يكتسب الموضوع اعلاه أهميته من أهمية دراسات المستقبلات ذاتها. وبغض النظر عن تعدد غاياتها غير المباشرة، تنحصر غايتها المباشرة في استشراف المستقبلات الممكنة والمحتملة والمرغوب فيها ذات العلاقة بموضوع الاهتمام انطلاقا من أليات مقاربة علمية أو مجموعة منها. وهي بهذا تمهد السبيل للإنسان لصناعة المستقبل الذي يُريده أن يتحقق، أوفي الأقل تساعده على المشاركة في صناعته. ولآن المستقبل لا يقبل الانغلاق على مشهد حتمي واحد، وإنما يتميز بالانفتاح على مشاهد بديلة متعددة يختار الانسان منها ما يريد، يضحى المستقبل، بالمحصلة، صناعة بشرية.
ومنذ بدء الآخذ به، بعد منتصف القرن الماضي، والتفكير العلمي في المستقبل، وتطبيقاته العملية متمثلة في دراسات المستقبلات، يجد انتشارا عالميا متسارعا وعلى شتى الصعد الرسمية وغير الرسمية، وبضمنها الجامعات تدريسا وتخصصا علميا. لذا لا مغالاة في القول إن هذا التفكير وتطبيقاته اضحى ظاهرة شبه عالمية.
عربيا، لقد بدأت دراسات المستقبلات في الوطن العربي حوالي منتصف القرن الماضي. وقد كان الآخذ بها متأخرا بالمقارنة حتى مع بعض الدول في عالم الجنوب. بيد أنها، مع ذلك، كانت واعدة في وقته. إن التراجع اللاحق والسريع لهذه الدراسات، ولاسيما تلك العلمية والعملية الجادة منها، لم يُود إلى حرمان العرب من توظيف مقاربات قادرة على المساهمة الإيجابية في دفع عمليات التنمية المستدامة، والتجدد الحضاري العربي، إلى الآمام فحسب، وإنما أدى ايضا إلى جعل الانحياز العربي إلى المستقبل أمنية قد تكون صعبة التحقيق.
وسنتناول الموضوع أعلاه عبر ثلاث مقالات متتابعة: الاول، وينصرف إلى بيان الغاية المنشودة التي رمت دراسات المستقبلات العربية إلى تحقيقها، وكذلك إلى استكشاف الواقع الراهن لدراسات المستقبلات العربية على الصعد الرسمية وغير الرسمية، اما المقالان الثاني والثالث فيذهبان الى تناول العلاقة بين المدخلات الثقافية والاجتماعية والعلمية وبين تراجع دراسات المستقبلات العربية.
- دراسات المستقبلات العربية: الغاية المنشودة
لقد سبق القول إن هذه الدراسات قد بدأت بالصدور في منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي، متأخرة حتى بالمقارنة مع بعض دول الجنوب. ويرى، إبراهيم العيسوي، أن بدايتها اقترنت بنزوع بعض المثقفين العرب إلى التماهي مع واقع الانتشار العالمي للتفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته. ومع أهمية هذا الرأي، إلا أننا نرى أن مخرجات هزيمة العرب في حرب عام 1967 كانت المدخل الاكثر أهمية الذي يفسر هذا التماهي. فهذه المخرجات هي التي أدت إلى أن يبدأ الإحساس، على صعيد نخب عربية، بجدوى توظيف التفكير العلمي في المستقبل، وتطبيقاته العملية، سبيلا للحد من تفاقم التردي العربي كمقدمة للارتقاء الحضاري اللاحق.
ويؤكد ذلك تاريخ البدء بهذه الدراسات. فحسب معلوماتنا، يُعد مؤلف أنطوان زحلان وآخرون، الموسوم بالوطن العربي في عام 2000, والصادر عام 1975, أول إصدار عربي يدعو إلى التعامل مع المستقبل انطلاقا، من فكرة كانت، ولازالت، صحيحة، هي: ” إذا لم يخطط العرب لمستقبلهم بأنفسهم سيتولى غيرهم التخطيط (لهم).” وقد خلص، أنطوان زحلان, إلى رؤية كانت متفائلة في وقته مؤداها “… إذا استغلت الاقطار العربية مواردها الاستغلال الامثل, فستضيق فجوة الدخل بين الوطن العربي والدول المصنعة إلى 1-2 أو إلى 1-3 في مطلع القرن الحادي والعشرين.”
ومنذ صدور هذا الكتاب نشر المؤلفات و/أو الدراسات العربية ذات العلاقة. وفي ضوء نوعية مضامينها يمكن توزيعها إلى مستويين: نظرية/تعريفية، وأخرى استطلاعيه/ معيارية.[1]
فأما عن المؤلفات أو الدراسات النظرية/ التعريفية، فلقد تميز إنجازها، ومنذ البدء، بجهد فردي انصرف أساسا، إلى التعريف بالجوانب المتعددة للحقل المعرفي الذي أضحى يُسمى الان بدراسات المستقبلات. ونرى أن مؤلفات كل من أنطوان زحلان, وقسطنطين زريق, وحسن صعب من بين أهم المؤلفات العربية الرائدة الاولى, ومؤلفيها من بين ابرز أوائل الرواد من المستقبليين العرب.
إن ريادة هؤلاء المستقبليين العرب لا تكمن في مجرد التعريف بحقل معرفي لم يكن، في وقته, معروفا عربيا في العموم فحسب, وإنما تكمن أيضأ في دعوتهم, إلى الانحياز إلى المستقبل سبيلا للارتقاء بالاستجابة العربية إلى مستوى تحديات المستقبل. فهذه الدعوة انطوت، وكما يؤكد محمود عبد الفضيل، على استثارة “…الاهتمام بهموم المستقبل في الضمير العربي في عصر سادت فيه روح السلبية والاستسلام.”
ونرى، أن الإدراك بجدوى نشر ثقافة الانحياز إلى المستقبل داخل المجتمعات العربية هو الذي أدى إلى استمرار هذا النوع من المؤلفات والدراسات والبحوث، بل وحتى المقالات، ذات المضامين التعريفية إلى الوقت الراهن. ولا يستطيع المرء نكران التأثير الإيجابي، ولكن بعيد المدى، لمخرجاتها. فهي، مثلما يؤكد، محمد إبراهيم منصور، قد افضت إلى وضع”… لبنة جديدة في بناء التوجه المستقبلي في الثقافة العربية …”
وأما عن المؤلفات والدراسات الاستطلاعية/المعيارية، فلقد تميزت بخاصيتين: اولهما، أن إنجازها قد تم بجهد جماعي ضمن أطار مؤسساتي. وثانيهما، أن بعضها عمد إلى استشراف مستقبلات الوطن العربي على الصعيد الكلي، ومثالها مؤلفات: انطوان زحلان واخرون، وخير الدين حسيب واخرون وسعد الدين ابراهيم واخرون.
وبجانب هذا النمط من المؤلفات، هناك نمط اخر منها، تعبر عنه تلك المؤلفات، أو الدراسات القطاعية، التي تناولت مواضيع تميزت بطابعها الجزئي/القطاعي الخاص، كمستقبلات بعض الدول العربية، أو مستقبلات مشاكل داخلية محددة تعاني منها بعض الدول العربية.
وبالإضافة إلى هذه المستويات من المؤلفات العربية ذات البعد المستقبلي، استمر، مثلا، صدور مؤلفات اخرى تفيد عناوينها، ولو ضمنا، أنها تستشرف المستقبل, بيد أنها انصرفت عمليا, إلى البحث في الماضي أكثر من استشرافها لمشاهد المستقبل, ناهيك عن عدم توظيفها لإحدى المقاربات المنهجية المستخدمة في دراسات المستقبلات. ومثالها دراسة معن بشور واخرون المعنونة: الواقع العربي وتحديات قرن جديد، والصادرة عام 1995. ويتماهى هذا النمط من المؤلفات العربية مع اخرى تعمد إلى نشر مضامين ندوات علمية مهمة عن المستقبل العربي، ولكن من دون أن تحمل عناوينها صراحة كلمة المستقبل. ومثالها دراسة، السيد ياسين واخرون المعنونة: الوطن العربي بين قرنين، والصادرة عام 2000.
وتفيد المقارنة الكمية بين المؤلفات العربية النظرية/ التعريفية، والاستطلاعية/المعيارية، أن الغلبة لم تزل للنوع الاول منها. فعدد المؤلفات الاستطلاعية/ المعيارية العربية لم يتجاوز، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، وحسب معلوماتنا، عن سبع دراسات لا غير.
- الواقع الراهن لدراسات المستقبلات العربية
تفيد محدودية المؤلفات أعلاه أن عموم الواقع العربي، الرسمي وغير الرسمي، لا يقترن بما يدعم ذهاب عموم العرب إلى إيلاء دراسات المستقبلات الأهمية التي تستحقها. وتؤكد ما تقدم المعطيات الاتية:
- أولا، استمرار الاستشراف العربي الرسمي للمستقبل مقتصرا على عدد محدود من الدول العربية. فمن مجموع الدول الاعضاء في جامعة الدول العربية (أثنان وعشرون دولة)، تأخذ فقط تسع منها, هي: مصر, والسودان, والمغرب, الاردن, المملكة العربية السعودية, الامارات العربية المتحدة, والبحرين, وقطر, وسلطنة عمان, تأخذ بمشاريع لاستشراف مشاهد مستقبلاتها, ولازمنه متباينة, تمتد إلى بضعة عقود قادمة. فبينما امتد، مثلا، مشروع مستقبل مصر إلى عام 2020, يمتد مشروع مستقبل المملكة العربية السعودية، وكذلك مشروع مستقبل المغرب إلى عام 2030. إما مشروع مستقبل سلطنة عُمان فهو يمتد إلى عام 2040. وعلى خلاف هذه المشاريع، يتميز مشروع مستقبل دولة الإمارات العربية المتحدة في أنه الأكثر بعدا من حيث الزمان بالمقارنة مع سواه. إذ يمتد إلى عام 2071. وغني عن القول إن مدى قدرة انجاز هذه الدول، وسواها، لمشاريعها المستقبلية يتأثر بمدى ديمومة استقرار واقعها الداخلي. فالعكس يفضي إلى تعطيل هذا الإنجاز بالضرورة. ومثال ذلك المشاريع المستقبلية لكل من ليبيا وسوريا، التي ادت مخرجات الاحداث الداخلية فيهما إلى الغائها عمليا.
- ثانيا، ندرة استعانة الحكومات العربية بوزارات تتولى مسؤولية استشراف مستقبلات بلدانها. وتُعد دولة الإمارات العربية المتحدة، الدولة العربية الوحيدة، التي تتوافر على مثل هذه الوزارة، والتي تسمى بوزارة شؤون مجلس الوزراء والمستقبل. ولهذه الوزارة مهام محددة ذات علاقة بالمستقبل، فضلا عن الإشراف على تنفيذ المشروع المستقبلي للدولة، الذي تُشكل خطة الإمارات لعام 2021, ومئوية الإمارات لعام 2071 , جوهره. ويرى، خليفة ابراهيم البقيش , أن وراء إطلاق “… إستراتيجية الإمارات لاستشراف المستقبل … (يكمن في النزوع) إلى الكشف عن التهديدات والمخاطر المحتملة في كافة القطاعات الحيوية الهامة والعمل على تحليلها, ومن ثم تحديد الخطط الاستباقية بعيدة الامد على كافة المستويات, بغية خلق إنجازات وابتكارات جديدة من نوعها تحقق المنفعة للدولة.”
ووراء الاهتمام الخاص لدولة الأمارات العربية المتحدة في استشراف مشاهد المستقبل تكمن رؤية الشيخ محمد بن راشد ال مكتوم. فهو القائل:”…لقد استلهمنا من تجارب التاريخ أن الدولة التي استشرفت المستقبل واستعدت له جيدا هي التي تقود …اليوم (أما) الدولة التي تنتظر ما سيحدث (فإنها) ستظل تراوح مكانها في موقع المترقب.”
- ثالثا، إن ندرة وجود وزارات حكومية في الوطن العربي ذات وظيفة مستقبلية تنسحب ايضا على المراكز البحثية الرسمية، التي تنحصر وظيفتها، كما يفيد التطبيق العالمي، في تقديم الاستشارات والدراسات المستقبلية لحكومات دولها قبل اتخاذها لقراراتها. وتُعد مصر، وحسب معلوماتنا، الدولة العربية الوحيدة التي تتوافر على أحد هذه المراكز. ففيها يؤدي مركز الدراسات المستقبلية، الذي يرتبط رسميا بمجلس الوزراء المصري، مثل هذه الوظيفة.
- رابعا، ضآلة اهتمام جل الجامعات العربية، الرسمية والخاصة، بتلك البرامج الدراسية ذات العلاقة بالتفكير العلمي في المستقبل، التي تسهل تأهيل الإنسان العربي للمشاركة في عملية بناء المستقبل المنشود، ناهيك عن عدم منح شهادات عليا/ ماجستير ودكتوراه في تخصص دراسات المستقبلات.
- خامسا، وكما هو الحال مع جل الجامعات العربية، كذلك هو الحال مع جل مراكز البحوث العربية الخاصة التي تجعل من كلمات دراسات أو بحوت مستقبلية لصيقة بعناوينها الرسمية. فبغض النظر عن بضعة مراكز تحرص على جعل البحث في مألات المستقبل محور وظيفتها الاصلية، هذا على الرغم من معاناتها من مشاكل مهمة كضعف التمويل الرسمي وغير الرسمي ومحدودية عدد المستقبليين العرب، يؤكد، مثلا، أبراهيم العيسوي، أن جل هذه المراكز أما “…معطل لا نشاط له (عمليا), أو أنه ينشط ولكنه يزاول أنشطة لا تمت للمستقبل بصلة جلبا للموارد …(أو أما) يحوم حول مجال البحث المستقبلي … (ولكن ) دون أن ينتج بحوثا مستقبلية بالمعنى الحقيقي للكلمة. ومما يزيد الامر صعوبة، ان هذه المراكز لا اتصال بينها، ولا تحاور حول المستقبل وهمومه.”
- سادسا، كذلك محدودة هي الدوريات العربية الجادة والمتخصصة في نشر ما له علاقة بالتفكير العلمي في المستقبل عموما، والعربي خصوصا. وحسب معلوماتنا، تتحدد هذه الدوريات في مجلة دراسات مستقبلية، نصف سنوية، التي يصدرها، ومنذ عام 2006, مركز دراسات المستقبل في جامعة أسيوط المصرية، وكذلك في كتاب استشراف للدراسات المستقبلية، الذي يصدر، ومنذ عام 2016, عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات في الدوحة، قطر. فضلا عن مجلة دراسات مستقبلية، نصف سنوية، التي تصدرها عمادة البحث العلمي في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا.
وبجانب هذه الدوريات الجادة، هناك أخرى رصينة تحمل عناوينها كلمة المستقبل، ولكنها لا تنصرف إلى التخصص فيه حصريا، ومثالها مجلة المستقبل العربي الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت. كما أن هناك دوريات عربية أخرى تحمل عناوين متنوعة تحرص على نشر مواضيع ذات مضامين مستقبلية. ومثالها مجلة السياسة الدولية الصادرة عن مؤسسة الاهرام في القاهرة. وكذلك مجلة لباب للدراسات الاستراتيجية، الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات في قطر.
- سابعا، نادرة هي وسائل الاتصال الجماهيري العربية، كالمجلات العامة والصحف والتلفاز، التي تولي أهمية لنشر ثقافة الانحياز إلى المستقبل داخل المجتمعات العربية. فنشر مثل هذه الثقافة لا يبدو أنها من بين أولوياتها، هذا على العكس من عدم تتردد بعض هذه الوسائل عن تسويق انماط التفكير ما قبل العلمي في المستقبل، كقراءة الابراج، أو النجوم وغيرهما.
وعلى الرغم من أن الاهتمام العربي في التفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية، قد أقترن منذ منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي، ببداية واعدة، إلا أن مخرجاته خلال الزمان اللاحق، لا تستوي ونوعية زخم بداياته. لذا لا غرابة في أن هذه المخرجات لم تساعد على إحداث نوع من التغيير الايجابي في أنماط تفكيرنا، ومن ثم سلوكنا حيال المستقبل. فانحياز كثير منا إلى الماضي و/أو الحاضر، في أحسن الاحوال، هو أعمق تجذرا من انحيازنا إلى المستقبل.
واتساقا، مثلا، مع رؤى، هادي الهيتي، وكذلك خير الدين حسيب واخرون، حول غياب المستقبل عن وعينا و/اوعن تصوراتنا وإبداعنا، يؤكد سعد الدين إبراهيم، أن تراكم حالات الياس والاحباط وانتشارهما داخل الوطن العربي، جراء المخرجات السلبية لتجربة الماضي وثقل معطيات الحاضر, جعلت المواطن العربي يرى في الحديث عن المستقبل العربي, وكأنه حديثا “…لا يعنيه أو على الاقل يتعلق بأمور لا طاقة له بها ولا قدرة له عليها, فلا شيء يربط في ذهنه بين الماضي والحاضر والمستقبل … لذلك يبدو المستقبل (له) وكأنه عالم أخر…”
ولا نرى أن سعد الدين إبراهيم يغالي في قوله هذا. فانحياز جل العرب إلى الماضي و/او الحاضر، فضلا عن تأثير سياسة النفس القصير في أنماط تفكير وسلوك جلنا، قد حد من نزوعنا إلى التجديد والارتقاء بمجتمعاتنا إلى مستوى تحديات روح العصر وبمخرجات ادت عمليا إلى استعمار مستقبلنا من قبل تلك القوى الطامعة في موقعنا وثرواتنا. وقد سبق لنا القول إن من لا يصنع مستقبله على وفق رؤيته يعمد الآخرون إلى صناعته له، ولكن لصالحهم.
وغني عن القول إن هذا الموقف العربي السلبي من المستقبل لم يكن بداهة بمعزل عن التأثير العميق في الذات العربية لثمة مدخلات/ أسباب/ أساسية متعددة. وسينصرف مقالنا القادم إلى تناول هذه المدخلات.
- أستاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات