ثورته توقفت عند انقسام ليبيا شرقا وغربا بين حكومتين متنازعتين حيث تسيطر قوات خليفة حفتر على شرق ليبيا بينما يسيطر عبد الحميد الدبيبة على الجانب الغربي وفيما بينهما تعاني ليبيا من تشرذم سياسي خطير.

على مدار ما يقرب من عشر سنين استمر القتال فيما بين الليبيين أنفسهم بتأثير من تدخلات خارجية عملت على بث الفرقة لتيسير السيطرة على مقدرات الدولة الليبية وثرواتها.

وبعد جهود مضنية تم توقيع اتفاق جنيف عام 2021  برعاية الأمم المتحدة لوقف القتال الدامي بين قوتي الشرق والغرب في ليبيا التي دمرتها الصراعات لأكثر من عقد منذ سقوط نظام القذافي. وبناء على ذلك الاتفاق تأسست هيئات مؤقتة لإدارة شؤون البلاد وتسيير الأوضاع وهو ما أدى إلى حدوث حالة من الهدوء والاستقرار النسبي خلال السنوات الثلاثة الماضية. وكان يفترض تولي سلطة تنفيذية وهي حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي والتحضير لانتخابات رئاسية وتشريعية في ديسمبر 2021 لكنها تأجلت لأجل غير مسمى  بسبب التوترات الأمنية والخلافات السياسية وازدياد حدة الانقسامات وعدم وجود إرادة سياسية لتنفيذ هذه البنود.

وبعد فترة الهدوء النسبي عادت التوترات للمشهد الليبي من جديد وبشكل خطير يهدد وحدة الدولة ويقوض أركانها مما آثار مخاوف المسؤوليين الأمميين. وعلى الرغم من وجود أسباب كثيرة للخلافات أهمها افتقاد الثقة فإن هناك نقطة محورية ساهمت في تعميق الانقسامات وترتبط بالتغير الذي حدث في المشهد الليبي فيما يتعلق برئاسة مجلس الدولة الأعلى والذي تولاه خالد المشري بعد إعادة انتخابه رئيسا له مما أشعل الأوضاع نظرا لكونه على خلاف مع حكومة الدبيبة ما جعل مجلس النواب يتحرك لسحب الثقة من حكومة الدبيبة والشروع في حكومة أخرى.

والمثير في الأمر أن الخلافات لم تقتصر على ما بين أنصار الحكومتين المتصارعتين على السلطة وإنما امتدت لتنتشر فيما بين أوصال نفس الفريق. ففي الغرب الليبي توجد ميليشيات متعددة وليس لها قيادة موحدة وكثيرا ما تتشابك معا. وفي هذا الإطار شهدت الفترة الأخيرة مناوشات ومعارك مسلحة بين كتائب تتبع حكومة الوحدة الوطنية دون معرفة دوافعها وانتهت بوساطة فصيل عسكري ثالث وسط حالة من الصمت الغريب من حكومة الوحدة الوطنية، بينما تستغل قوات حفتر الأمر للتوجه غربا. وفي أغسطس الماضي حدث تطويق مسلح لمبنى تابع لمصرف ليبيا المركزي في طرابلس وقد تعرض لأنصار الدبيبة وتم توجيه الانتقاد إليهم بسبب إدارته للميزانية والثروة النفطية.

ويرى مراقبون ليبيون أن ما يحدث في ليبيا من انقسامات حادة لشتى الأطراف السياسية على أنفسها يرجع لأنانيتهم التي كرست لحالة الانقسام العميق بين الحكومتين الليبيتين المتنازعتين، خاصة مع وجود مجموعات مسلحة في المشهد.

وفي المقابل فإن المواطن الليبي الذي كان يتأمل الكثير من الإنجازات عندما قام بثورته، يعاني أشد المعاناة بسبب تدهور مستويات المعيشة بينما لا يرى أملا في الآفاق الليبية الضبابية بل افتقد الثقة في الجميع خاصة بعد الكشف عن وجود تنسيقات بين ميليشيات الشرق والغرب الليبية بما يشي بأن الأمور تدار وفق لعبة سياسية لا تولي مصالح الشعب الليبي الاهتمام المطلوب.

ويمكن رصد الأوضاع الليبية على كافة الأصعدة من خلال مجموعة من المؤشرات كالتالي:

أولا: أزمات سياسية وهشاشة أمنية

على الصعيد السياسي تبرز حالة من التعثر المزمن بسبب احتدام الخلافات بين الأطراف الليبية حول القضايا الرئيسية مثل الدستور والقوانين الانتخابية كما أنه لاتزال مسألة إجراء انتخابات عامة في البلاد تشكل تحديا كبيرا وسط الانقسام الحاد حول القوانين المنظمة وجدوى إجرائها في ظل الوضع الراهن. ويعد وجود حكومتين متصارعتين تحكمان في بلد واحد أكبر دليل على تردي الأوضاع السياسية في ليبيا.

وبطبيعة الحال تنعكس هذه الأوضاع سلبيا على الحالة الأمنية في البلاد وتسهم في هشاشة الأمن وهو ما تستغله الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة التي أفرزتها الحرب والتي تعتمد بشكل كبير على المرتزقة والقوات الأجنبية وتضرب وحدة الجيش الوطني في مقتل وهو أمر يعرقل توحيد المؤسسة العسكرية المطلوب لحماية أمن البلاد واستقرارها. وللأسف تؤثر هذه الحالة الأمنية مرة أخرى بالسلب على الوضع السياسي حيث أن افتقاد الأمن يمثل تحديات خطيرة لتحقيق أية استحقاقات سياسية أو دستورية مما تم الاتفاق عليه في اتفاق جنيف 2021.

ثانيا: تدهور اقتصادي ووضع إنساني صعب

من المعروف أن ليبيا من البلدان التي يعتمد اقتصادها على النفط بشكل كبير ولذلك فإن التدهور الأمني والسياسي ووجود حالة الاقتتال التي تعرقل عمليات التنقيب واستخراج النفط تؤدي إلى تدهور الوضع الاقتصادي إلى جانب طبيعة الأنظمة الاقتصادية الهشة التي تعتمد على مصدر واحد فقط للعملات الأجنبية كما في حالة الاعتماد على تصدير النفط الخام حيث يجعل البلاد عرضة لأية هزات اقتصادية في حالة تقلب أسعار البترول العالمية.

لذلك كان من الطبيعي أن يؤدي ذلك لتدهور الأوضاع الإنسانية والمعيشية للمواطن الليبي بسبب ارتفاع الاسعار وتدهور الخدمات العامة وهو ما يتوازى مع نقص الخدمات الحياتية الرئيسية كالمياه والكهرباء والرعاية الصحية. وقد دفعت هذه الأوضاع الكثيرين للهروب من جحيم هذه الأوضاع بالتفكير في الهجرة إلى أوروبا واللجوء لسبل غير قانونية كثيرا ما تنتهي بكوارث بشرية من غرق للمهاجرين في مياه البحر أو التعرض لجرائم الإتجار بالبشر وغيرها من الجرائم التي تجد بيئة خصبة للانتشار في مثل هذه الظروف الصعبة والمعقدة.

كيف سيكون المستقبل الليبي في ظل معطيات الواقع؟!

من الصعب التنبؤ بملامح المستقبل في ليبيا في ظل حالة التشرذم والانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية ويمكن أن يكون هناك أكثر من سيناريو محتمل ما بين التهدئة والتصعيد.

  • سيناريو التهدئة

وفيه يمكن أن تنجح الأطراف الدولية والإقليمية في التأثير على الجبهة الداخلية ودفع الليبيين نحو التوافق والاتفاق على حل سياسي يتضمن تحقيق الاستحقاقات المتفق عليها بخصوص الانتخابات الحرة وبناء المؤسسات الديمقراطية والوصول لنقطة الاستقرار.

  • تدهور الأوضاع:

قد يؤدي استمرار التدخل الخارجي إلى تكريس الانقسام وعرقلة محاولات التقريب بين الخصوم السياسيين في ليبيا وهو ما تستغله الجماعات المسلحة هناك وتشتعل حرب أهلية أو يزداد خطر الجماعات الإرهابية التي تتسبب في انهيار كامل للدولة.

  • بقاء الوضع على ما هو عليه:

من المحتمل أيضا أن يسود سيناريو بقاء الوضع الراهن وتستمر سيطرة الحكومتين المتنازعتين على السلطة واقتسامهما البلاد لكنه أمر مرتبط بعوامل كثيرة منها دور القوى الدولية والمحلية وكذلك نزعات التدخل الخارجي وتحويل ليبيا إلى ساحة للصراع بين قوى الشرق والغرب المتنافسة خاصة مع سعي روسيا لوضع موطئ قدم لها في ليبيا للحفاظ على قربها من البحر المتوسط عوضا عن خسارتها لحليفها الاستراتيجي السوري، و هو ما يؤدي إلى حالة استقطاب للإنقسام بين الليبيين إلى فريقين يحظى أحدهما بدعم غربي والآخر بدعم روسي ما يجعل ليبيا ساحة دائمةللصراع الذي يدفع ثمنه الليبيون أنفسهم.

واقع الأمر أن غلبة أحد السيناريوهات على ما عداه يتوقف على عدة عوامل أهمها :

مستوى التوافق السياسي والذي يرتبط بقدرة الأطراف الليبية على الوصول لنقطة اتفاق حول الأمور الخلافية مثل الثروة النفطية وتوحيد مؤسسات الدولة وتقاسم السلطة.

كما يؤثر الوضع الأمني بشكل كبير على توجه السيناريو المحتمل حيث أن الفشل في السيطرة على الجماعات المسلحة ونزع أسلحتها يسهم في تعقيد الموقف وتصعيده لمستوى خطير.

ولاشك أن هناك عاملا ثالثا يرتبط بحجم التدخل الخارجي ومدى تأثيره على مجريات الأحداث الداخلية في ليبيا وكذلك اتجاهات تأثيره ما بين الإيجابي الداعم للحل السياسي والسلبي المعرقل له.

ولا ينفك سيناريو المستقبل عن أثر العامل الاقتصادي لأن قدرة الحكومة على إدارة مقدرات الدولة والنجاح في تلبية احتياجات الشعب يسهم في تحسين الوضع الاقتصادي بشكل عام وتقديم ما يشعر المواطن ببادرة أمل تحقق مزيدا من الطمأنينة والثقة والاستقرار وهي متطلبات ضرورية لحلحلة الوضع السياسي.

أدوار مطلوبة من الجميع

وبقراءة سريعة للواقع نجد أن هناك جهودا حثيثة تبذلها الأمم المتحدة لدعم العملية السياسية في ليبيا وإحياء الحوار بين مختلف القوى المتصارعة. كما أن هناك أدوارا إنسانية لقوى إقليمية ودولية وكذلك أدوار وساطة لتحقيق نفس الهدف. ويبقى دور الليبيين أنفسهم في أن تكون لديهم إرادة حقيقية لبناء دولتهم سواء على مستوى الشخصيات الكبرى والزعماء أوالأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، فالجميع يجب أن يعي الدرس حتى لا تسقط بلادهم في براثن حروب أهلية وانقسامات تهدد وحدة البلاد.

ومع ذلك لا يمكن تجاهل أدوار وخطوات أخرى مطلوبة من الأطراف الدولية

منها جهود الوساطة سواء من المؤسسات الأممية مثل بعثة الأمم المتحدة

وكذلك دور القوى الإقليمية مثل مصر والجزائر وأطراف دولية أوروبية معنية مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا. فجميعهم مطالبون بتكثيف جهودهم الدبلوماسية للوصول للتهدئة وتقريب وجهات النظر. أيضا من الضروري أن يهتم المجتمع الدولي بتقديم الدعم الكافي سياسيا واقتصاديا للحكومة الليبية المعتترف بها دوليا مع تقديم المساعدات الإنسانية للفئات الأكثر تضررا من حالة الاقتتال بين الليبيين.

كما يستوجب الأمر فرض عقوبات لحظر توريد الأسلحة إلى ليبيا لوقف دخولها للبلاد وتهديد أمنها مع تجميد أموال الأفراد والكيانات التي تلعب دورا سلبيا في تصعيد الصراع لتقويض قدراتهم على ضخ أموال لأطراف متقاتلة بما يزيد الوضع اشتعالا. كما تحتاج ليبيا إلى الدعم الدولي المعلوماتي أو الاستخباراتي لمطاردة الجماعات الإرهابية واجتثاثها من جذورها حتى لا تتحول ليبيا إلى بيئة حاضنة لهم.