سئم اللبنانيون من احصاء حروب تهديها اليهم جغرافيا ملعونة، تغريك بجمالها لتقع في الغواية وتبقى مزروعاً في المكان مثل شجرة دهرية.
وليس عنصرية مقصودة ذلك الشعور بأن السوريين الهاربين الى لبنان هم وحدهم يتمسكون بملجئهم الأشبه بخشبة تمنع الغرق. بهذا المعنى فلبنان يبقى مرغوباً حتى في ذروة احتراقه حيث حطام بيوت وأشجار في البلدات القريبة من اسرائيل، وحيث الحرائق تأكل الأخضر واليابس وتفسد وعود التراب بزرع أخضر.
وما يحدث في لبنان هو وجه من وجوه حطام غزة الكبير. انها الحرب الأشد قسوة والأشبه بمواقع لا تنسى مثل ستالينغراد، أو بانفجار القنابل الذرية لعنة البشر على البشر.
وإذا كانت مؤسسات اوروبية واميركية تحرص على تجديد المعرفة بالهولوكوست لإحياء الشعور بالإثم تجاه ضحايا الاستبداد النازي، فهذا يعني البقاء في صفحة واحدة من التاريخ وتعذر المصالحة حتى وإن توحدت مصالح الأعداء فصاروا أصدقاء.
تجديد الشعور بالاثم تفيد منه اسرائيل، خصوصاً الجهات اليمينية المتطرفة في الدولة والمجتمع، ويؤدي الى أن تكون هي “دولة أوشفيتز” لا دولة مواطنيها. وما إعلان يهودية الدولة سوى استمرار لاحياءات حمامات الدم والمحارق. هكذا يتم تأكيد الانفصال عن البشر الآخرين، فقط لكونهم آخرين.
لن تتوقف “دولة اوشفيتز” عند حدود، فلكل شعب اوشفيتزه، خصوصاً الشعب الفلسطيني الذي عرض تناسي بعض الحقوق في مقابل دولة له على ما تبقى من أرضه التاريخية، ولم يستجب أحد لعرضه.
ماذا لو أصر الفلسطينيون على انشاء “دولة اوشفيتز فلسطينية” من النهر الى البحر؟ سؤال يوجه الى الرأي العام العالمي ومؤسساته المعنية بهذا الشأن، ومن بينها “قوة المهمات الخاصة الدولية للتعاون حول التربية المتعلقة بالمحرقة وتخليد الذكرى والأبحاث” التي تحتفل في حيفا مرة في السنة بذكرى تأسيسها.
أنفض رأسي من كوابيس السياسة الغامضة وأستيقظ. أتأكد من وجودي في الغرفة، في البيت، في المدينة، في الوطن. وقبل قهوة الصباح أؤدي الواجب الاول من عمل النهار: التأكد من أن لبنان لا يزال موجوداً. هذا وطن يتطلب إعادة تأسيس موسمية، لنصلح اضراراً ناتجة عن صراع زعماء ودول مجاورة ودول عظمى قريبة أو بعيدة، ونكتفي، نحن المواطنين، بالتأكد من وجود وطننا لنطمئن على وجودنا.
وجود عابر يليق ببشر عابرين. لا تماثيل ولا مقابر، وربما لا كتب. نسطر يومياتنا على اوراق الأشجار فيسقطها الخريف على التراب وتذروها الرياح. نكتب مؤلفات لقراء مجهولين، للازمان وللامكان، ونعتمد أسلوب التجريد من باب التخفي.
من كابوس النوم المنقضي الى ضوء النهار العابر، رحلة النقائض، مثل بندول الساعة، في انتظار دقات أخيرة أو هجرة.
وقد بقي منا اثنان ليقفا في “ذكرى حبيب ومنزل”. أما “الحبيب” فرحل عن دنيانا في المستشفى نتيجة عطل مفاجىء في البنكرياس. وأما “المنزل” فقد فتش الاثنان عنه في هضبة رأس بيروت فلم يجداه، بل لم يستطيعا تعيين أي من البنايات الشامخة قامت فوق حطامه.
يذكر واحد من الواقفين ان المنزل غرفة مبنية من حجارة رملية، من تلك الغرف التي تتوسط البساتين وتستخدم للاستراحة ولحفظ أدوات المزارع، وأحياناً لمبيت الحيوانات الأليفة،وقد أضيفت اليها غرف أخرى حديثة، فصار المنزل جامعاً لعصرين، ومناسباً للأب الشاعر الذي يحتفظ في صدر غرفة الجلوس بمخطوطة قصيدته الطويلة في مدح عبد العزيز آل سعود حين وحّد الجزيرة.
في ذلك “المنزل” نشأ “الحبيب” على المتغيرات السريعة، العمرانية وغير العمرانية لمدينة بيروت، خصوصاً تلك المنطقة التي اعتاد أهلها تعدد الثقافات فصاروا يرطنون بلغات أجنبية ويعلمون جيرانهم الجدد اللغة العربية. كان “الحبيب” يخوض سباقاً مع المدينة، لكنها سبقته محطمة بيته العائلي ومبعثرة أوراق أبيه، ودافعة به الى الهامش. لكن “الحبيب” واصل التحدي حتى تخرج من الجامعة وتقلد مركزاً في مؤسسة أجنبية، وفي مكتبه الفاخر يستعيد بحنين ذكرى بيته الأبوي.
في ذروة التحدي بين تراث المدينة ومتغيراتها السريعة العمياء، مات “الحبيب”، ووقفنا نبكيه ونبكي المنزل الأبوي، كأنها لم تكن تلك المسافة الزمنية بين الرقدة الأخيرة في المستشفى وحطام المنزل القديم في هضبة رأس بيروت.
ولبنان وطن المتغيرات السريعة، في البناء وفي البشر الذين يسكنون البناء. السكان في بداية الحروب الملتبسة مطلع سبيعنات القرن الماضي، هؤلاء لا تراهم هذه الأيام بل ترى بدائل وفدوا من بلاد مجاورة، والقليل من ابناء وأحفاد لم يهاجروا هرباً من الحروب المتلاحقة.
تلك البلاد التي كانت وطناً حقيقياً لنا، تحترف كتابة نهايتها.
هناك انامل الصيف النارية
تحرق ستائر الغرف
فيرانا الجيران
كما في عرض مسرحي
هل نحن على الخشبة أم الممثلون بثيابهم المستأجرة؟
والصيف لهاثنا حين نصعد الهضبة العالية،
حيث حجارة الكلس
تفحّ أبخرتها في سكون الهواء،
وأشجار الصبار وحدها هناك تجرح صفحة البياض
وهناك أيضا، داخل أسوار الشجر،
وحدها السماء تكسر العزلة،
وحين يتوزع الناس الباقون أملاكهم نفرّ من سجون ريفنا ووعوده المحبطة الى بلاد أبعد.
هل بقي مكان لم يكتشف؟
نمسك بخيط الماء نحو اقامة رجراجة، في مركب يحمله الموج أو يحطمه.
ولكن، ما لنا نشكو العزلة حتى في هجرة تشبه الهرب؟ ليس في العزلة فساد أصليّ، خصوصاً حين يكون ورق الشجر عالمنا، وثمره يجذب العصافير الجاهلة، تنقره وينقرنا.
ولا أحد اليوم يريد بيروت. هناك بدائل لها قريبة وبعيدة. ونستدرك لنقول ان هناك من يفاجئنا بالاصرار على زيارة بيروت وسائر مدن لبنان. انهم المهاجرون القلة المتمسكون بمشاعر الوفاء، يرون لبنان اليوم مثل عميان تقرأ ايديهم النتوءات وقد يدميها اللمس. مثل عميان اطبقوا العيون على رؤية أخيرة.
وهذه البلاد، بلادنا، كما لو أنها بلا صوت ولا حتى موسيقى تصويرية.
سلامنا مصادفة والحرب مصادفة أيضاً، ويبقى بعد المقتلة أحياء يتهيأون لمقتلة جديدة. نعمة النسيان أو نقمة النسيان.