دين الحب في لبنان

كلما قرأت دعوات من السياسيين للمحبة بين أبناء الوطن الواحد لبنان أتذكر أبياتاً لمحي الدين بن عربي يقول فيها:

  كنت قبل اليوم أنكر صاحبي

   إن لم يكن ديني إلى دينه داني

‎لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

‎فمرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ

‎وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ

‎وألواح توراةٍ، ومصحف قرآنِ

‎أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ

‎ركائبه، فالحب ديني وإيماني

عند الحديث عن القبول بالآخر والعيش في سلام في وطن الأرز، تجذبنا كلمات محي الدين بن عربي، التي تعكس فلسفة الانفتاح على الآخر والمحبة التي يجب أن تسود بين البشر. تعكس الأبيات التي أوردتها تجربة إنسانية عميقة تعزز فكرة أن الحب هو دينٌ شامل، يتعدى كل الانقسامات المذهبية والطائفية. ومع تصاعد الدعوات للمحبة والوحدة بين أبناء لبنان، نجد أنفسنا أمام مفترق طرق تحتاج فيه مجتمعاتنا إلى إعادة التفكير في هويتها وتنميتها بعيدًا عن المعايير الطائفية.

في تاريخ لبنان، كانت الطائفية جزءًا رئيسيًا من تشكيل الهوية السياسية والاجتماعية. فقد اتسمت البلاد بتنوعها الفريد، حيث اختلطت الثقافات والأديان، مما أسهم في خلق مجتمع غني، لكنه معقد في آن واحد. إلا أن تلك التركيبة ساهمت في نشوء معايير طائفية أدت في كثير من الأحيان إلى تهميش بعض الفئات. ومع مرور الزمن، أصبح هناك وعي متزايد بأهمية الانتقال من هذه المعايير الطائفية إلى معايير وطنية تسلط الضوء على قيم الانتماء والامتزاج.

لقد مر لبنان بتجارب مؤلمة خلال الحرب الأهلية (1975-1990) التي أظهرت بوضوح المخاطر التي تنجم عن الانقسام الطائفي. خلال تلك الفترة، فقد العديد من اللبنانيين أيديهم، وفقد الوطن الكثير من القيم الإنسانية والأخلاقية التي من المفترض أن تسود. ليس من باب المبالغة القول إن الحرب كشفت عن ضرورة إنشاء قاعدة جديدة للتفاهم داخل المجتمع اللبناني، تلك القاعدة التي يجب أن تكون مبنية على الاحترام المتبادل وقبول الآخر.

في سياق البحث عن القبول بالآخر، نجد الشعراء العرب، خاصة منهم اللبنانيين، يبثون رسائل قوية تعكس هذه المفاهيم الإنسانية النبيلة. يقول الشاعر اللبناني جبران خليل جبران: “إن أحببت فلا تظل محبًا لأحد إلا بأن تعرف كيف تحب”. يعكس هذا الاقتباس فكرة أساسية، وهي أنه يجب على كل فرد أن يسعى لفهم الآخر، والتقرب منه بروح التسامح والاعتراف بحقوقه.

في إطار هذا الفهم، تظهر أهمية نشر ثقافة التسامح بين الأجيال الناشئة. فعلى سبيل المثال، تسعى العديد من المؤسسات اللبنانية إلى تعزيز التربية الوطنية التي تدعم مفاهيم القبول والاحترام المتبادل. إن تدريس تاريخ لبنان المتنوع، بجميع جوانبه، يساعد على تكوين شخصية وطنية تتخطى الحواجز والعوائق. إن هذه الجهود لا بد أن تسهم في بناء مجتمع أكثر توافقًا وتعاونًا، مختصرًا بذلك المسافات النفسية بين الأفراد.

وبالانتقال إلى شعراء آخرين، نجد أن نزار قباني، الشاعر المعروف، يعبر عن حب الإنسان للإنسان بعيدًا عن الاختلافات. يقول: “الشوق لا يعبأ بالأعراق والأصل”. هذه العبارة تلخص ببساطة أنه لا ينبغي للهوية الاجتماعية أو الطائفية أن تكون عائقًا أمام الحب والرغبة في التقارب. فعندما نفهم أن المشاعر الإنسانية تتجاوز الحدود المصطنعة، نستطيع أن نُحسن التواصل ونبني مجتمعًا متماسكاً.

علاوة على ذلك، يمكن أن نستحضر مقولات لشاعر مصري شهير مثل أحمد فؤاد نجم، الذي كان دائمًا يبرز أهمية النضال من أجل حقوق الإنسان والقبول بالاختلاف. يقول: “لا يمكن أن يوجد وطن بدون حرية، ولا حرية بدون قبول الآخر”. هذه الكلمات تعكس بوضوح أن بناء الوطن يتطلب منا تعزيز قيم الحرية والمساواة، وهو ما يتطلب منا جميعًا رص الصفوف لتحقيق أهداف نبيلة.

حين ننظر إلى الماضي القريب وما مر به لبنان من الأزمات السياسية والاقتصادية، فإن حاجة اللبنانيين للقبول بالآخر، وللتوحد في سبيل بناء المستقبل، تزداد وضوحًا. فقد أظهرت التجارب أن بلاد الأرز تمتلك قدرة فريدة على النهوض من تحت الرماد، ولكن هذا لن يتحقق إلا من خلال تعزيز الهوية الوطنية التي تحتضن كل الأديان والطوائف.

لبنان هو نموذج عالمي في التنوع، لكنه في ذات الوقت يأتي مع تحديات تتطلب الوعي والتضامن. إن ارتباط الناس بالمكان وبالتاريخ هو ما يجعل لبنان فريدًا في تكوينه، ومع ذلك، يجب أن ندرك أن هذا التعدد لا يمكن أن يكون مصدر تفرقة، بل يجب أن يتحول إلى مصدر قوة. كما يشير فيلسوف ومفكر لبناني بارز، أنطوان مقدسي، عندما قال: “تاريخنا المشترك هو جسرنا نحو المستقبل”.

لذا، يعتبر القبول بالآخر مسارًا يجب أن يُتنفذ في جميع جوانب الحياة اللبنانية، سواء كانت الحياة السياسية، الاجتماعية، أو الثقافية. فمن خلال التواصل والتفاعل المباشر بين الأفراد من خلفيات متنوعة، يمكننا تجاوز الفجوات العميقة. يحدث ذلك عندما يتبنى الناس عقيدة “نحن معًا، أو لا أحد”، كما قال الشاعر عبد الرحمن الأبنودي: “المحبّة لا تفرّق بين الأديان”.

في ضوء ذلك، لابد من الإقرار أن تحقيق السلام الدائم في لبنان يتطلب جهودًا جماعية، يتعاون فيها الأفراد والجماعات، سواء كانت مجتمعات مدنية أو مؤسسات حكومية. يبدأ هذا التعاون بتعليم الأطفال مبادئ التسامح، حيث نجد في قصائد الشاعر اللبناني سعيد عقل ما يعكس هذه الفلسفة، حيث يقول: “لا تسألني عن لون دمي، فأنا إنسان”. تعكس هذه العبارة قيمة الإنسانية التي يجب أن تكون المحور الأساسي لكل نقاش حول القبول بالآخر.

إن تعزيز القيم الإنسانية، والقبول بالاختلاف، وبناء العلاقات الوثيقة بين المكونات الاجتماعية المختلفة هي كلّها خطوات هامة نحو تحقيق السلام الحقيقي في لبنان. عندما نعترف بأن لكل شخص قصة، وتجربة، ورؤية، فإننا نكون قد بدأنا في بناء مجتمع يتجاوز الجدران النفسية والاهتمامات الذاتية.

يعتبر الانتقال من المعايير الطائفية إلى المعايير الوطنية هو رحلة تحتاج إلى صبر وعمل جماعي. فإذا تمكنا من التعلم من دروس التاريخ واستخدام الفنون كوسيلة للتواصل، سنتمكن من خلق تيار تاريخي جديد يعبر عن الوحدة في التنوع. قد يكون الشعر والفن وسيلتين قويتين للتعبير عن المشاعر الوطنية، ولبنان على وجه الخصوص قد أظهر قدرته على الاستجابة للفنون في الكثير من المحطات.

في النهاية، لن يصل لبنان إلى بناء قاعدة صلبة للقبول بالآخر إلا من خلال قناعة جماعية بأن النجاح والازدهار لن يتحقق إلا عندما نرتفع فوق خلافاتنا ونجتمع تحت راية الوطن. وكما قال الشاعر اللبناني المميز وديع الصافي، “لا نعيش لنفسنا فقط، بل لنترك أثرًا في قلوب الغير”. وهكذا، يجب أن نعمل جميعًا من أجل غدٍ أفضل، حيث يعم السلام والمحبة، وحيث تكون هناك مساحة للجميع، بغض النظر عن الدين أو الطائفة، لأن النتيجة ستكون لبنان أكثر تماسكًا، وضوءًا في منطقة تتوق إلى السلام والوئام.