فائق حميصي وحيداًبالإيماء
الحركات ، لا الأصوات . ثمة قدر كبير من الطرق في المسرح ، غير أن الإيماء وإن لم يظهر كشكل ضعيف لدى المسرحيين ، ظهر كما لو أنه نتيجة تحدد العلاقة بالمسرح خارجياً ، لا من خلال تداول المؤدي لحظاته . كل لحظة ترتبط بفكرة القفز فوق المسافات إلى ملامح الشخصية ، مجموع ملامح الشخصية في شخصية المؤدي . مقتضى الأمر الواقع ، أولاً. ثم ، فن يتطور. لا حدوث مختلف إلا من محاولات أبراز ملامح الوجه من خلال دهنه باللون الأبيض ورسم الشفتين عريضتين باللون الأحمر . أو اللون الأسود . هناك شيء يجري انجازه . لكنه ، غير مفهوم حتى لدى العاملين في الفضاء المسرحي . الوجه وجه مهرج . لا مخطوطة للتهريج في عروض الإيماء. يظهر التهريج خفيفاً من المزيج الجديد للملامح . كأن لا ثمة جمالاً تلقائياً. كأن ثمة تصويراً للأداء ، لا أداء . وحده فائق حميصي اندفع في اعتقاده إلى درجة تقديم المفهوم على ما هو عليه بعد أعوام من التقديم اللامتساوي مع فنون المسرح الأخرى . ذلك أن أن الإيماء بقي صيغة غير مقبولة لدى الجمهور العريض ، المسرحيون من هذا الجمهور ، بحيث وجد حميصي يقدم احداثاً لا علاقة لها لا بما قبل المسرح ولا بما بعده . فن الوقت اللامناسب . هكذا ، جاء الأمر . عند فايق حميصي ، هذه طريقته في فعل الأشياء . استمرّ على هذا الأمر وحيداً ، متتبعاً تقاليد الإيماء أولاً . بعدها ، مبتعداً عنها ، حتى احداث هذا الفن في عمليات ما بعد التدريب ، إثر رحلة صعبة في ” غير المرغوب فيه ” بالعموم . وحيداً ، وحيداً ، وحيداً، قدم الرجل الطرق الموضحة لفن الإيماء . ثم ، خرج من عناء المحاولة إلى تطوير الفن هذا ، بالمعنى المهم ، بالمعنى المفهومي ، بإخراج الكامن فيه . ثم ، بخروجه على نتائجه المحددة إلى الملامح المختارة من من لم يتوقف عن ممارسة البحوث والتدريب ، بمقتضاه لا بمقتضى الأمر الواقع ،قافزاً من حالات التحفيز إلى حالات لا تحدث في عمليات التدريب وحدها. هكذا ، وجد حميصي ، هكذا أوجد فناً يرتبط بشكل متماسك بالأكاديميات وبالأوساط الشعبية كفن مثالي ، الهم مؤدين آخرين ، لن يلبثوا أن انضموا إلى المشهد بالإعداد والوجود والتقديم . مغامرة حميصي مغامرة خرجت إلى الفعل من رد الفعل ، خرجت على الفروق ، بدأب رجل نحيل حين استكمل تفسير الفن ، بات فيه لا كما يبيت الطائر في عشه ، كما يبيت القلق في قلقه .

انجز حميصي نوعاً لا تنويعة. نوع موجود في العالم ، لن ينوجد في لبنان . أحد العرضين . عرض الإيماء عرض، عرض المسرح عرض، ولو جاءا من بيت واحد في المغزى والهدف ، لا في النشأة . انعكس الأمر على شخصيته ، بحيث أضحى لا يهتم بتقسيم الكلام حتى على الأصدقاء . وجد في التقييم الكامل للصمت . وجد في طريقة عروضه . وجد صامتا دوماً . سوف يلاحظ من لا حظ ما لاحظه الآخر . إذن ، لا هدر في الكلام حتى في النوايا مع حميصي المعتاد على تحقيق صيغ الآداء في التلفزيون والمسرح . بالتلفزيون ، الكلام على خلفية . بالمسرح الإيمائي لا كلام ولا مؤثرات في المراحل الأولى . قادر على الكلام في التلفزيون ، قادر على النقاش . أبكم في الإيماء . لن يروي قصة إلا بحسده ولو فضل جل العرب الكلام على الصمت، منذ ألف ليلة وليلة وما قبلها . عدم الكلام فتح ، فتوح ، إنجاز ، في مساحة ممكنة ، حولها الرجل إلى مجال . فهم من دون كلام . فهم من استجابة الطرفين ، المؤدي والجمهور . جمهور قليل . جمهور ميزته القلة . بعدها ، أصحى في أفهوم الفعل بالصمت . الإيماء مجال مثير ، بعيداً من الكلام على المنجزات في الشرق والغرب . إظهار لا تظاهر . لا أفخاخ العولمة ولا الحداثة ولا التحديث . حين فهم المشاهدون ما حدث ، حدث أن العولمة ، لم تحدث بصورة بحيث تتيح للعرب المساهمة في صناعة الأحداث . لأنها بقيت بعيدة من عمق أفعالهم . الموقف ببساطة ، ما ساهم العرب منذ الأندلس سوى في اشهار حبهم وتعلقهم بالفضيلة ، الفضائل ، حيث لا تجوز صيغ الجمع إلا بجمع الفضيلة إلى فضائل . حين أن بنك من طلب من دون أن يوضح أن يجوز تعبيره بالتعبير ، لا بالكلام . ذلك أنه لم يفكر سوى بالخروج من تراب الكلام ، مآزقه ، عناصره . واحدة من المآزق حوسبة الإنتاج وعقلنة الإدارة وكوننة الهوية . لا الوقوف أمام العولمة الثقافية . ذلك أن مارسيل مارسو ملهمه في الأوقات الأولى، وجد كساحر بعقلية السحرة في مرحلة ما قبل العولمة . لم يلعن حميصي المسرح الناطق ولم يرجمه، لم يأخذ عليه البطء بالدخول في التطورات الحضارية . ذهب مباشرة إلى التعامل مع ما وجده سنته . الإستاذ في الجامعة، يتكلم في الحياة ، لا يتكلم على خشبة المسرح . اعترف بأنني حين وجدت نفسي في مجالات وجوده في الجامعة اللبنانية / معهد الفنون الجميلة / الفرع الأول ، ما وجدت نفسي في طغيان هذا الفن على أستاذ الأيماء . أستاذ يدعو إلى وضع اليدين في الهواء لكي تظهر اليدان زجاجاً . أو أن تشد اليدان حبلاً بلا وجود . بإسم الحق ، لا شيء من ما قدمه لطلاب الفنون حدد اجزاء من مفاهيمي ومعاييري المسرحية . لا شيء سوى العجز أمام ما يقصده هذا الرجل المطروش الوجه . رجل يرتدي قمصيه المخطط وسالوبيته، حتى يتيح لنفسه أن يمارس حيويته الفكرية من موضوعه النادر ، ومن امتلاك القدرة الدائمة على الجديد ، جديده . والخارق ، خارقه . لكنه ، كلما اندفع أشبع غريب الفن من المعالجة ما راح يجعله مألوفاً . لا بل حديثاً مسرحياً بلا مثلبة . اذن ، نسق من انساق الثقافة في المعيار الخلقي ، من عقل سياسي وجد في الصمت بلوغ درجات البوح القصوى . لزم الأمر شجاعة ، اقدام ، مساهمات ، خروج على الشيفرات ، من الوقوف في الصمت وحده ، إلى الإستعانة بأهل الحقيقة فيه حين راح ينقد المسلمات والثوابت حد العمل كما يعمل الفكر الصامت في صمت المسرح .صمت يريح لأنه لا يذكر بأخطاء الغير في ترداد الكلام . من المعاملة مع مارسو إلى الرؤية مع لي كوك إلى المعالجة مع فائق حميصي . لم أرَ عرض “فدعوس في المدينة” . يحكى عنه الكثير . ألا أنه أضعف من قوة فائق حميصي في الإيماء . أضعف من قوته في أعماله الإيمائية مع نفسه لا مع موريس معلوف . أعمال تلغيم الإيماء بالتأويل الخاص. أولاً ، استيعاب الجسد العربي كجسد رحب لا يُعرِّف، حين يجري على المسرح كما يجري النمل في الدم . انتقل الرجل عندها من اللعب ، من اللعبة ، إلى صناعة اللعبة . جسد قادر على الفعل والإنجاز من منطق تحويلي يقوم على حساسية الجسد العربي في فضاء استراتيجي / عملاني . إبماء ٨٢، ٨٣، بقي في فهمه وتشخيصه ودون هذا الفهم والتشخيص في الآن ذاته . لأنه وقف على ثنائية التفسير والتغيير . التفسير اقل من التغيير بكثير . لم تعد المسألة أن نغير العالم بعد أن كثر الإشتغال بفهمه وتشخيصه ، ولا في تفسيره بعد محاولات تغييره . ذلك أن صاحب الإنتاج صاحب نظرية . اذن ، إلى ثلاثة على خشبة الإيماء . هذه مرحلة . لا أدلوجات طوباوية مع دخول المهمش في نطاق المعقول . عروض الأيدي . عروض المفهوم . لا المعاش. لأنها لا تزل تحتاج إلى الوقت حتى تحمل إلى عقلانية مفهومة . لأن الجديد يبقى غير مفهوم حتى يخرج من محاولاته التوليدية إلى مجالات ضبطه الشامل وعقلنته الكلية . بقيت المحاولة ناقصة، تنقص الزمن لا الثقافة ولا مطابقة الهدف من خلال عقلية التخمين أولاً . ثم ، التضمين . ثم ، الوجود الفعلي ، الفاعل . الأهم أن حميصي فتح سوقاً تبادلية بين الشرق والغرب حين دفع أعماله إلى الإنخراط في ورشاته الفكرية ، لكي يظهر أن الثقافة العربية لم تبتعد عن الإيماء مع الكرجيين والصفاعنة والسماجة . وجد في اجزاء من أشعب الكندي اجزاء من أيماء أيقوني ، ما دفع الكلام إلى كلام على منحى آخر ، لا المراوحة أمام المعطيات الإيمائية كأصنام في بلاد الفرنجة . عند هذا الرجل لا إمبريالية ثقافية ، لأنه لا يهاب الغرب ، لا يهاب عوائق التجديد والإبداع . ما احتاجه ولم يعط له هو الوقت . لأن الوقت قضية اقتصادية .

وجدت نفسي في نزهة ريفية مع استاذي في المعهد يعقوب الشدراوي وفائق حميصي . لعب حميصي مشهداً صامتاً مع عايده صبرا. لعبت مشاهد كادت تصل إلى فوضى الكلام . بقي الرجل في أصله في المسرحية المتكلمة . يبقى دوماً كذلك ، حتى إذا التقينا لا يتكلم مالا يستدعي اعادة النظر لديه . ما يستدعي النميمة من من وجدوه وكلموه ووجدوه غارقاً في الصمت .
