رحيل الأمير بدر بن عبدالمحسن… شاعر الحداثة و”مهندس الكلمة”

تلاقت حروف كلمات الشاعر والأمير الراحل بدر بن عبدالمحسن بين كيل الحب والفتون وسكون الليل والصمت، حتى توالفت أبياته في بحور الغزل والحنين والفراق، وتلمّس بتلك الأحاسيس دواخلنا حتى تبوح بما تخفيه. وما تخفيه العيون

شخصية الأمير الراحل هادئة، ودودة وغامرة بالأحاسيس

استطاع “مهندس الكلمة” أن يستنبطه بكلماته الرقيقة المرهفة حتى آخر نفس.

رحل الشاعر العربي السعودي الأمير بدر بن عبد المحسن وترك خلفه موسوعة شعرية ورحلة مشوّقة، حيث كان شاعراً لا يبحث عن الراحة، بل شارك راحته مع جمهوره وأحبائه وكل من عاصره، وساد بعد رحيله الحزن في قلوب عشّاق الشعر والكلمة والطرب.

عن قصيدته “أرفض المسافة” التي غنّاها الفنان محمد عبده، أهداها الشاعر في إحدى مقابلاته لكل إنسان صادق النيّة يبحث عن حبّ واضح تحت الشمس، حيث قال فيها:

“أرفض… المسافة  والسور والباب والحارس

آه أنا الجالس ورى ظهر النهار

أنفض غبر ذكرى

أرفض يكون الانتظار بكرة

أرفض إني أموت في قلبك

 ومادرى بموتي أحد

حتى أنا…”.

الأمير بدر بن عبدالمحسن أحد أفراد الأسرة الحاكمة وشاعر معروف في المملكة العربية السعودية والشرق الأوسط. ولد في 2 أبريل 1949 في العاصمة الرياض في بيت أدب وعلم. فوالده الشاعر عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود. إذ

ترك خلفه موسوعة شعرية فنية وطربية

عرف والده بمكتبته المتنوّعة من الشعر والأدب ومجالسه بين الأدباء والمفكرين. نشأ الأمير بدر في السعودية ومصر حيث درس المرحلة المتوسطة في الإسكندرية والثانوية في الرياض. وبعد ذلك تابع المرحلة الجامعية في بريطانيا والولايات المتحدة.

يُعدّ بدر بن عبدالمحسن من أهم روّاد الشعر العربي، ساهم في انتشار الشعر السعودي من خلال قصائده التي تغنّى بها كبار الفنانين العرب في مقدّمتهم طلال مدّاح، محمد عبده، كاظم الساهر والفنانة أصالة، عبدالله الرويشد، راشد الماجد وصابر الرباعي، وتعاون مع الكثير من الملحنين أبرزهم سراج عمر، محمد شفيق، سامي إحسان.

عام 2019، نال تكريماً من الملك سلمان بن عبد العزيز حيث منحه وشاح الملك عبد العزيز.

توفي شاعر الحداثة عن عمر ناهز 75 عاماً في العاصمة الفرنسية بعد صراع مع المرض ترك خلفه سيرة حافلة في الشعر من قصائد الفخر والغزل، والواقع الاجتماعي والسياسي وحب الوطن.

تكمن براعة شاعر الإحساس، في تصوير المحسوس وغير المحسوس والقدرة على ابتكار الفكرة أو الصورة الشعريّة بانسيابية وسلاسة، دون تكلّف. فعند الولوج في صياغة النصوص الشعرية لدى الأمير بدر يتبين بوضوح مدى قدرته على وضوح الفكرة وتوحيدها في جميع الأبيات، كأن يكون الشوق العنوان العريض لقصيدة ما وتوظيف كافة عوالم القصيدة لخدمة هذا الغرض.

تميّز شعر الأمير بدر بعدّة خصائص سمحت بانتشار قصائده في الوطن العربي على صعيد واسع، لتتغنّى بها أصوات النجوم العرب. ومن هذه الخصائص إخلاصه لأبيات قصيدته، أي أنه ينطق ما هو مقتنع به، يخلص له، ويصوغه دون جهد أو تعب. شخصيته الهادئة المترويّة جعلت منه شخصاً محبباً ومقرّباً من جمهوره بشكل كبير، الأمر الذي كان واضحاً بعد وفاته على مواقع التواصل الاجتماعي الذي لفّه الحزن عليه، وعبّر جمهوره السعودي والعربي عن حزنه على رحيله.

بالعودة إلى خصائص الشعر لدى الأمير، لا بدّ من التطرّق إلى تلك الطرق التي تعمّد من خلالها الشاعر إلى إنتاج صورة شعريّة متكاملة ترتبط أجزائها ارتباطاً وثيقاً بين الدلالة اللغوية، النفسية، الذاتية، الرمزيّة والبلاغة، التي تتضافر وتختلف بحسب النصّ.

يثبت ذلك في قصيدة “صياح الباب”، حيث يقول:

صياح الباب يكفي لا ظهرت وبكتم صياحي…

لك الله لو تبيني أصرخ حبيبي لاتهج الباب”.

هذا البيت يجمع التوليفة الشعريّة ويستمدّ روعته من إحساس الشاعر وبلاغة اللغة بأسلوب شيّق وكثافة المعنى.

وفي بيت آخر، في نصّه “الوداع نعاس نجم”، يشير الشاعر:

“حبيبي والوداع نعاس نجم والجفن صاحي..

وأحلام الرماد ولفتة تملا الدروب غياب”.

استخدم الشاعر هنا العاطفة الحزينة منسوجة بالخيال حتى يسمح للقارئ أو السامع أن يتصوّر مدى تعبير القصيدة عن الحزن والألم، والمباشرة في الوصف والتعمقّ بالمعنى.

كما تظهر جليّاً حتميّة الرحيل أو الغياب في قصائد الشاعر الراحل، ففي جميع حالاتها دارت بشكل مباشر أو غير مباشر حول الفراق والغياب والحنين. ففي قصيدة “موت وميلاد”، يعبّر الشاعر عن رمزيّة المكان والزمان حيث يربطهما بحضور “المحبوبة” التي يصفها بالشمس، لم يكتفِ بهذا الوصف المتجذّر بل أعقبه الشاعر إلى ترابطه مع حواسه وذهنه وذهوله، بقوله:

“ف عيني تغيب الشمس.. وتشرق اف عيني…

في ناظري للشمس.. موتٍ وميلاد”.

وبالانتقال إلى الحداثة في نصوص الشعر لدى الشاعر الراحل، فقد مالت أبياته إلى الفرادة والتنوّع، فهي بمثابة خلاصة خاصة بالشاعر لا تشبه سوى كاتبها، كعلامة أو إشارة خاصة به؛ الأمر الذي أكسبه مكانة شعريّة في الوسط الثقافي السعودي والعربي.

لطالما أعرب الشاعر الراحل عن تجنّبه الكتابة بالفصحى واعتبر أن اللهجة العامية مفتوحة مع العلم أن للشاعر تجارب عديدة باللغة الفصحى، الأمر الذي أشار إليه الأمير خلال لقائه الأخير إبان معرض الرياض الدولي للكتاب 2023. ما أوضح براعته في الشعر الحديث، حيث اعتدنا أن يتجنّب شعراء الحداثة لغة واحدة أو التزاماً بقواعد اللغة الفصحى التي قد تقيّد أو تحكم أبيات قصائدهم، رغم ذلك فقد أبدع الشاعر الراحل في التعامل مع اللغة الفصحى، كما فعل مع العامية، وتجربته في كتابة أوبريت “فارس التوحيد” عام 1999، أثبتت ذلك.

وتجدر الإشارة إلى أن الراحل في إحدى مقطوعاته الشعريّة في الأوبريت عبّر عن حزنه على فلسطين، حيث يقول:

“ينساب في عروق

نهرٌ من النخيلْ

يفيض في المآقي

حزناً على الخليلْ”.

وبالإشارة إلى مرونة أبيات قصائد الأمير بدر وبعدها عن التفاخر بالذات، فقد عمد إلى استخلاص القصيدة على أنها نتاج وفيض من المشاعر تروي الأحداث كما لم يروها أحد من قبل.

عبّر بقصائده في أحيان كثيرة عن حبّه وإخلاصه لوطنه، ولقّبه الأمير خالد الفيصل بـ”بأنشودة الوطن”. فقصائده الوطنية

الأمير بدر بن عبدالمحسن

حيّة، كأنشودة “فوق هام السحب” التي لها رمزيّة خاصة لدى السعوديين ويردّدونها في جميع المناسبات والمحافل الوطنية، إضافةً إلى “سيوف العز”، “حدثينا يا روابي نجد”، و”عزّ الوطن”.

وقد كان شاعر الفؤاد قد عبّر عن مكنونه الذاتي قبل بضعة أيام من رحيله على منصة “إكس”، وشاركها مع متابعيه:

“الناس ما همَّها ظروفكْ

كود الذي يحزن لغمّكْ

وإن شلت حملك على كتوفكْ

بتموت ما احدٍ ترى يمّكْ”…

حرص عدد كبير من الفنانين والإعلاميين والشخصيات الثقافية على نعي الأمير، وأعربوا عن حزنهم لرحيله، واستذكر البعض منهم مواقفَ جمعتهم به. فقد شارك الفنان الإماراتي حسين الجسمي صورة تجمعه بالأمير عبر حسابه الرسمي في “إكس”، وكتب: “ما يوجع الفقد… لكن توجع الذكرى”. بدورها كتبت الممثلة الكويتية هدى حسين: “وغاب البدر.. إنا لله وإنا اليه راجعون”. كما كتبت الفنانة المصرية آمال ماهر: “بقلوب متألمة ننعى وفاة صاحب السمو الأمير بدر بن عبدالمحسن.. إنا لله وإنا إليه راجعون”.

صورة تجمع الملك سلمان بن عبد العزيز متوسطاً الأمير خالد الفيصل والأمير بدر بن عبدالمحسن

ومنذ خبر وفاته، تصدّرت أغنية “المسافر” التي كتبها الشاعر الراحل وغناها الفنان راشد الماجد، مواقع التواصل الاجتماعي، الذي قال بدوره: نحتاج إلى شهور للحديث عن الأمير بدر بن عبد المحسن وحلقة طويلة، فهو كان إنساناً وشاعراً عظيماً”.

إن وداع شاعر الإحساس ومهندس الكلمة ليس سوى محطّة أخرى نستذكر بها فواصل أعماله وباكورة إنتاجه الفنّي والشعري اللذين أثريا المكتبة العربية. وهذه التجربة لا يمكن اختصارها ببضعة أسطر لامعة بل حكاية الأمير بدر موسوعة شعريّة لن ينطفئ وهجها مع الزمن.