في الشهرين الماضيين تم وبالتعاقب تناول المقاربات الموضوعية بشقيها الاتجاهي والمعياري المستخدمة في دراسات المستقبلات. في هذا العدد من مجلة الحصاد سنتناول نوع أخر من هذه المقاربات، هي تلك المسماة بالمقاربات الذاتية. وعلى الرغم من تعددها، سيتم التركيز على إحدى أهمها، هي مقاربة تقنية دلفي.
ابتداء، تعبر الذاتية عن مفهوم يُفيد بتأثير مجمل تلك المفردات غير الموضوعية، كالرؤى والتجارب والافضليات الشخصية، التي تستخدم إنسانيا لإدراك شيء ما محدد. لذا، وعلى خلاف المقاربات الموضوعية التي تتخذ من الحقائق المتوفرة عن موضوع الاستشراف والمؤشرات الدالة عليه أساسا لها، يصار عادة إلى الاخذ بالمقاربات الذاتية عندما تكون البيانات والمعلومات المتوفرة عن أحد المواضيع كيفية أصلا، كالوثائق وما شابه ذلك، و/أو التي لا يمكن بالتالي تحويلها إلى بيانات كمية.
وتتميز هذه المقاربات باعتمادها عادة على رؤى وتقييمات الخبراء الذين يناط بهم إنجاز إحدى دراسات المستقبلات، وهو الامر الذي يجعلها، والقياس مع الفرق، امتدادا معاصرا لاتجاه إنسان قرون ما قبل الحضارة إلى الاستعانة باهل الثقة لاكتساب المعرفة. ومن هنا تسمى المقاربات الذاتية بمقاربات الاستشراف من خلال الخبراء (Expert Forecasting).
وتفيد مضامين هذه المقاربات أنها من نوعين: الاول بالغ التبسيط، والثاني شديد التعقيد. فأما عن الاول، فهو يكمن في استطلاع رأي أحد الخبراء، أو مجموعة محدودة منهم، في شأن مستقبل أو مستقبلات أحد المواضيع، أو جانب منه، ومن ثم تبني رأي هذا الخبير (أو الخبراء) ولا غير. وكما يؤكد إدوارد كورنيش “لا تجد هذه الالية قبولا لدى المستقبليين المحترفين (لان الرأي الواحد قد يكون) … مضللا أو منحازا.
وتأثرا بألية الاستشراف عبر الخبير (أو الخبراء) تم تطوير ألية أخرى عمدت إلى استبدال الخبراء بالرأي العام المحلي لاستطلاع أفضلياته في شأن المستقبل.
وإما عن النوع الثاني من المقاربات الذاتية، فهو يقترن بإجراءات منهجية تتميز بقدر عال من التعقيد. ومن بينها مثلا مقاربة تقنية دلفي وكذلك مقاربة مصفوفة التأثير المتبادل. وسنكتفي بتناول المقاربة الأولى للأهمية.
مقاربة تقنية دلفي
تكتسب هذه المقاربة تسميتها ( Delphi Technique) من اسم ذلك المعبد, الذي اتخذه الكهنة الإغريق القدامى حوالي 570 ق.م مكانا لعبادة الإله أبولّو (ومعناه قوة العقل ), وممارسة عملية تقديم النصح للسائلين, وبضمنه التكهن بالمستقبل نيابة عن هذا الإله. وغني عن القول أن اقتران مقاربة تقنية دلفي بهذه التسمية لا يعني أنها تُعد امتدادا معاصرا تلك الممارسات الدينية الأسطورية للكهنة الإغريق.
تاريخيا، تعود الجذور الأولى لاستخدام هذه المقاربة إلى الاربعينيات من القرن الماضي. ففي وقته دفعت متطلبات الحرب الباردة وحاجات الامن القومي الامريكي بالمؤسسة العسكرية الامريكية إلى تكليف مؤسسة راند الامريكية بتقديم رؤية تتيح لها التعامل بعيد المدى مع مشاكل عسكرية مستقبلية كتأثير تطور القدرات التكنولوجية العسكرية للاتحاد السوفيتي السابق. وقد تجسدت هذه الرؤية في مقاربة تقنية دلفي.
بيد أن هذه المقاربة لم تقترن بهيكلية إجرائية محددة إلا في عام 1964, وذلك عندما عمد عدد من المستقبليين الامريكيين العاملين في مؤسسة راند إلى الاخذ بألية تأسست على استخلاص رؤى عدد من الخبراء في شأن مستقبلات مواضيع محددة عبر التفاعل الهيكلي غير المباشر، بديلا عن الاعتماد التام على رأي خبير واحد. وقد ساعدت أزمة كوبا عام 1962 على بلورة هذه الرؤية. فهذه الازمة أفرزت حاجة أمريكية إلى رؤى مستقبلية تساعد صناع القرار على التعامل مع الازمات الدولية عند اندلاعها وتصاعدها.
على أن مقاربة تقنية دلفي، بإجراءاتها المحددة، لم تبدأ بالانتشار إلا منذ بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي صعودا. وتؤكد ذلك أعداد الابحاث المنشورة عنها خلال اعوام) 1974-1970(. ففي هذه الفترة تم نشر (355 ) بحثا تناول مضمونها بالمقارنة مع) 134( بحثا خلال زمان ما قبل السبعينيات. وكذلك يؤكد، ويندل بلِ, أن الزمان الممتد, منذ منتصف السبعينيات حتى نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي, قد شهد اهتماما بحثيا مكثفا بمقاربة دلفي.
وقد تبع كثافة الاهتمام بها، انتشار توظيفها العملي على صعد متنوعة. فبعد أن كان جل هذا التوظيف ينحصر في الاستشراف التكنولوجي بعيد المدى، الذي كان وراء ابتكارها أصلا في وقته، إلا أن هذا التوظيف امتد عبر الزمان إلى مواضيع أخرى لها علاقة بحاجات داخلية متعددة، فضلا عن اهتمامات علمية شتى. فمثلا تتمتع هذه التقنية بقدر واسع من الاهتمام، الخاص في مجال الدراسات التربوية.
كما أن مقاربة تقنية دلفي صارت تُستخدم حتى من قبل طلبة الدراسات العليا: الماجستير والدكتوراه في إعداد رسائلهم أو إطاريحهم الاكاديمية. كذلك لم يُعد الاخذ بمقاربة تقنية دلفي يقتصر على المؤسسات الرسمية. فمؤسسات غير رسمية كالجامعات، ومراكز البحث، ومنظمات مالية وشركات تجارية وسواها أضحت تأخذ بها أيضا، والامر ذاته ينسحب كذلك على المنظمات غير الحكومية، كمنظمة الامم المتحدة للتنمية الصناعية.
إن الانتشار الواسع لهذه المقاربة ادى إلى إلغاء احتكار توظيفها أمريكيا وأوربيا كما كان هو الحال ابتداء”. فاستخدامها صار محط اهتمام مكثف من قبل الدول المتقدمة في عالم الجنوب أيضا. ففي اليابان، مثلا، تُعد أحد أبرز المقاربات المستخدمة في استشراف مشاهد المستقبل. وفي الهند تعود تجربة توظيفها الواسع إلى عقد السبعينيات من القرن الماضي. وفي ضوء التجربة الهندية وسواها نرى أن قول، ماسيني:” إن مقاربة دلفي لا تجد استجابة في عالم الجنوب” لا ينسحب إلا على واقع دراسات المستقبلات في الدول المتأخرة والمتخلفة.
تتأسس مقاربة تقنية دلفي على رؤية مفادها أن تكرار التفاعل الهيكلي غير المباشر، والعصف الذهني الناجم عنه، بين مجموعة محددة ومختارة بدقة من الخبراء، هو السبيل الاكثر موضوعية لتأمين استشراف دقيق يحظى باتفاق أغلبية أراء الخبراء في الاقل على المشاهد الممكنة و/أو المحتملة و/أو المرغوب فيها لمستقبل موضوع الاهتمام. ومرد التركيز على مثل هذا التفاعل هو أن حصيلة الرأي الجماعي الناجم عنه تكون بالضرورة أكثر دقة وموضوعية من الراي الفردي و/أو من مخرجات التفاعلات المباشرة، سيما وإن هذه المقاربة تجعل من إخفاء شخصيات الخبراء بعضهم عن البعض الآخر من بين خصائصها الاساسية، سبيلا لتفادي التأثيرات الشخصية ولضمان استقلالية أراء الخبراء.
وتتعدد طرق استخدام مقاربة دلفي في الوقت الراهن. ويمكن تحديد أربع منها:
- أولا، طريقة مؤتمر دلفي (Delphi Conference) التي تستغني عن فريق العمل، الذي تتميز به هذه المقاربة في صيغتها الاصلية، ومن ثم تستعين بجهاز للحاسوب مبرمج سلفا للقيام بالإجراءات المنهجية التي تأخذ بها هذه المقاربة. ويُعد اختزال الوقت المستهلك في إنجاز الجولات المتعددة لمقاربة دلفي من اهم ايجابيات هذه الطريقة.
- ثانيا، طريقة دلفي العامة (Public Delphi) التي تعمد إلى التعرف على أفضليات احد المجتمعات عبر تكرار استطلاع الرأي العام عبر ادوات الاتصال الجماهيري.
- ثالثا، طريقة دلفي للقرارات Delphi Decision)) التي تسعى إلى اتخاذ القرارات الخاصة بموضوع محدد من خلال طرح افكار عامة مع الاخذ بنظر الاعتبار التغيرات التي يمكن أن تحدث في المستقبل.
- رابعا، طريقة دلفي الاثنوغرافية(Ethnographic Delphi) التي تدمج الإجراءات المنهجية التي تتميز بها هذه التقنية في صورتها الاصلية مع الاساليب الاثنوغرافية المستخدمة في دراسة ماضي احد المواضيع وحاضره.
إن تعددية طرق استخدام مقاربة دلفي لا تلغي أن الهيكلية التي اقترنت بها في ستينيات القرن الماضي لازالت هي الاكثر استخداما ومن ثم انتشارا.
تنطلق هذه المقاربة، كسواها من المقاربات المستخدمة في دراسات المستقبلات، من ألية تأخذ بإجراءات شكلية وموضوعية محددة:
فإما عن الإجراءات الشكلية، فهي تكمن في قيام الجهة الراعية للاستشراف، سواء كانت هذه رسمية عامة أو غير رسمية خاصة، بما يلي:
- اولا، تحديد موضوع الاستشراف، ومداه الزماني، كأن يكون ضمن المستقبل القريب أو المتوسط أو البعيد، فضلا عن تحديد مدة الإنجاز.
- ثانيا، اختيار فريق العمل من مستقبليين محترفين بعد إخضاعهم لمعايير اختيار موضوعية لتحديد مستوى خبراتهم، ومن ثم اختيار عدد محدد من بين أفضلهم علميا. ويتكرر القول: إن المفاضلة بين الخبراء تُعد أحد اهم الإجراءات الشكلية لتقنية دلفي، سيما وإن مدى كفاءة هؤلاء الخبراء هي التي تحدد نوعية مخرجات هذه التقنية. ويتباين الراي في شأن العدد الامثل لهؤلاء الخبراء. ونحن مع محدودية هذا العدد، هذا لأنه يجعل من عملية اتخاذ القرار أكثر سهولة.
ويُفترض في فريق العمل أن يتولى إنجاز مهام محددة، وكالاتي:
- ترشيح عدد من الباحثين أصحاب المعرفة المتخصصة في موضوع الاهتمام، أو في بعض جوانبه، ومن خلفيات علمية متنوعة، للمشاركة في إنجاز عملية الاستشراف بجهد مشترك.
- اختيار المنسق أو المنسقين من بين مجموعة الخبراء للإشراف على الإجراءات الإدارية لمجمل عملية الاستشراف.
- الإشراف على تنفيذ الإجراءات المنهجية التي تتميز بها مقاربة تقنية دلفي.
- إعداد التقرير النهائي عن حصيلة عملية استشراف مستقبل موضوع الاهتمام.
وإما عن الإجراءات المنهجية، التي تُعبر حصيلتها عن ألية تنفرد بها مقاربة تقنية دلفي عن سواها، فقوامها تكرار عملية التفاعل الهيكلي غير المباشر بين مجموعة الخبراء وعلى وفق جولات متعددة ومتعاقبة زمانا ومتجددة مضمونا ولغاية نهائية تكمن في تأمين إجماع كافة، أو اغلب الخبراء، على رؤية محددة في شأن المشاهد البديلة لمستقبل موضوع الاهتمام. وتقترن هذه الإجراءات، التي يقوم بها فريق المتابعة، أو المنسق، بالآتي:
- أولا، إجراء استطلاع أولي مفتوح لرؤى الخبراء في شأن مستقبلات موضوع الاهتمام، ومن ثم ترتيب مخرجات هذا الاستطلاع على شكل قائمة تمهد لبناء استبانة مفتوحة، قد تكون استقرائية أو استنتاجية، تتضمن أسئلة ذات صياغات دقيقة لغويا وواضحة مضمونا. هذا فضلا عن وضع خيارات للإجابة عليها مع تحديد درجة الموافقة عليها: موافق جدا، أو موافق، أو غير موافق، أو محايد.
- ثانيا، تلخيص حصيلة هذا الاستطلاع على صيغة اسئلة تتضمنها استبانة وتوزيعها على الخبراء، عبر أدوات الاتصال المتاحة ومن دون الإشهار عن الاسماء تأمينا للسرية، للتعرف على نوعية إجاباتهم عن هذه الاسئلة، مع ترك حرية الاجابة لهم. وهذه هي الجولة الاولى.
- ثالثا، بعد استلام ردود الخبراء على اسئلة الاستبانة الاولى يتم تلخيص مضامينها احصائيا وترتيبها على حقول مغلقة، وإعادة إرسالها إلى كل منهم مرفقة بإجابته السابقة على اسئلة استبانة الجولة الاولى. وبهذا الإجراء يراد أتاحه الفرصة لكل خبير التعرف على أراء سواه، ولاسيما اولئك أصحاب الاختصاص في غير اختصاصه العلمي الدقيق، وكذلك الاستفادة من المعلومات المكتسبة جراء ذلك، هذا أما لإعادة النظر في رأيه السابق، أو اعادة تأكيده مرة أخرى. وهذه هي الجولة الثانية.
- رابعا، بعد استلام ردود الخبراء على أسئلة استبانة الجولة الثانية، يتم تحليل وتقيم فحواها أحشائيا لتحديد مدى الاتفاق أ بين الخبراء. وفي ضوء حصيلة ذلك يصار إلى إعداد استبانة جديدة مغلقة تتضمن أسئلة ذات مضامين أكثر تحديدا عن موضوع الاهتمام من تلك السابقة عليها، وأعاده إرسالها إلى الخبراء من أجل التعرف على آرائهم النهائية في شأن المشاهد البديلة لمستقبل موضوع الاهتمام. وهذه هي الجولة الثالثة.
- خامسا، في حالة استمرار الاختلاف بين الخبراء يتم لاحقا الاخذ بجولة، أو جولات أخرى، إلى أن يضحى ممكنا الوصول إلى رأي يحظى بموافقة أغلب الخبراء، في الاقل. وعند الوصول إلى مثل هذا الرأي يكون الهدف، جراء توظيف مقاربة تقنية دلفي، قد تحقق، علما أن هذه الموافقة قد تحدث بعد بضع جولات أو أكثر. وكلما زاد عدد هذه الجولات، زادت دقة مخرجات هذه التقنية ودرجة مصداقيتها، سيما وأن تكرار هذه الجولات يتيح للخبراء فرصة إعادة النظر في تقديراتهم أكثر من مرة وعلى نحو يتماهى مع المعرفة المكتسبة جراء تبادل المعلومات فيما بينهم.
وفي ضوء مجمل الإجراءات المنهجية لمقاربة تقنية دلفي، نتفق مع القول: “…أنها تعبر عن نمط من التفكير يستوي والتفكير الديالكتيكي للفيلسوف الالماني: هيجل، بمعنى أن التناقض بين رؤيةThesis) ) محددة, ورؤية أخرى مضادة (Antithesis) يفضي إلى تركيب رؤية ابداعية ثالثة (Synthesis)”
وتتباين الآراء في شأن الفائدة العملية لهذه المقاربة. فبينما ذهبت أراء إلى تأكيد مصداقية مخرجاتها، عمدت أراء أخرى إلى التشكيك بها. وغني عن القول إن هذه المقاربة، كسواها، تقترن بإيجابيات ولا تخلو من السلبيات.
فإما عن ايجابياتها، فهي تكمن مثلا في الاتي:
- اولا، إمكانية استخدامها استقرائيا لاستشراف مشاهد المستقبل الممكن والمحتمل انطلاقا من الحاضر، وكذلك أمكانية توظيفها معياريا لاستشراف المشهد المرغوب فيه مستقبلا. وهي بهذا، وكما يؤكد نيكولاس ريخر, تستوي “… والمقاربة, التي يلجأ اليها الافراد عندما تكون حاجتهم لاستشراف المستقبل, حاجة عالية.”
- ثانيا، تساعد على احتواء السلبيات الناجمة عن عمليات التفاعل الهيكلي المباشر بين الخبراء، ولاسيما التأثير النفسي المباشر أو غير المباشر الذي يتمتع به بعض الخبراء، لأسباب مختلفة، في سواهم. فجراء تبني السرية في شأن أسماء الخبراء، فإن مقاربة تقنية دلفي تتيح الفرصة لبناء بيئة تشجع على التفكير المستقل والحر، واعادة صياغة الراي على نحو يتماشى مع المعرفة المكتسبة جراء خاصية تبادل المعلومات والاستدلال بين الخبراء التي تتسم بها مقاربة دلفي.
- ثالثا، قدرتها على الجمع، وبكلفة رخيصة، بين الخبراء حتى وإن كانوا في أماكن متباعدة جغرافيا عن بعض، عبر توظيف شتى أدوات الاتصال المتاحة. وبهذا تتميز بقدرتها على تأمين تبادل المعلومات بين الخبراء بسرعة نسبية، ومن ثم بلورة حالة من التفكير الجمعي الإنساني المبدع. وهذه الخاصية هي التي تجعل هذه المقاربة تختلف عن تلك اللقاءات والاجتماعات التقليدية، التي تتطلب حضور أهل الاختصاص في مكان محدد.
- رابعا، إنها مقاربة نظامية تستخدم منهج تحليل النظم. فهنالك مدخلات يفرزها تكرار اللجوء إلى صيغة الاستبانة، وهنالك مخرجات تكشفها عملية المقارنة بين اراء الخبراء، ثم هناك تغذية راجعة، تعكسها عملية تقيم هذه المخرجات في صورة مدخلات، قد تدفع بالخبير إلى إعادة النظر فيما يراه وتوجيهه الجهة الاكثر صوابا. ومما يدعم موضعيتها أيضا انها تستخدم الاحصاء في تحليل نتائج استبانات استطلاع الرأي.
- خامسا، إنها مقاربة تُعد الاكثر ملائمة للبحث في تلك المواضيع التي لا تتوافر عنها في الحاضر معلومات كافية، أو التي لا تتوافر مقاربة أخرى للبحث فيها. ومن هنا تمت تسميتها بمقاربة الملاذ الاخير. وإلى هذا المعنى، يذهب بريخر, مؤكدا إنها المقاربة التي يتم اللجوء اليها عندما تكون الحاجة لاستشراف المستقبل حاجة عالية.
- سادسا، إن سهولة تطبيق إجراءاتها المنهجية يتيح توظيفها على شتى الصعد، هذا فضلا عن إمكانية الاستعانة بإجراءاتها من قبل مقاربات أخرى دعما لمصداقية مخرجاتها. وإلى ذلك ذهبت مثلا مقاربات بناء المشاهد، والنماذج العالمية.
- وإما عن سلبياتها، فهي تكمن مثلا في الاتي:
- اولا، إن إنجازها يحتاج إلى زمان طويل نسبيا، خصوصا عندما يتطلب الوصول إلى توافق بين الخبراء الاخذ بالعديد من الجولات. وهذا الامر الذي قد يفضي، متفاعلا مع أسباب أخرى خاصة بالخبراء، إلى صعوبة الإبقاء على اهتمامهم بذات الفاعلية والحماس مما قد يؤدي إلى تأكل استعدادهم والتزامهم بديمومة مشاركتهم فيها.
- ثانيا، قد لا يُصار إلى صياغة استبانات استطلاع الرأي، التي تشكل أساس مقاربة تقنية دلفي، بمهارة عالية ,الامر الذي قد لا يجعل من الاسئلة التي تتضمنها على علاقة وطيدة بموضوع الاستشراف, أو قد تكون على قدر من الغموض أو التحيز, مما يؤدي إلى مخرجات تتماهى مع هذا الخلل.
- ثالثا، إمكانية استخدامها على نحو سيء جراء مثلا أما لعدم موضوعية بعض الخبراء، و/أو لعدم إدراكهم للترابط بين أبعاد موضوع الاهتمام، و/أو لعدم متابعتهم للتغيرات التي تطرأ عليه
- رابعا، احتمال ذهاب فريق العمل إلى تبني صيغة منتصف الطريق لضمان الوصول إلى اتفاق بشأن بعض المشاهد البديلة لمستقبل موضوع الاهتمام، وهو الامر الذي يفضي إلى التغاضي عن مشاهد أخرى قد تكون أكثر أهمية.
وعلى الرغم من التشكيك بجدوى هذه المقاربة، إلا أن إيجابياتها تعلو سلبياتها. ولهذا يتكرر القول إنها إحدى المقاربات التي تتمتع بانتشار واسع بين المستقبليين عبر العالم.
*أستاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات