لا سبب على وجه الأرض يدعو إلى الإعتقاد ان نجمة الستينيات في المسرح والسينما والتلفزيون ، سوف تغوص في قرار جديد قوامه العذاب . لن يخطر على بالها إنها ستقع في الإحتمالات . أبرزها المجهول . لم تستجدي احداً حين وجدت نفسها في مركز الإيواء . آخر المساحات مركز الإيواء. أو المصحة . لأن الفقر استبدّ بها . كما استبدت بها الوحدة ، بعد أن حصلت اوقاتاً ثمينة ، مهدورة ، وهي تحيي جمهورها في لحظات ، تعين عليها فيها أن تهرع خارجاً لتفادي إيماءات الشكر . إيماءات لا تفوت . ولكن الحياة ، لا ما تراه العيون وسط الأجمة . الحياة ، ما يفوت الحياة في الحياة ، على طريق لا
يعرف احد كيف يكبح أمياله ، ولو ظن عكس ذلك . هذه امرأة مقصورة . مقصورة زرقاء . مقصورة يخرج منها الفنانون بعمليات تنكر تدهش المشاهدين ، حين يختارون اللحظات المناسبة .
مقاصير زرقاء . هؤلاء هم الفنانون والفنانات . يقفزون من أنفسهم ، ليتدربوا على الغرق في انفسهم بواحدة من الإضمارات العجيبة بينهم وبين أنفسهم . لا يفون إنفسهم إلا إذا تدربوا على أن يغرقوا ، لا على السباحة . تراجيديا كتراجيديا شجرة الكرز ، حين تثمر وحين تفقد ثمرها ، بعد أن توكل نفسها للشعراء لا للفلاحين ، من يسقونها شعراً يحيي ، كما أن الماء تحيي . تحت أشجار الكرز يتحول الغرباء أصدقاء. هايكو ياباني . رينيه الديك واحدة من شجرات الكرز المنذورة للشعر لا الماء ، بعد أن وجدت بالماء ما يشوهها . بعد أن وجدت بالماء شغورها.جسورة بالخروج من حفن اليد، يدها ، بالأحلام ، مذ وجد المواطنون بالفن ما يتبادله المجروحون ، لا وجع التعاريق ، لا ذرات الوجع بالأرواح تتناثر بالنفس كما يتناثر الطحين لأجل العبور الى المشيئة . مشيئة تنبع من الشك نفسه . إذن، سقاية بالشعر لا بالماء . هذا خيارها وهي تجسد الأضواء بالظلال. ذلك أن الماء يشوه. يرهق الماء العظام المرهقة بصوت البنفسج بالعظام . اختفاء وراء البنفسج في مرحلة . ثم ، خوف من البنفسج ، في وحدة كأنها القاع صاعداً بقليل من ما يقاومه بضراوة .إنها جزء من حركة حداثة المسرح في لبنان ، بعد مرحلتين . مرحلة مارون النقاش . ثم ، مرحلة الإرساليات و الهواية والمحاولات المتنسكة بالعالم الجديد . شامل ومرعي من هؤلاء المتنسكين . محمد كرَّيم . مضى من مضى منهم بعينين مغمضتين وبفؤاد مفتوح على الصفاء قطرة قطرة ، حتى آخر قطرة . رينيه الديك ، بخطواتها على الطريق ، لم تحس سوى بالطيب . الطيب كيفما طاب وهي تحسم أمرها حين تمسكت بعنق مدرسة المسرح الحديث مع منير أبو دبس . أبو الحداثة
المسرحية بعد وقوع الجمهورية اللبنانية في تغيراتها الجذرية.استسلمت لضرورة الشي، مذ وجدت في “الذياب ” لجان بول سارتر ، واحدة من عروض التحول التدريجي إلى المسرح المحترف . ثم ، في الإزميل . مسرحية لا يزال الماضي يعتمد عليها . تحديث في حلقات اتصال على طريق النهوض والنهضة في سلسلة من عمليات عصرنة المجتمع .
مذ وجدت رينيه الديك في هبوب المسرح وجدت بدون انتهاء ، اذ تغلغل المسرح في مسامها حتى وجد جاثماً عليها بثقل هائل . وحين ادركت جبن الزمن ، وجدت نفسها معرضة إلى مضايقات الحنين ، حنين يجلله الشعور بالخذلان ، حين لم يعد الوجود مهمة يسيرة أمام أشجار الكرز . لا شجر . إذن ، لا كرز . إذن ، لا ارتفاع شجر على أرضية كأنها فارقت الحياة، مذ ماعاد الشعر يروي أشجار الكرز في القصائد وخارجها . لمَّ الظلام العالم فجأة . لم الظلام الفن والفنانين ، المسرح والمسرحيين، حين انتبهوا إلى أن الاشجار المروية بالماء تبقى عند المضائق لا في المساحات الواسعة ولا الساحات ، من يقف بها المنبوذون لكي يحتموا من الإحباط ومن الدنس . أو من يراه الآخر دنساً ، حين أنه في واقع الحال تفان وانتماء . قادت الصفتان الأخيرتان السيدة ذات قَصَةِ الوجه الكلاسيكية ، قصة تقف فوق عنق من الكمال ، إلى رحلة من المضايقات والأمزجة ذات النعرات الفتاكة . إذ أن المسرحيين في زمن مشورات الشك ، لم يروا إلا كعظاءات عجيبة تدور على حواف أرواحها . لا مجموعات من الفدائيين ، من وهبوا حيواتهم ضد الفوضى المسترخية والمستريحة بأنحاء البلاد. واجهة رينيه الديك واحدة من لحظاتها بجعل الرأس خالياً ، لكي تلعب دور السيدة في ” الخادمتان ” لجان جينيه . مضى زمن حينها ، على آخر مواجهاتها في المسرح . شاهدها جواد الأسدي في ثقب كلام أحد الأصدقاء . علق عليها الأمال من جوليا قصار ورندة الأسمر . تلك واحدة من مشاعل المدينة حين امتلكت القوة على
تجاذب أطراف الحديث مع الأمل المحموم بقيام لا تنكسر عجيزته بتعقيدات الأوقات الممتلئة بالقلق . لم تعرف سوى تمارين الصباح وتمارين المساء وفروض الظهيرة ، منذ أن قصدت محترف أبو دبس في النصف الثاني من القرن الماضي ، لكي تقف على ترقوة المسرح ، ما وجدته نافذة مفتوحة على سقف غريب ، عجيب ، مدهش . لا عذر لها مذ وجّهت إلى “المدرسة”/ المحترف محير الأوساط .لأن من يقصد المسرح في زمن القحة المسيطرة على من ينحتون وجود المسرحيين من نحتهم ثم نحرهم ، من نحتهم بصورة ” أرتيست ” ، بابتعاد هذا الوصف عن النعم. لا يزال الفنان في الجمهورية اللبنانية ارتيستاً ، كأنه لا يقوم أمام الآخر إلا بالجلوس على فراشه أو مشاركته البراندي وهو يتقافز على قدميه . لا يزال الوصف يطأ الفنان من دون انتزاعه من رجال الجمهورية . وزارة الثقافة. ثم ، الوزارات الأخرى . ثم ، المؤسسات على منعطفات الوقت . لا عذر للفنان ما دام يحيط نفسه بفوات الأوان وهو يقف على مستوى لحظته لا على مستوى العقول الخالية سوى من الذعر . لا عذر لفنان يعلم بأن الطنين سوف يحيط به كلما ظهر على منصة بنوع من ذاته السابقة على ذاته الحالية ، ما يراه المتفهمون ورقة من أوراق العبث عبث رزين . عبث يرفرف حتى يتهوى مرفرفاً على الأرض حتى ليكاد يختنق . وكأنه إنما يرضى بالقضاء على نفسه نهائياً .
تصعد رينيه الديك بحراشفها لا بيديها وقدميها على المنصات . ذات سابقة في ذات مؤلفة . جولات في معارض صغرى ، جولات في معارض كبرى . قدرة على عدم الإكتراث إلا بالبينات الشخصية . لا عذر، لأنها ارادت أن تبقى كرزة على شجرتها ، كرزة وفية لدراق المسرح على شجر لا تهمه التقارير ولا التحديدات . اختيار المسرح إختيار العشب الأكثر بللاً بالسوء بذلك الزمن ، حيث تفرق ملوك المسرح وملكاته في المقاهي وهم يبحثون عن دخانهم في مداخنها . لا تزال رينيه الديك “أرتيست ” مذ ستين أو سبعين عاماً( توفيت وهي في الخامسة والسبعين من العمر ) . لم تتقدم خطوة واحدة في سجلات الدولة . زربوها في هذا الوجع منذ بداياتها. لم تقدر لها نهايات أخرى. بقيت بالوصف لا بجواره . أوجدها الوصف كوثن. لا كامرأة مكافحة من أجل خدمة اللقطات المملؤة بالحركات الجسدية والروحية ، كمنصة لا كدخيل رقمي . إنها مؤسسة في جيل مؤسسين طفش خلف عابري الطرقات لكي يقنعوهم بأن الأداء لا علاقة له بتبديل الملابس . بالمسألة هذه تمام قدرها، أقدارها . لأن قدر المسرحي أقدار . واحد من الأقدار هذه أن يساوى بين الفنان وبين بائعات أو خادمات اللذة في الكباريهات . دخلت السيدة في وادي النوم وهي لا تزال تدفع ضرائبها لوزارة المال بوصفها “
أرتيست”. بوصفها إمرأة تدلل على نفسها بالرذيلة ،لا متع الحلول على المسرح كما تحل الإنبلاجات وما يليها . هذه هي الأرتيست بتقارير وزارة الداخلية . ولكن وقوف الفتاة الصغيرة ذات الملامح الأرستقراطية المحيطة بخصرها ووجهها على السواء ، أفاق من جاء من الأجيال بعد الأجيال على ديك مؤسس . أو ساهم في التأسيس. والمراكمة بأعمال نوعية لا أعمال بائسة . جسد نحيل ، وجه مشرق أمام الحالات . وجه التزم بالورد في صلح الحدائق . حين وجدت على منصة مهرجانات بعلبك ، تحت قوس القلعة التاريخية ، المهددة بالعدوان الصهيوني اليوم ، في ” الذباب ” ما عاد المسرح صفر اليدين بوجود من وجدوا الحكمة والغفران في نصوص وحلول من ذرعوا المنصات جيئة وذهاباً خلف الأمور الوليدة ، من رضى خوري إلى نضال الأشقر ومادونا غازي وريمون جبارة وأنطوان ملتقى ولطيفة ملتقى وروجيه عساف وجلال وشكيب خوري وإلياس إلياس وأنطوان كرباج وغيرهم وغيرهن من من هبوا إلى هذه الجدارية الجديدة ، حيث يستطيع مؤخر الغرفة أن يعود إلى الباب في أفعال السحر المسرحي . كتائب مسرح لا كتائب لا هم لها سوى إنهاء المواضيع بقسمة السلطة والمال في السياسة . بين الطبقين يضيع طباق الخدع .حبات كمأ ، هن سيدات المسرح ، لا ينضجن سوى بالبرق والرعد . نلن وافر النصيب من البرق والرعد الإجتماعيين وهن يكافحن العلة بالأمل والهمجية بصعقات الوقوف على التدارك لاالإستعراض. لم ترخي ذات الوجه الكلاسيكي المقصوص على أحكام الجمال والبطولة قبضة يدها منذ حملها حمامها الزاجل إلى مدرسة المسرح ومهرجانات بعلبك . لم ترتعش خزياً، حين وجدها المجتمع بالخزي . عاملو المسرح وعاملاته ، يصعدون إلى السماء القاحلة إذا صعدوا ، على الآمهم المتشردة في ظلالهم المحتجزة بوجهات النظر الجاهزة ، المشغولة على أن الجمع بالمسرح جماع . لم تخشى هذه السيدة النحيلة أن تقع في هوى السنبلة ، هوى قمحها لا اقساط الركام . قبضتها لينة. ولكنها لا ترتخي وهي تهرب من الطوالع إلى الإستقصاء ومن العطف والإستعطاف إلى محو الصور القديمة ، الدارجة ، ومحوها . فكرتهن واحدة .أن المسرح أرض تدور حول الشمس وتهب العالم شجره . بين الشجرات شجرة كرز وشجرة دراق ، شجرتان من اكثر شجرات العالم حزناً . شيء محكم على شيء محكم على شيء محكم . احتمت بصبرها ، احتمت بصبر عظيم وهي تفشي حضوراً، إذا أقلق البشر لم يقلق الله. ثمة كلام لم يذلل بعد في مسيرتها : تِرسة السفر مع زوجها إلى تونس وما حدث هناك . هناك ، سقطت بعض أوراق الشجرة على أيام خريف غريب . حدث ما لا يزال بالسر في حقيقة الأمر . اذاك ، انتزع زوجها كل رغباتها بالقتال . زجت بالسجن على رواق عار ، بارد . ولكنها ، حين عادت لم تعد لنفسها . عادت إلى العالم من الرأس على عقب إلى أن ترمقه بالبأس وهي تمد يد الصداقة اليه من جديد . تناثرت الأفكار على الأرض كورق الشجر بالخريف، حين انتهى الأمر بأسره بالعودة إلى القصة بعد وداعها . انها امرأة تناسب الدفوع في وجه الإتهامات . هناك ، بالجهة القرناء ، بعدٌ، خيالٌ، زواجٌ، فراقٌ، فرق شرط، عطف ولا عطف يصعد من منارة في غور غائر لا يشاهد إلا بصعوبة قصوى .بيد أنها لمّّا عادت بدون شطف الألغاز من جسدها ، إنما عادت لتسطر سيرة أقرب إلى هدية الشجر للناس . ورق الشجر هدية الشجر على نحو لا يشعر فيه الطرفان إلا بالود . هدية ودود . هدية إلى العالم الواقف على هبوب ورقة . سطرت مسيرة فواحة بالأدوار الصعبة . أدوار ، كل دور أم . دور إذا انكسر مع رينيه الديك لا يصلحه من يصلح الكسر بعادي الأوقات . لم يهبها أحد شيئاً ، حين وهبت العالم دمها اللامبالي إلا بالفضاءات المسرحية وكواليس السينما والتلفزيون . هذا شيء لا يوضع بين هلالين . كما لا توضع بين هلالين جرأتها بوقوفها عارية أمام طلاب معاهد الفنون . موديل تذعر أمامه الأفكار التقليدية والسلفية . هذه سيدة كتبت بالكلمات البسيطة حلولاً لمجموعات من المعاضل . لن تقطن الذعر من التعري لأجل هدف يحتم تقديم الجسد بعيداً من الشهوة ، قريباً من التحسس الفريد . جسد يؤخذ بالعيون لا بالأنامل . كما أُخِذ جسدها على المنصات المسرحية وهو يصخب في بحثه عن الطرق المفقودة على خارطة الجمهورية الأولى ، على أوربانيسمه أو مخططه التوجيهي البدئي . هذه السيدة رسامة من رسامي ورسامات مخطط المدينة التوجيهي الأول ، حيث يقود المخطط إلى الخروج من التبديدإلى التسديد ، من الفوضى إلى انتظام النظام بالرؤى. ثم ، بالعمارة . العمارة بصميم العادي ، حين أن الرؤية فؤاد لا أدراج من التردد أمام الهويات . كل مشاركة في مسرحية جلدٌ، عافية ، وصول إلى حسم الهياج أمام شرع الفوضى . إننا أمام نفس لم يغمد ، للوصول إلى شكل لا يرشى ، هو شكل المسرح كواحد من أمداء المدينة لا جرح من جروحها . الجائعة للمسرح بقيت تنبض على طريق المسرح . كل نبضة نموذج بالغ التعقيد من الأحرف والجمل المتحركة والساكنة.مذاك بدا لون ” المستنقع ” جميلاً”. جماله من أن تؤدي الحواس أشغالها بسعادة، كسعادة استنشاق الهواء إذا عَّز . هواء رينيه الديك من جوها المختلف عن جو غريب يتصف به مكان لم يزره أحد من قبل . جمال بشكل مفرط ، خلق بصور مثالية لأدوار ترضي العين الناشدة الكمال في مجموعة من المسرحيات : الإزميل ، الملك يموت ، علماء الفيزياء ، رملوس الكبير ( اخراج شكيب خوري ). وغيرها . ثم أنها وجدت في مسرح زياد الرحباني منطقة جذابة . هكذا ، شاركت في ” فيلم أميركي طويل “. إلا أن نظامها الفائق بالآداء وجد مكثفاً في دور السيدة في مسرحية”الخادمتان “. لعبٌ على لغة مختلفة هي لغة جينيه . حشدت الديك بالشخصية مظهراً غير مظهرها ، مظهراً بدائياً، مظهراً قاسٍ، خشنٍ، إلى قوائم من الطباع الهستيرية . ظهرت منفرة بجمال غريب ، قام على دراسات وتمارين شاقة. .
نجاح منصف لم يستكمل ، لأن ممثلي المسرح وممثلاته لا يجدون بالاشغال التلفزيونية افعالهم . هكذا ، شرع كل ما هو غير مجد يغرق رينيه الديك في اللامتغير ، سوى باهتمامها بقططها من تذوقت معها كل ما هو بعيد من النكوص . لم تؤاخذ القطط ولم توآخذها وهي تتبادل حفنات الصبر على أوضاع البلاد . ذاب الصوان بالغنج المتبادل بين المخلوقات هذه وسيدة، لم تجد ملحها الأخير إلا في هذه المخلوقات . كل مخلوق قبلة، يرفع آخر المزاليج عن حياة ثرية ما أصابها الفقر إلا لدى من لا يجدون الإعتدال بالكلام على أحوال الفنانين . رينيه الديك يائسة لا شحاذة . تبعت الريح كما تبعها رفاقها ورفيقاتها ، من أدركوا أن العثرات كثيرة على طريق الفن . تكبدت ما تكبدته وهاهي وجدت قاربها للعبور من الحرب إلى المجد ، من الخيال إلى الخيال . الموت حماقة . غير أنه حماقة لا اعتذار عنها . لو استطيع أن أؤنب الحبر وهو يرثي الأصدقاء والصديقات ، واحداً بعد واحدة ، بعد أن شاهدت الله مذعوراً من أعدادهم وهم يقطرون بالموت كما يقطر الدم على جسد القتيل .
ثلاث سنوات على غيابها ، ثلاث ضربات عنيفة إلى ضربات الجمهورية وهي تواصل هجومها على جمهورها .